المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

236- ولا إثم عليكم - أيها الأزواج - ولا مهر إذا طلقتم زوجاتكم قبل الدخول بهن وقبل أن تُقدِّروا لهن مهرَا ، ولكن أعطوهن عطية من المال يتمتعن بها لتخفيف آلام نفوسهن ، ولتكن عن رضا وطيب خاطر ، وليدفعها الغنى بقدر وسعه والفقير بقدر حاله ، وهذه العطية من أعمال البر التي يلتزمها ذوو المروءات وأهل الخير والإحسان .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } . أي ولم تمسوهن ولم تفرضوا ، نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهراً ، ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " متعها ولو بقلنسوتك " .

قرأ حمزة والكسائي ، ما لم تمسوهن بالألف هاهنا ، وفي الأحزاب على المفاعلة ، لأن بدن كل واحد منهما يلاقي بدن صاحبه كما قال الله تعالى : ( من قبل أن يتماسا ) وقرأ الباقون ( تمسوهن ) بلا ألف لأن الغشيان يكون من فعل الرجل ، دليله قوله تعالى : ( ولم يمسسني بشر ) . { أو تفرضوا لهن فريضة } أي توجبوا لهن صداقاً فإن قيل : فما الوجه في نفي الجناح عن المطلق ؟ قيل : الطلاق قطع سبب الوصلة ، وجاء في الحديث " أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق " . فنفى الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك ، وقيل معناه : لا سبيل للنساء عليكم إن طلقتموهن من قبل المسيس والفرض بصداق ولا نفقة ، وقيل : لا جناح عليكم في تطليقهن من قبل المسيس في أي وقت شئتم ، حائضاً كانت المرأة أو طاهرا ، لأنه لا سنة ولا بدعة في طلاقهن قبل الدخول بها ، بخلاف المدخول بها فإنه لا يجوز تطليقها في حال الحيض .

قوله تعالى : { ومتعوهن } . أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به ، والمتعة والمتاع : ما يتبلغ به من الزاد .

قوله تعالى : { على الموسع قدره } . أي على الغني .

قوله تعالى : { وعلى المقتر } . أي الفقير .

قوله تعالى : { قدره } . أي إمكانه وطاقته ، قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص قدره ( بفتح ) الدال فيهما وقرأ الآخرون بسكونهما وهما لغتان وقيل : القدر بسكون الدال المصدر وبالفتح : الاسم ، ( متاعاً ) : نصب على المصدر أي متعوهن .

قوله تعالى : { متاعاً بالمعروف } . أي بما أمركم الله به من غير ظلم .

قوله تعالى : { حقاً على المحسنين } . وبيان حكم الآية أن من تزوج امرأة ولم يفرض لها مهراً ثم طلقها قبل المسيس ، يجب لها المتعة بالإنفاق ، وإن طلقها بعد الفرض قبل المسيس فلا متعة لها على قول الأكثرين ، ولها نصف المهر المفروض . واختلفوا في المطلقة بعد الدخول بها فذهب جماعة إلى أنه لا متعة لها لأنها تستحق المهر ، وهو قول أصحاب الرأي ، وذهب جماعة إلى أنها تستحق المتعة لقوله تعالى ( وللمطلقات متاع بالمعروف ) وهو قول عبد الله بن عمر ، وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم بن محمد ، وإليه ذهب الشافعي لأن استحقاقها المهر بمقابلة ما أتلف عليها من منفعة البضع ، فلها المتعة على وحشة الفراق ، فعلى القول الأول : لا متعة إلا لواحدة وهي المطلقة قبل الفرض والمسيس ، وعلى القول الثاني لكل مطلقة متعة إلا لواحدة وهي المطلقة بعد الفرض قبل المسيس ، قال عبد الله بن عمر : لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يمسها زوجها فحسبها نصف المهر . قال الزهري : متعتان يقضي بإحداهما السلطان ولا يقضي بالأخرى بل تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى . فأما التي يقضي بها السلطان فهي : المطلقة قبل الفرض والمسيس ، وهو قوله تعالى ( حقاً على المحسنين ) ، والتي تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى ولا يقضي بها السلطان فهي المطلقة بعد المسيس وهو قوله تعالى : ( حقاً على المتقين ) . وذهب الحسن وسعيد بن جبير إلى أن لكل مطلقة متعة سواء كان قبل الفرض والمسيس ، أو بعد الفرض قبل المسيس ، لقوله تعالى : ( وللمطلقات متاع بالمعروف ) ولقوله تعالى في سورة الأحزاب : ( فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ) ، وقالا : معنى قوله تعالى ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ) أي أو لم تفرضوا لهن فريضة ، وقال بعضهم : المتعة غير واجبة والأمر بها أمر ندب واستحباب .

