ويشير السياق إلى سمة أخرى من سمات المجتمعات الفاسدة ؛ وهو يستنكر سكوت الربانيين القائمين على الشريعة ، والأحبار القائمين على أمر العلم الديني . . سكوتهم على مسارعة القوم في الإثم والعدوان وأكل السحت ؛ وعدم نهيهم عن هذا الشر الذي يتسابقون فيه :
( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ! لبئس ما كانوا يصنعون ! )
فهذه السمة - سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان - هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار . . وبنو إسرائيل ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) . . كما حكى عنهم القرآن الكريم . .
إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . . أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ؛ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر .
وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) ووصف بني إسرائيل فقال : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) . . فكان ذلك فيصلا بين المجتمعين وبين الجماعتين .
أما هنا فينحي باللائمة على الربانيين والأحبار ، الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت ؛ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله .
وإنه لصوت النذير لكل أهل دين . فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ والأمر كما قلنا من قبل في الظلال ، يقتضي " سلطة " تأمر وتنهى ، والأمر والنهي أمر غير الدعوة . فالدعوة بيان ، والأمر والنهي سلطان . وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ؛ فلا يكون مطلق كلام !
{ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشا في الحكم من اليهود من بني إسرائيل ربانيوهم ، وهم أئمتهم المؤمنون ، وساستهم العلماء بسياستهم وأحبارهم ، وهم علماؤهم وقوّادهم عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ يعني : عن قول الكذب والزور وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله ، ويكتبون كتبا بأيديهم ثم يقولون : هذا من حكم الله ، وهذا من كتبه . يقول الله : فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ .
وأما قوله : وأكْلِهِمْ السّحْتُ فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به . وقد بينا معنى الربانيين والأحبار ومعنى السحت بشواهد ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ وهذا قسم من الله أقسم به ، يقول تعالى ذكره : أقسمُ لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار في تركهم نهى الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت عما كانوا يفعلون من ذلك . وكان العلماء يقولون : ما في القرآن آية أشدّ توبيخا للعلماء من هذه الاَية ولا أخوف عليهم منها .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، قال : حدثنا سلمة بن نُبَيط ، عن الضحاك بن مزاحم في قوله : لَوْلا يَنْهاهُمُ الرّبّانِيّونَ والأحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ قال : ما في القرآن آية أخوف عندي منها أنّا لا ننهى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا قيس ، عن العلاء بن المسيب ، عن خالد بن دينار ، عن ابن عباس ، قال : ما في القرآن آية أشدّ توبيخا من هذه الاَية : لَوْلا يَنْهاهُمُ الرّبّانِيّونَ والأحبْارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وأكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال : كذا قرأ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك : لَوْلا يَنْهاهُمُ الرّبّانِيّونَ والأحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وأكْلِهِمُ السّحْتُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : لَوْلا يَنْاهُمُ الرّبّانِيّونَ والأحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وأكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ يعني الربانيين أنهم لبئس ما كانوا يصنعون .
وقوله تعالى : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم ، قال الطبري : كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها ، وقال الضحاك بن مزاحم : ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا َنْنهى ، وقال نحو هذا ابن عباس ، وقرأ الجراح وأبو واقد «الرِبانيون » بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره ، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني ، وقال الحسن : الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقوله في الرباني شاذ بعيد . و { الأحبار } واحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك ، والرباني هو العالم المدير المصلح ، وقوله تعالى : { عن قولهم الإثم } ظاهر أن { الإثم } هنا يراد به الكفر ، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون » بغير لام قسم .
{ لولا } تحْضيض أريد منه التّوبيخ .
و { الربّانيون والأحبار } تقدّم بيان معناهما في قوله تعالى : { يحكم بها النبيئون } [ المائدة : 44 ] الآية .
واقتصر في توبيخ الربّانيين على ترك نهيهم عن قول الإثم وأكللِ السحت ، ولم يذكر العُدوان إيماء إلى أنّ العدوان يزجرهم عنه المسلمون ولا يلتجئون في زجرهم إلى غيرهم ، لأنّ الاعتماد في النصرة على غير المجني عليه ، ضعف .
