قوله تعالى : { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك } الذي قالوا ، وأفضل من الكنز والبستان الذي ذكروا ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : يعني خيراً من المشي في الأسواق والتماس المعاش . ثم بين ذلك الخير فقال : { جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً } بيوتاً مشيدة ، والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم برواية أبي بكر : ويجعل برفع اللام ، وقرأ الآخرون بجزمها على محل الجزاء في قوله : إن شاء جعل لك .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشمهيني ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن أحمد ابن الحارث ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن أيوب ، حدثني عبد الله بن زخر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن أبي عبد الرحمن ، عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ، وقال ثلاثاً أو نحو هذا ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " .
حدثنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي ، أنبأنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الصالحاني ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ ، أنبأنا أبو يعلى ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا أبو معشر عن سعيد يعني : المقبري ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب ، جاءني ملك إن حجرته لتساوي الكعبة ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول : إن شئت نبياً عبداً ، وإن شئت نبياً ملكاً ، فنظرت إلى جبريل فأشار إلي أن ضع نفسك ، وفي رواية ابن عباس ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كالمستشير له ، فأشار جبريل بيده أن تواضع ، فقلت : نبياً عبداً قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً يقول : آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد .
وينهي هذا الجدل ببيان تفاهة ما يقترحون وما يتصورون من أعراض الحياة الدنيا ، التي يحسبونها ذات قيمة ، ويرونها أجدر أن يعطيها الله لرسوله إن كان حقا رسولا ، من كنز يلقى إليه ، أو جنة يأكل منها . فلو شاء الله لأعطاه أكبر مما يقترحون من هذا المتا ع :
( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك : جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويجعل لك قصورا ) .
ولكنه شاء أن يجعل له خيرا من الجنات والقصور . الاتصال بواهب الجنات والقصور . و الشعور برعايته وحياطته ، وتوجيهه وتوفيقه . . وتذوق حلاوة ذلك الاتصال ، الذي لا تقاربه نعمة من النعم ، ولا متاع صغر أو عظم . وشتان شتان لو كانوا يدركون أو يتذوقون !
ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه لو شاء لآتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن ، فقال [ تعالى ]{[21406]} { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } .
قال مجاهد : يعني : في الدنيا ، قال : وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا ، سواء كان كبيرا أو صغيرا{[21407]} .
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن خَيْثَمَة ؛ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ، ولا يُعطى أحد من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله ؟ فقال : اجمعوها لي في الآخرة ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } {[21408]} .
وقوله : تَبارَكَ الّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتَها الأنهَارُ يقول تعالى ذكره : تقدس الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك .
واختلف أهل التأويل في المعنىّ ب«ذلك » التي في قوله : جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلكَ فقال بعضهم : معنى ذلك : خيرا مما قال هؤلاء المشركون لك يا محمد ، هلا أوتيته وأنت لله رسول ثم بين تعالى ذكره عن الذي لو شاء جعل له من خير مما قالوا ، فقال : جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تَبارَكَ الّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ خيرا مما قالوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : تَبارَكَ الّذِي إن شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ قال : مما قالوا وتمنّوا لك ، فيجعل لك مكان ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار .
وقال آخرون : عُنِي بذلك المشي في الأسواق والتماس المعاش . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، فيما يرى الطبريّ ، عن سعيد بن جُبر ، أو عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : تَبَارَك الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلِكَ من أن تمشيَ في الأسواق وتلتمس المعاش كما يلتمسه الناس ، جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيجْعَلْ لَكَ قُصُورا .
قال أبو جعفر : والقول الذي ذكرناه عن مجاهد في ذلك أشبه بتأويل الاَية ، لأن المشركين إنما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها وأن لا يُلْقى إليه كنز ، واستنكروا أن يمشي في الأسواق وهو لله رسول . فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير ما كان عند المشركين عظيما ، لا مما كان منكرا عندهم . وعُنِي بقوله : جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ بساتين تجري في أصول أشجارها الأنهار . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ قال : حوائط .
وقوله : وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورا يعني بالقصور : البيوت المبنية .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : قال : أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَيجْعَلْ لَكَ قُصُورا قال : بيوتا مبنية مشيدة ، كان ذلك في الدنيا . قال : كانت قريش ترى البيت من الحجارة قصرا كائنا ما كان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : ويَجْعَلْ لَكَ قُصُورا مشيدة في الدنيا ، كل هذا قالته قريش . وكانت قريش ترى البيت من حجارة ما كان صغيرا قَصْرا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب قال : قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك من خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يُعْطَ نبيّ قبلك ولا يعطى من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله تعالى ؟ فقال : «اجْمَعُوها لي في الاَخِرَةِ » فأنزل الله في ذلك : تَبارَكَ الّذي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورا .
وقوله تعالى : { تبارك الذي } الآية رجوع بأمور محمد صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى ، أي هذه جهتك لا هؤلاء الضالون في أمرك ، والإشارة في ذلك قال مجاهد هي إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا ، وقال ابن عباس هي إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق ، وقال الطبري والأول أظهر .
قال القاضي أبو محمد : لأن هذا التأويل الثاني يوهم أن الجنّات والقصور التي في هذه الآية هي في الدنيا وهذا تأويل الثعلبي وغيره ، ويرد ذلك قوله تعالى بعد ذلك { بل كذبوا بالساعة }{[8784]} [ الفرقان : 11 ] والكل محتمل ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحفص ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي «ويجعلْ » بالجزم على العطف على موضع الجواب في قوله { جعل } لأن التقدير «تبارك الذي إن يشأ يجعل » .
وقرأ أبو بكر عن عاصم أيضاً وابن كثر وابن عامر «ويجعلُ » بالرفع والاستئناف ، وهي قراءة مجاهد ، ووجوه العطف على المعنى في قوله { جعل } لأن جواب الشرط هو موضِع الاستئناف ، ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط ، وقرأ عبد الله بن موسى وطلحة بن سليمان «ويجعلَ » بالنصب وهو على تقدير «أن » في صدر الكلام ، قال أبو الفتح هي على جواب الجزاء بالواو وهي قراءة ضعيفة ، وأدغم الأعرج { ويجعل لك } وروي ذلك عن ابن محيصن ، و «القصور » البيوت المبنية بالجدرات قاله مجاهد وغيره ، وكانت العرب تسمي ما كان من الشعر والصوف والقصب{[8785]} بيتاً ، وتسمي ما كان بالجدرات قصراً لأنه قصر عن الداخلين{[8786]} والمستأذنين .