وروي أن رجلاً طلق امرأته وقد دخل بها ، فخاصمته إلى شريح في المتعة فقال شريح : لا تأب أن تكون من المحسنين ، ولا تأب أن تكون من المتقين ، ولم يجبره على ذلك . واختلفوا في قدر المتعة فروي عن ابن عباس : أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب ، درع وخما وإزار ، ودون ذلك وقاية أو شيء من الورق ، وبه قال الشعبي والزهري وهذا مذهب الشافعي ، وقال : أعلاها على الموسع ، خادم وأوسطها ثوب وأقلها أقل ما له ثمن ، وحسن ثلاثون درهماً ، وطلق عبد الرحمن بن عوف امرأته وحممها جارية سوداء أي متعها ومتع الحسن بن علي رضي الله عنه امرأة له بعشرة آلاف درهم فقالت : " متاع قليل من حبيب مفارق " .

وقال أبو حنيفة رحمه الله : مبلغها إذا اختلف الزوجان ، قدر نصف مهر مثلها لا يجاوز والآية تدل على أنه يعتبر حال الزوج في العسر واليسر ، ومن حكم الآية : أن من تزوج امرأة بالغة برضاها على غير مهر يصح النكاح ، وللمرأة مطالبته بأن يفرض لها صداقاً ، فإن دخل بها قبل الفرض فلها عليه مهر مثلها ، وإن طلقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة ، وإن مات أحدهما قبل الفرض والدخول اختلف أهل العلم في أنها هل تستحق المهر أم لا ؟ فذهب جماعة إلى أنه لا مهر لها وهو قول علي ، وزيد بن ثابت و عبد الله ابن عمر وعبد الله بن عباس ، كما لو طلقها قبل الفرض والدخول ، وذهب قوم إلى أن لها المهر لأن الموت كالدخول في تقرير المسمى ، كذلك في إيجاب مهر المثل إذا لم يكن في العقد مسمى ، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن علقمة ، عن ابن مسعود ، أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات ؟ فقال ابن مسعود : لها صداق نسائها لا وكس ، ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث . فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت ، ففرح ابن مسعود رضي الله عنه . وقال الشافعي رحمه الله : فإن ثبت حديث بروع بنت واشق فلا حجة في قول أحد دون قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يثبت فلا مهر لها ولها الميراث ، وكان علي يقول : في حديث بروع ، لا نقبل قول أعرابي من أشجع على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

221

ثم يجيء حكم المطلقة قبل الدخول . وهي حالة جديدة غير حالات الطلاق بالمدخول بهن التي استوفاها من قبل . وهي حالة كثيرة الوقوع . فيبين ما على الزوجين فيها وما لهما :

( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة . ومتعوهن - على الموسع قدره وعلى المقتر قدره - متاعا بالمعروف حقا على المحسنين . وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم . إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح . وأن تعفوا أقرب للتقوى . ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير )

والحالة الأولى : هي حالة المطلقة قبل الدخول ، ولم يكن قد فرض لها مهر معلوم . والمهر فريضة ، فالواجب في هذه الحالة على الزوج المطلق أن يمتعها . أي أن يمنحها عطية حسبما يستطيع . ولهذا العمل قيمته النفسية بجانب كونه نوعا من التعويض . . إن انفصام هذه العقدة من قبل ابتدائها ينشىء جفوة ممضة في نفس المرأة ، ويجعل الفراق طعنة عداء وخصومة . ولكن التمتيع يذهب بهذا الجو المكفهر ، وينسم فيه نسمات من الود والمعذرة ؛ ويخلع على الطلاق جو الأسف والأسى . فهي محاولة فاشلة إذن وليست ضربة مسددة ! ولهذا يوصي أن يكون المتاع بالمعروف استبقاء للمودة الإنسانية ، واحتفاظا بالذكرى الكريمة . وفي الوقت نفسه لا يكلف الزوج ما لا يطيق ، فعلى الغني بقدر غناه ، وعلى الفقير في حدود ما يستطيع :

( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) . .