وجملة { لبئس ما كانوا يصنعون } مستأنفة ، ذمّ لصنيع الربّانيين والأحبار في سكوتهم عن تغيير المنكر ، و { يصنعون } بمعنى يعْلمون ، وإنّما خولف هنا ما تقدّم فيّ الآية قبلها للتّفنن ، وقيل : لأنّ { يصنعون } أدلّ على التمكّن في العمل من { يعملون } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عاتب الله عز وجل الربانيين والأحبار فقال: {لولا}: فهلا {ينهاهم الربانيون والأحبار}، يعني بالربانيين: المتعبدين، والأحبار: القراء الفقهاء...وكانوا رءوس اليهود، {عن قولهم الإثم}، يعني: الشرك، {وأكلهم السحت}، يعني: الرشوة في الحكم، {لبئس ما كانوا يصنعون}، حين لم ينهوهم، فعاب من أكل السحت: الرشوة في الحكم، وعاب الربانيين الذين لم ينهوهم عن أكله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشا في الحكم من اليهود من بني إسرائيل ربانيوهم، وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم، وأحبارهم: وهم علماؤهم وقوّادهم "عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ": عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبا بأيديهم ثم يقولون: هذا من حكم الله، وهذا من كتبه. يقول الله: "فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ".
"وأكْلِهِمْ السّحْتُ": يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به...
"لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ "وهذا قسم من الله أقسم به، يقول تعالى ذكره: أقسمُ لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار في تركهم نهي الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت عما كانوا يفعلون من ذلك. وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدّ توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
عاتب الله عز وجل الربانيين والأحبار على تركهم نهي أولئك عن صنيعهم واشتراكهم في الإثم شرعا سواء ليعلموا أن العامل بالإثم والمعصية والراضي به والتارك النهي عن ذلك سواء. وفيه دلالة تارك النهي عن المنكر يلحقه من الإثم ما يلحق الفاعل به.
اقتضت الآية وجوب إنكار المنكر بالنهي عنه والاجتهاد في إزالته، لذمّه من ترك ذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل لا يسمى صانعاً، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالاً من المواقع. ولعمري إن هذه الآية مما يقد السامع وينعي على العلماء توانيهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لولا ينهاهم الربانيون والأحبار} تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم...
معنى {لولا} هاهنا التحضيض والتوبيخ، وهو بمعنى هلا... والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي، وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت {لبئس ما كانوا يعملون} وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر {لبئس ما كانوا يصنعون} والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال، هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول، فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{لولا ينهاهم}: عرض وتحضيض وتقريع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان المنافقون من الأميين وأهل الكتاب قد صاروا شيئاً واحداً في الانحياز إلى المصارحين من أهل الكتاب، فأنزل فيهم سبحانه هذه الآيات على وجه يعم غيرهم حتى تبينت أحوالهم وانكشف زيغهم ومحالهم -أنكر- على من يودعونهم أسرارهم ويمنحونهم مودتهم وأخبارهم من علمائهم وزهادهم- عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لكونهم جديرين بذلك لما يزعمونه من اتباع كتابهم فقال: {لولا} أي هلا ولم لا {ينهاهم} أي يجدد لهم النهي {الربانيون} أي المدعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب {والأحبار} أي العلماء {عن قولهم الإثم} أي الكذب الذي يوجبه وهو مجمع له {وأكلهم السحت} وذلك لأن قولهم للمؤمنين {آمنا} وقولهم لهم {إنا معكم إنما نحن مستهزءون} [البقرة: 14] لا يخلو عن كذب، وهو محرم في توراتهم وكذا أكلهم الحرام، فما سكوتهم عنهم في ذلك إلا لتمرنهم على المعاصي وتمردهم في الكفر واستهانتهم بالجرأة على من لا تخفى عليه خافية، ولا يبقى لمن عاداه باقية.
ولما كان من طبع الإنسان الإنكار على من خالفه، كانت الفطرة الأولى مطابقة لما أتت به الرسل من قباحة الكذب وما يتبعه من الفسوق. وكان الإنسان لا ينزل عن تلك الرتبة العالية إلى السكوت عن الفاسقين فضلاً عن تحسين أحوالهم إلا بتدرب طويل وتمرن عظيم، حتى يصير له ذلك كالصفة التي صارت بالتدريب صنعة يألفها وملكة لا يتكلفها، فجعل ذنب المرتكب للمعصية غير راسخ، لأن الشهوة تدعوه إليها، وذنب التارك للنهي راسخاً لأنه لا شهوة له تدعوه إلى الترك، بل معه حامل من الفطرة السليمة تحثه على النهي، فكان أشد حالاً؛ قال: {لبئس ما} ولما كان ذلك في جبلاتهم، عبر بالكون فقال: {كانوا يصنعون} أي في سكوتهم عنهم وسماعهم منهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي هلا ينهى هؤلاء المسارعين فيما ذكر أئمتهم في التربية والسياسة وعلماء الشرع والفتوى فيهم، عن قول الإثم كالكذب، وأكل السحت كالرشوة! لبئس ما كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار من الرضى بهذا الأوزار، وترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. روي عن ابن عباس أنه قال: ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية، أي فهي حجة على العلماء إذا قصروا في الهداية والإرشاد، وتركوا السوء الذين أضاعوا الدين وأفسدوا الأمة بترك هذه الفريضة؟ ومن العجائب أننا نقرأ توبيخ القرآن لعلماء اليهود على ذلك، ونعلم أن القرآن أنزل موعظة وعبرة. ثم نعتبر بإهمال علمائنا لأمر ديننا. وعناية علمائهم في هذا العصر بأمر دينهم ودنياهم!!
