قوله تعالى : { وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم } يعني : شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم ، أي : أصابكم الشؤم من قبلكم . وقال ابن عباس و الضحاك : حظكم من الخير والشر ، { أئن ذكرتم } أي : وعظتم بالله تطيرتم بنا . وقرأ أبو جعفر : ( ( أن ) ) بفتح الهمزة اللينة ( ( ذكرتم ) ) بالتخفيف ، { بل أنتم قوم مسرفون } مشركون مجاوزون الحد .
ولكن الواجب الملقى على عاتق الرسل يقضي عليهم بالمضي في الطريق :
فالقول بالتشاؤم من دعوة أو من وجه هو خرافة من خرافات الجاهلية . والرسل يبينون لقومهم أنها خرافة ؛ وأن حظهم ونصيبهم من خير ومن شر لا يأتيهم من خارج نفوسهم . إنما هو معهم . مرتبط بنواياهم وأعمالهم ، متوقف على كسبهم وعملهم . وفي وسعهم أن يجعلوا حظهم ونصيبهم خيراً أو أن يجعلوه شراً . فإن إرادة الله بالعبد تنفذ من خلال نفسه ، ومن خلال اتجاهه ، ومن خلال عمله . وهو يحمل طائره معه . هذه هي الحقيقة الثابتة القائمة على أساس صحيح . أو التشاؤم بالوجوه ، أما التشاؤم بالأمكنة أو التشاؤم بالكلمات . . فهو خرافة لا تستقيم على أصل مفهوم !
يعني أترجموننا وتعذبوننا لأننا نذكركم ! أفهذا جزاء التذكير ?
تتجاوزون الحدود في التفكير والتقدير ؛ وتجازون على الموعظة بالتهديد والوعيد ؛ وتردون على الدعوة بالرجم والتعذيب !
فقالت لهم رسلهم : { طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ } أي : مردود عليكم ، كقوله تعالى في قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } [ الأعراف : 131 ] ، وقال قوم صالح :{[24707]} { اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ } [ النمل : 47 ] . وقال قتادة ، ووهب بن منبه : أي أعمالكم معكم . وقال تعالى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } [ النساء : 78 ] .
وقوله : { أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } أي : من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، قابلتمونا بهذا الكلام ، وتوعدتمونا وتهددتمونا ؟ بل أنتم قوم مسرفون .
وقال قتادة : أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ، بل أنتم قوم مسرفون .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ طَائِرُكُم مّعَكُمْ أَإِن ذُكّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ * وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىَ قَالَ يَقَوْمِ اتّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ * اتّبِعُواْ مَن لاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مّهْتَدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت الرسل لأصحاب القرية : طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أئِنْ ذُكّرْتُمْ يقولون : أعمالكم وأرزاقكم وحظّكم من الخير والشرّ مَعكم ، ذلك كله في أعناقكم ، وما ذلك من شؤمنا إن أصابكم سوء فيما كتب عليكم ، وسبق لكم من الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ : أي أعمالكم معكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس ، وعن كعب ، وعن وهب بن منبه ، قالت لهم الرسل : طائِرُكُمْ مَعَكُمْ : أي أعمالكم معكم .
وقوله : أئِنْ ذُكّرْتُمْ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار أئِنْ ذُكّرْتُمْ بكسر الألف من «إنْ » وفتح ألف الاستفهام : بمعنى إن ذكرناكم فمعكم طائركم ، ثم أدخل على «إن » التي هي حرف جزاء ألفَ استفهام في قول بعض نحويّي البصرة ، وفي قول بعض الكوفيين منويّ به التكرير ، كأنه قيل : قالوا طائركم معكم إن ذُكّرتم فمعكم طائركم ، فحذف الجواب اكتفاء بدلالة الكلام عليه . وإنما أنكر قائل هذا القول القول الأوّل ، لأن ألف الاستفهام قد حالت بين الجزاء وبين الشرط ، فلا تكون شرطا لما قبل حرف الاستفهام . وذُكر عن أبي رَزِين أنه قرأ ذلك : أئِنْ ذُكّرْتُمْ بمعنى : ألأِن ذُكّرتُم طائركم معكم ؟ . وذُكر عن بعض قارئيه أنه قرأه : «قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أيْنَ ذُكِرْتُمْ » بمعنى : حيث ذُكِرتم بتخفيف الكاف من ذُكِرْتم .
والقراءة التي لا نجيز القراءة بغيرها القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ، وهي دخول ألف الاستفهام على حرف الجزاء ، وتشديد الكاف على المعنى الذي ذكرناه عن قارئيه كذلك ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أئِنْ ذُكّرْتُمْ : أي إن ذكّرناكم اللّهَ تطيرتم بنا ؟ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ .
وقوله : بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ يقول : قالوا لهم : ما بكم التطَيّر بنا ، ولكنكم قومٌ أهل معاص لله وآثام ، قد غلبت عليكم الذنوب والاَثام .
وقولهم عليهم السلام ، { طائركم معكم } ، معناه حظكم وما صار إليه من خير وشر معكم ، أي من أفعالكم ومن تكسباتكم ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وكفركم ، وبهذا فسر الناس ، وسمي الحظ والنصيب طائراً استعارة أي هو مما تحصل عن النظر في الطائر ، وكثر استعمال هذا المعنى حتى قالت المرأة الأنصارية : فطار لنا ، حين اقتسم المهاجرون ، عثمان بن مظعون{[9780]} ، ويقول الفقهاء : طار لفلان في المحاصة كذا وكذا ، وقرأ ابن هرمز والحسن وعمرو بن عبيد «طيركم معكم » ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر «أإن ذكرتم » بهمزتين الثانية مكسورة على معنى أإن ذكرتم تتطيرون ، وقرأ نافع وأبوعمرو وابن كثير بتسهيل هذه الهمزة الثانية وردها ياء «أين ذكرتم » ، وقرأ الماجشون{[9781]} «أن ذكرتم » بفتح الألف{[9782]} ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «إن ذكرتم » بكسر الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وزر بن حبيش «أأن ذكرتم » بهمزتين مفتوحتين وشاهده قول الشاعر : [ الطويل ]
أأن كنت داود أحوى مرجلاً . . . فلست براع لابن عمك محرما{[9783]}
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعمش «أينْ ذكَرتم » بسكون الياء وتخفيف الكاف .
قال القاضي أبو محمد : فهي «أين » المقولة في الظرف ، وهذه قراءة أبي جعفر وخالد وطلحة وقتادة والحسن في تخفيف الكاف فقط{[9784]} ، ثم وصفهم بالإسراف والتعدي .