ويلوح بالمعروف والإحسان فيندي بهما جفاف القلوب واكفهرار الجو المحيط :

( متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لاّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلّقْتُمُ النّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ }

يعني تعالى ذكره بقوله لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا حرج عليكم إن طلقتم النساء ، يقول : لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم ما لم تماسوهن ، يعني بذلك : ما لم تجامعوهن . والمماسة في هذا الموضع كناية عن اسم الجماع . كما :

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قالا جميعا : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس : المس : الجماع ، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : المس : النكاح .

وقد اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والبصرة : ما لَم تَمَسّوهُنّ بفتح التاء من تمسوهن ، وبغير ألف من قولك : مَسِسْتُه أمَسّه مَسّا وَمَسِيسا ومِسّيسَى مقصور مشدّد غير مجرى . وكأنهم اختاروا قراءة ذلك إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله : ولَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ . وقرأ ذلك آخرون : «ما لَمْ تُمَاسّوهُنّ » بضم التاء والألف بعد الميم إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَمَاسّا وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة بصاحبه من قولك : ماسست الشيء مماسة ومِسَاسا .

والذي نرى في ذلك أنهما قراءتان صحيحتا المعنى متفقتا التأويل ، وإن كان في إحداهما زيادة معنى غير موجبة اختلافا في الحكم والمفهوم . وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له : مسِست زوجتي أن الممسوسة قد لاقى من بدنها بدن الماسّ ما لاقاه مثله من بدن الماسّ ، فكل واحد منهما وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي مسّ صاحبه معقول ، كذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه ، فلا وجه للحكم لإحدى القراءتين مع اتفاق معانيهما ، وكثرة القراءة بكل واحدة منهما بأنها أولى بالصواب من الأخرى ، بل الواجب أن يكون القارىء بأيتهما قرأ مصيب الحقّ في قراءته .

وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلّقْتُمُ النّساءَ ما لَمْ تَمَسّوهُنّ المطلقات قبل الإفضاء إليهنّ في نكاح قد سمي لهن فيه الصداق . وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن كل منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين إما مسمى لها الصداق ، أو غير مسمى لها ذلك ، فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره أن المعنية بقوله : لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلّقْتُمْ النّساءَ مَا لَمْ تَمَسّوهُنّ إنما هي المسمى له ، لأن المعنية بذلك لو كانت غير المفروض لها الصداق لما كان لقوله : أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً معنى معقول ، إذ كان لا معنى لقول قائل : لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهنّ فرِيضة في نكاح لم تماسوهنّ فيه أو ما لم تفرضوا لهنّ فريضة . فإذ كان لا معنى لذلك ، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك : لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم الصداقُ قبل أن تماسوهن ، وغير المفروض لهن قبل الفرض .

القول في تأويل قوله تعالى : أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً .

يعني تعالى ذكره بقوله أو تَفْرِضُوا لَهُنّ أو توجبوا لهنّ ، وبقوله : فَرِيضةً صداقا واجبا . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضةً قال : الفريضة : الصداق . وأصل الفرض : الواجب ، كما قال الشاعر :

كانَتْ فَريضَةَ ما أتَيْتَ كمَا *** كانَ الزّناءُ فَرِيضَةَ الرّجْمِ

يعني كما كان الرجم الواجب من حدّ الزنا ، لذلك قيل : فرض السلطان لفلان ألفين ، يعني بذلك أوجب له ذلك ورزقه من الديوان .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَتّعُوهُنّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ .