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويشير السياق إلى سمة أخرى من سمات المجتمعات الفاسدة؛ وهو يستنكر سكوت الربانيين القائمين على الشريعة، والأحبار القائمين على أمر العلم الديني.. سكوتهم على مسارعة القوم في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ وعدم نهيهم عن هذا الشر الذي يتسابقون فيه:
(لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت! لبئس ما كانوا يصنعون!)
فهذه السمة -سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان- هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار.. وبنو إسرائيل (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه).. كما حكى عنهم القرآن الكريم..
إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي، ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر.
وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال: (كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) ووصف بني إسرائيل فقال: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه).. فكان ذلك فيصلا بين المجتمعين وبين الجماعتين.
أما هنا فينحي باللائمة على الربانيين والأحبار، الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله.
وإنه لصوت النذير لكل أهل دين. فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ والأمر كما قلنا من قبل في الظلال، يقتضي "سلطة "تأمر وتنهى، والأمر والنهي أمر غير الدعوة. فالدعوة بيان، والأمر والنهي سلطان. وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع؛ فلا يكون مطلق كلام!
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وما عندهم من بقية من التوراة كتابهم لا يغير طباعهم، فلا يتكون عندهم رأى عام إلا من تعاليم السابقين، وعلماؤهم يجارونهم، ولا يبينون لهم، فكان رأيهم العام فاسدا لشيوع الفساد فيه، وعدم وجود من يرشدهم إلى الصواب ولذا قال تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم) الربانيون هنا هم العلماء الذين يحاولون أن يكون علمهم لله، ويتصلون بربهم حتى ينسبوا إليه ولا يكون لهم وصف إلا نسبهتهم إليه سبحانه يزعمون ذلك في أقوالهم ويظهرونه في أعمالهم والأحبار هم الفقهاء أو العلماء الذين يفسرون أحكام الكتاب، ويعرفون الناس بشؤون دينهم،وقد يكون من يجمع بين الوصفين، ولكن لكل وصف جانب من العمل.
و (لولا) هنا للحض على الفعل في المستقبل والتوبيخ في الماضي على عدم فعله، وهو هنا للتوبيخ على تقصيرهم في الماضي وتخاذلهم عن أدائه، وإلا ما كان ذم حالهم، واستنكار أمرهم،والمعنى: هلا كان من هؤلاء الذين كان يتبعهم اليهود ويستمعون إليهم، ويستجيبون لهم من يرشدهم إلى الحق ليتبعوه وينهاهم عن الظلم ليجتنبوه وقد اتخذوا أولئك الأحبار والربانيين وسطاء بينهم وبين الله ليتعرفوا عن طريقهم، ولكنهم لم يفعلوا.
ولقد كان الموضع الذي كان ينبغي أن ينبهوا عنه هو قولهم الإثم وأكلهم السحت، فالنهي الواجب منصب على أمرين: أحدهما – قول الإثم أي القول المبطئ المانع من الخير، والثاني: أكل السحت، والأمران جماع الرذائل فإن الذي يدفع إلى الشر قول ذميم يحرض على الفساد ويدفع إليه، ويجرئ الناس عليه، ويتضمن ذلك ارتكاب الشهوات بكل أجزائها، لأن أول الشر استحسانه، واستحسانه يكون غالبا بالقول المشجع عليه والدافع له، ثم استمرءوا من بعد ذلك بقوله يزينه ويزكيه ويكون من بعد ذلك ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا.
والأمر الثاني: طمع لما في أيدي الناس وحسد على ما آتاهم الله من فضله ووراء أكل المال الناس بالباطل، وشره لما في أيديهم، واتخاذ المال ذريعة لإفساد ذات البين بينهم، والتحريض على الشر، والتحكم المرذول.