يعني تعالى ذكره بقوله : وَمَتّعُوهُنّ وأعطوهنّ ما يتمتعن به من أموالكم على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار .

ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك ، فقال بعضهم : أعلاه الخادم ، ودون ذلك الوَرِق ، ودونه الكسوة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : متعة الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الوَرِق ، ودون ذلك الكسوة .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، عن عكرمة ، ابن عباس بنحوه .

حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن الشعبي قوله : وَمَتّعُوهُنّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ قلت له : ما أوسط متعة المطلقة ؟ قال : خمارها ودرعها وجلبابها وملحفتها .

44-حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : وَمَتّعوهُنّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعا بالمَعْرُوفِ حَقّا على المُحْسِنينَ فهذا الرجل يتزوّج المرأة ولم يسمّ لها صداقا ثم يطلقها من قبل أن ينكحها ، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره ، فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك ، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك .

44-حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي في قوله : وَمَتّعُوهُنّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ قال : قلت للشعبي : ما وسط ذلك ؟ قال : كسوتها في بيتها ودرعها وخمارها وملحفتها وجلبابها . قال الشعبي : فكان شريح يمتع بخمسمائة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر : أن شريحا كان يمتع بخمسائة . قلت لعامر : ما وسط ذلك ؟ قال : ثيابها في بيتها درع وخمار وملحفة وجلباب .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عمار الشعبي أنه قال : وسط من المتعة ثياب المرأة في بيتها درع وخمار وملحفة وجلباب .

حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبي : أن شريحا متع بخمسمائة . وقال الشعبي : وسط من المتعة درع وخمار وجلباب وملحفة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : لاَ جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلّقْتُمُ النّساءَ ما لَمْ تَمَسّوهُنّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنّ فَرِيضَةً وَمَتّعُوهّنّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعا بالمَعْروفِ حَقّا على المُحْسِنينَ قال : هو الرجل يتزوّج المرأة ولا يسمي لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها . قال : أدنى ذلك ثلاثة أثواب درع وخمار وجلباب وإزار .

5202- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : " لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن " حتى بلغ : " حقا على المحسنين " ، فهذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ، ولا فريضة لها . وكان يقال : إذا كان واجدا فلا بد من مئزر وجلباب ودرع وخمار . ( 1 )

5203- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن صالح بن صالح ، قال : سئل عامر : بكم يمتع الرجل امرأته ؟ قال : على قدر ماله .

5204- حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم قال : سمعت حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن أمه قالت : كأني أنظر إلى جارية سوداء ، حممها عبد الرحمن أم أبي سلمة حين طلقها . ( 1 )

قيل لشعبة : ما " حممها " ؟ قال . متعها . ( 2 )

5205- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أمه ، بنحوه ، عن عبد الرحمن بن عوف .

5206- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال ، كان يمتع بالخادم ، أو بالنفقة أو الكسوة . قال : ومتع الحسن بن علي - أحسبه قال : بعشرة آلاف .

5207- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعد بن إبراهيم : أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته فمتعها بالخادم .

5208- حدثت عن عبد الله بن يزيد المقري ، عن سعيد بن أبي أيوب قال ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب : أنه كان يقول في متعة المطلقة : أعلاه الخادم ، وأدناه الكسوة والنفقة . ويرى أن ذلك على ما قال الله تعالى ذكره :

__________

( 1 ) في المطبوعة : " عبد الرحمن بن أم سلمة " وهو خلط فاحش ، والصواب ما أثبته من المخطوطة . وأبو سلمة هو عبد الله الأصغر بن عبد الرحمن بن عوف ، وأمه تماضر ابنة الأصبغ بن عمرو الكلبية ، وهي أول كلبية نكحها قرشي . وإخوة أبي سلمة لأمه تماضر : أحيح وخالد ومريم ، بنو خالد بن عقبة بن أبي معيط ، خلف عليها بعد عبد الرحمن بن عوف .

وكانت العرب تسمي المتعة : التحميم . وعدي " حممها " إلى مفعولين ؛ لأنه في معنى أعطاها إياها .

( 2 ) الأثر : 5204- سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، رأى ابن عمر ، وروى عن أبيه وعميه حميد وأبي سلمة . مات سنة 127 ، مترجم في التهذيب . وأم حميد بن عبد الرحمن هي : أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الأموية أخت عثمان بن عفان لأمه ، أسلمت قديما ، وبايعت ، وحبست عن الهجرة إلى أن هاجرت سنة سبع في الهدنة . ولدت لعبد الرحمن بن عوف حميد بن عبد الرحمن وإبراهيم بن عبد الرحمن ، ورويا عنها . مترجمة في التهذيب وغيره .

" على الموسع قدره وعلى المقتر قدره "

* * *

وقال آخرون : مبلغ ذلك - إذا اختلف الزوج والمرأة فيه - قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده . وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه .

* * *

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله : من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره ، كما قال الله تعالى ذكره : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " ، لا على قدر المرأة . ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه ، لم يكن لقيله تعالى ذكره : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " ، معنى مفهوم= ولكان الكلام : ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن .

وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره ، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها ، ما يبين عن صحة ما قلنا ، وفساد ما خالفه . وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثها المال العظيم ، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا ، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها ، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه ، فكيف المقدور عليه ؟ ( 1 ) وإذا فعل ذلك به ، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " -ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره ، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها ، إن كان الزوج موسعا . وإن كان مقترا ، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها ، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك ، قضي عليه بذلك . وإن كان عاجزا عن ذلك ، فعلى قدر طاقته . وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه .

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله . " ومتعوهن " ، هل هو على الوجوب ، أو على الندب ؟

فقال بعضهم : هو على الوجوب ، يقضى بالمتعة في مال المطلق ، كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره . وقالوا : ذلك واجب عليه لكل مطلقة ، كائنة من كانت من نسائه .

* ذكر من قال ذلك :

5209- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن وأبو العالية يقولان : لكل مطلقة متاع ، دخل بها أو لم يدخل بها ، وإن كان قد فرض لها .

5210- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس : أن الحسن كان يقول : لكل مطلقة متاع ، وللتي طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها .

5211- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن سعيد عن جبير في هذه الآية : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) [ سورة البقرة : 241 ] ، قال : كل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين .

5212- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب قال ، سمعت سعيد بن جبير يقول : لكل مطلقة متاع .

5213- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قال : كان أبو العالية يقول : لكل مطلقة متعة . وكان الحسن يقول : لكل مطلقة متعة .

5214- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة قال ، سئل الحسن ، عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها : هل لها متاع ؟ قال الحسن : نعم والله ! فقيل للسائل= وهو أبو بكر الهذلي= أو ما تقرأ

هذه الآية : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ) ؟ قال : نعم والله !

* * *

وقال آخرون : المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة ، ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق . فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها ، فإنها لا متعة لها ، وإنما لها نصف الصداق المسمى .

* ذكر من قال ذلك :

5215- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع : أن ابن عمر كان يقول : لكل مطلقة متعة ، إلا التي طلقها ولم يدخل بها ، وقد فرض لها ، فلها نصف الصداق ، ولا متعة لها .

5216- حدثنا تميم بن المنتصر قال ، أخبرنا عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر بنحوه .

5217- حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب- في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها- أنه قال في المتاع : قد كان لها المتاع في الآية التي في " الأحزاب " ، ( 1 ) فلما نزلت الآية التي في " البقرة " ، جعل لها النصف من صداقها إذا سمى ، ولا متاع لها ، وإذا لم يسم فلها المتاع .

5218- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد نحوه .

5219- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول : إذا لم يدخل بها جعل لها في " سورة الأحزاب " المتاع ، ثم أنزلت الآية التي في " سورة البقرة " : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ) ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها ، إذا كان لم يدخل بها ، وكان قد سمى لها صداقا ، فجعل لها النصف ولا متاع لها .

5220- حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : نسخت هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ ) [ سورة الأحزاب : 49 ] الآية التي في " البقرة " .