ولعل ذكر نهى الأحبار للعامة عن السحت تعريض بهم، لأنهم كانوا لا يتعففون عن الرشا بكل أنواعها كما أن ذكر النهى عن القول الإثم تعريض آخر بأحوالهم فإن من قول الزور تحريف الكلم عن مواضعه، والنطق بالزور في الشرع، وكان يقع منهم، ولذلك ذم سبحانه صنيعهم وهو لا يخلو من فساد حكمهم وتغيير حكم الشرع لهوى الأقوياء منهم، فقال تعالت كلماته (لبئس ما كانوا يصنعون) ذم الله تعالى صنيعهم وهو علمهم الشر بدقة وإحكام، لا بمقتضى الغرائز الحيوانية من غير تفكير، وفي الماضي، وما هم عليه في الحاضر، وما يكون منهم في المستقبل.
وهنا يتكلم المفسرون في التفرقة بين ذم أعمال اليهود عامة من دهماء وغيرهم بقوله تعالى: (لبئس ما كانوا يعملون) وذم أعمال الربانيين والأحبار بقوله تعالى: (لبئس ما كانوا يصنعون).
وخلاصة هذه التفرقة أن العمل يكون عادة بانبعاث شهوة من طمع مال، أو لذة جسد، أما الصنيع فإنه يكون بمهارة وتدبير وتعرف للغايات والنتائج ولو كانت آثمة، وأن الصنيع يكون بالعمل وغيره، ومن أحسن من قال في التفرقة فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، فقد قال موضحا ما ذكره الزمخشري وغيره، والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعامتهم عن المعاصي، وذلك يدل ان تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت: لبئس ما كانوا يعملون وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر لبئس ما كانوا يصنعون والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ وذنب التاركين للنهى ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك لأن ا لمعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال).
وإن هؤلاء الربانيين والأحبار لم يكن ما أخذ عليهم هو السكوت عن النهي فقط، بل إنهم رتعوا فيما رتع فيه غيرهم، وبذلك ضلوا وكانوا سببا في فساد الجمع كله ولعنهم وطردهم كما قال الله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون78 كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون79) (المائدة).
ولقد قال ابن عباس في هذه الآية: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار) إنها أصعب آية في كتاب؛ لأنها إثم الذين يقصرون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما عصام الأمر، ومانعا الإثم، وبهما صلاح الجماعة الإنسانية...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وكان لهم ربانيون، يتخذون لأنفسهم مواقع النَّاس المخلصين لله، وأحبار يملكون من العلم ما يرتفع بمنزلتهم إلى الدرجات العليا، ولكنَّهم كانوا يسكتون عنهم، ولا ينهونهم عن قولهم الإثم وأكلهم السُّحت، خوفاً ومجاملةً وغير ذلك من النوازع الذاتية الّتي تمنع المصلحين من الجهر بكلمة الإصلاح {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}. فما قيمة الربانية في داخل الإنسان إذا لم تتحول إلى ممارسةٍ عمليّةٍ ضاغطة، ضد كل الَّذين يعملون بعيداً عن الله؟! وما دور العلم الَّذي يحمله صاحبه إذا لم يتحرك في خط التوعية الفكرية والعملية الّتي ترفع مستوى النَّاس وتقربهم إلى الله وتبعدهم عن خط الشيطان في الضلال والفساد؟..من دون أن يكون لنوعيّة الممارسة للعمل دورٌ في ذلك. وقد لاحظ بعض المفسرين الفرق بين كلمة {يَعْمَلُونَ} في الحديث عن سواء النَّاس، وكلمة {يَصْنَعُونَ} في الحديث عن العلماء، وذلك من خلال أنَّ الصنع هو كل عملٍ استخدمت فيه الدقة والمهارة، بينما العمل يطلق على جميع الأفعال حتَّى لو كانت خاليةً من الدقة، تأكيداً على أنَّ النَّاس العاديين يذنبون من موقع الجهل، بينما العلماء يرتكبون الذنب عن درايةٍ وعلمٍ وتفكير. وهذه ملاحظةٌ طريفة، ولكنَّنا لا نتصور أنَّ هذه النكتة ملحوظةٌ في الآية، لأنَّ المطروح في عمل الجاهلين المعصية، أمَّا في عمل العلماء فهو ترك النهي عن المنكر، وهما سيّان في الخلفيات الكامنة وراء العمل من حيث الرغبة في الحصول على المنفعة أو الاجتناب عن المضرّة، من دون أن يكون لنوعيّة الممارسة للعمل دورٌ في ذلك.