5221- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن حميد ، عن مجاهد قال : لكل مطلقة متعة ، إلا التي فارقها وقد فرض لها من قبل أن يدخل بها .

5222- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد- في التي يفارقها زوجها قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها ، قال : ليس لها متعة .

5223- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب ، عن نافع قال : إذا تزوج الرجل المرأة وقد فرض لها ، ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فلها نصف الصداق ، ولا متاع لها . وإذا لم يفرض لها ، فإنما لها المتاع .

5224- حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، سئل ابن أبي نجيح وأنا أسمع : عن الرجل يتزاوج ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها ، هل لها متاع ؟ قال : كان عطاء يقول : لا متاع لها .

5225- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر- في التي فرض لها ولم يدخل بها ، قال : إن طلقت ، فلها نصف الصداق ولا متعة لها .

5226- حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم : أن شريحا كان يقول -في الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، وقد سمى لها صداقا- قال : لها في النصف متاع .

5227- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لها في النصف متاع .

* * *

وقال آخرون : المتعة حق لكل مطلقة ، غير أن منها ما يقضى به على المطلق ، ومنها ما لا يقضى به عليه ، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه .

* ذكر من قال ذلك :

5228- حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرازق قال ، أخبرنا معمر ، عن الزهري قال : متعتان ، إحداهما يقضى بها السلطان ، والأخرى حق على المتقين : من طلق قبل أن يفرض ويدخل ، فإنه يؤخذ بالمتعة ، فإنه لا صداق عليه . ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض ، فالمتعة حق .

5229- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال الله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " ، فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها ، ثم طلقها من قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها ، فليس عليه إلا متاع بالمعروف ، يفرض لها السلطان بقدر ، وليس عليها عدة . وقال الله تعالى ذكره : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، فإذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها ولم يمسسها ، فلها نصف صداقها ، ولا عدة عليها .

5230- حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال ، أخبرنا زهير ، عن معمر ، عن الزهري أنه قال : متعتان يقضى بإحداهما السلطان ، ولا يقضى بالأخرى : فالمتعة التي يقضي بها السلطان حقا على المحسنين ، والمتعة التي لا يقضي بها السلطان حقا على المتقين . ( 1 )

* * *

وقال آخرون : لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق ، وإنما ذلك من الله تعالى ذكره ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة .

* ذكر من قال ذلك :

5231- حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن الحكم : أن رجلا طلق امرأته ، فخاصمته إلى شريح ، فقرأ الآية : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) [ سورة البقرة : 241 ] ، قال : إن كنت من المتقين ، فعليك المتعة . ولم يقض لها . قال شعبة : وجدته مكتوبا عندي عن أبي الضحى .

5223- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد قال : كان شريح يقول في متاع المطلقة ، لا تأب أن تكون من المحسنين ، لا تأب أن تكون من المتقين .

5233- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق أن شريحا قال للذي قد دخل بها : إن كنت من المتقين فمتع .

* * *

قال أبو جعفر : وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا للمطلقات ، إلى أن قول الله تعالى ذكره : " حقا على المحسنين " ، وقوله : " حقا على المتقين " ، دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال ، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم ، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس .

وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق ، فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، كان ذلك دليلا على أن لك مطلقة متاعا سوى من استحدثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . فلما قال : " وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها ، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم ، لغير المفروض لها . فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها ، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس ، ( 1 ) فيما لها على الزوج من الحقوق .

* * *

قال أبو جعفر : والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي ، قول من قال : " لكل مطلقة متعة " ، لأن الله تعالى ذكره قال : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة ، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض . فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام ، إلى باطن خاص ، إلا بحجة يجب التسليم لها . ( 2 )

* * *

فإن قال قائل : فإن الله تعالى ذكره قد خص المطلقة قبل المسيس ، إذا كان

مفروضا لها ، بقوله : ( 1 ) " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " ، إذ لم يجعل لها غير النصف من الفريضة ؟ ( 2 )

قيل : إن الله تعالى ذكره إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله ، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه ، الكفاية عن تكريره ، حتى يدل على بطول فرضه . وقد دل بقوله ، " وللمطلقات متاع بالمعروف " ، على وجوب المتعة لكل مطلقة ، فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة . وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها ، دلالة على بطول المتعة عنه . لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل : " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ( 3 ) وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " والمتعة . ( 4 ) فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام ، كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها ، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة ، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا . = وكان الله تعالى ذكره قد دل على وجوب ذلك لها ، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى = ثبت وصح وجوبهما لها .

هذا ، إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل المسيس ، ( 1 ) دلالة غير قول الله تعالى ذكره : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ، فكيف وفي قول الله تعالى ذكره : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن " ، الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس ، لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها ؟ وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، " كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء : أحدهما المفروض له ، والآخر غير المفروض له . وذلك أنه لما قال : " أو تفرضوا لهن فريضة " ، علم أن الصنف الآخر هو المفروض له ، وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس . لأنه قال : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم يمسوهن ، " ثم قال تعالى ذكره : " ومتعوهن " ، فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا ، المفروض لهن ، وغير المفروض لهن . فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين ، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير ، ثم عكس عليه القول في ذلك . فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

* * *

قال أبو جعفر : وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب ، إذا طلقت ، على زوجها المطلقها ، على ما بينا آنفا - يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها ، لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه ، أو ببراءة تكون منها له . وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله ، يحبس بها إن طلقها فيها ، ( 2 ) إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه ، إذا امتنع من إعطائها ذلك .

وإنما قلنا ذلك ، لأن الله تعالى ذكره قال : " ومتعوهن ، " فأمر الرجال أن يمتعوهن ، وأمره فرض ، إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد ، لما قد بينا في كتابنا المسمى( بلطيف البيان عن أصول الأحكام ) ، لقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " . ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك : وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف . وإذا كان ذلك كذلك ، فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل ، من أداء أو إبراء على ما قد بينا .

* * *

فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ قال : " حقا على المحسنين " و " حقا على المتقين " ، أنها غير واجبة ، لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن ، والمتقي وغير المتقي= فإن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين ، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى ، فهو على غيرهم أوجب ، ولهم ألزم .

وبعد ، فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله : " ومتعوهن " ، وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس بقول الله تعالى ذكره ( 1 ) فيما أوجب لهما من ذلك = ( 1 ) الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ، وإن كان قال : " حقا على المتقين " .

ومن أنكر ما قلنا في ذلك ، سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس . فإن أنكر وجوب ذلك خرج من قول جميع الحجة ، ( 2 ) ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة ، والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة ، وما أشبه ذلك . ( 3 ) فإن أوجب ذلك لها ، سئل الفرق بين وجوب ذلك لها ، والوجوب لكل مطلقة ، وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين ، كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين . فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله .

* * *

قال أبو جعفر : واجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس ، لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة .

* ذكر بعض من قال ذلك من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم :

5234- حدثنا أبو كريب ويونس بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها وقبل أن يدخل بها ، فليس لها إلا المتاع .

5235- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية ، عن يونس قال ، قال الحسن : إن طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها ، فليس لها إلا المتاع .

5236- حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب ، عن نافع قال : إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها ولم يفرض لها ، فإنما لها المتاع .

5237- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : إذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها ، ثم طلقها قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها ، فليس لها عليه إلا المتاع بالمعروف .

5238- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، " قال : ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف .

5239- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال : ولا متاع إلا بالمعروف .

5240- حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن " إلى : " ومتعوهن " قال : هذا الرجل توهب له فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فإنما عليه المتعة .

5241- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال في هذه الآية : هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ، فلها متاع بالمعروف ، ولا فريضة لها .

5242- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

5243- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، [ حدثنا عبيد بن سليمان قال ] ، سمعت الضحاك يقول في قوله : " ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة " ، هذا رجل وهبت له امرأته ، فطلقها من قبل أن يمسها ، فلها المتعة ولا فريضة لها ، وليست عليها عدة .

* * *

قال أبو جعفر : وأما " الموسع " ، فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى ، يقال منه : " أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع " .

* * *

وأما " المقتر " ، فهو المقل من المال ، يقال : " قد أقتر فهو يقتر إقتارا ، وهو مقتر " .

* * *

واختلف القرأة في قراءة " القدر " . ( 1 )

فقرأه بعضهم : " على الموسع قدره وعلى المقتر قدره " . بتحريك " الدال " إلى الفتح من " القدر " ، توجيها منهم ذلك إلى الاسم من " التقدير " ، الذي هو من قول القائل : " قدر فلان هذا الأمر " .

* * *

وقرأ آخرون بتسكين " الدال " منه ، توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك ، كما قال الشاعر . ( 2 )

وما صب رجلي في حديد مجاشع . . . مع القدر ، إلا حاجة لي أريدها ( 3 )

* * *

والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة ، ولا تحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى ، بل هما متفقتا المعنى . فبأي- القراءتين قرأ القارئ ذلك ، فهو للصواب مصيب .

وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها . وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة ، فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره .

* * *

قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لا حرج عليكم ، أيها الناس ، لأن طلقتم النساء وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن ، ( 1 ) وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن ، ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته ، وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره .

* * *

القول في تأويل قوله تعالى : { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( 236 ) }

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ومتعوهن متاعا . وقد يجوز أن يكون " متاعا " منصوبا قطعا من " القدر " . ( 2 ) لأن " المتاع " نكرة ، و " القدر " معرفة .

* * *

ويعني بقوله : " بالمعروف " ، بما أمركم الله به من إعطائكم إياهن ذلك ، ( 3 ) بغير ظلم ، ولا مدافعة منكم لهن به . ( 4 )

ويعني بقوله : " حقا على المحسنين " ، متاعا بالمعروف الحق على المحسنين . فلما دل إدخال " الألف واللام " على " الحق " ، وهو من نعت " المعروف " ، و " المعروف " معرفة ، و " الحق " نكرة ، نصب على القطع منه ، ( 5 ) كما يقال : " أتاني الرجل راكبا " .

وجائز أن يكون نصب على المصدر من جملة الكلام الذي قبله ، كقول القائل : " عبد الله عالم حقا " ، ف " الحق " منصوب من نية كلام المخبر ، كأنه قال : أخبركم بذلك حقا . ( 1 )

والتأويل الأول هو وجه الكلام ، لأن معنى الكلام : فمتعوهن متاعا بمعروف حق على كل من كان منكم محسنا .

* * *

وقد زعم بعضهم أن ذلك منصوب بمعنى : أحق ذلك حقا . والذي قاله من ذلك ، بخلاف ما دل عليه ظاهر التلاوة . لأن الله تعالى ذكره جعل المتاع للمطلقات حقا لهن على أزواحهن ، فزعم قائل هذا القول أن معنى ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه يحق أن ذلك على المحسنين . فتأويل الكلام إذا- إذ كان الأمر كذلك- : ومتعوهن على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف الواجب على المحسنين .

* * *

ويعني بقوله : " المحسنين " ، الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به ، وأدائهم ما كلفهم من فرائضه .

* * *

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : إنك قد ذكرت أن " الجناح " هو الحرج ، ( 2 ) وقد قال الله تعالى ذكره : " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن " ، فهل علينا من جناح لو طلقناهن بعد المسيس ، فيوضع عنا بطلاقنا إياهن قبل المسيس ؟ قيل : قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات " . ( 3 )

5244- حدثنا بذلك ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ( 1 )

* * *

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ، يقولون : قد طلقتك ، قد راجعتك ، قد طلقتك " .

5245- حدثنا بذلك ابن بشار قال ، حدثنا مؤمل قال ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( 2 )

* * *

فجائز أن يكون " الجناح " الذي وضع عن الناس في طلاقهم نساءهم قبل المسيس ، هو الذي كان يلحقهم منه بعد ذوقهم إياهن ، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

* * *

وقد كان بعضهم يقول : معنى قوله في هذا الموضع : " لا جناح " ، لا سبيل عليكم للنساء- إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ، ولم تكونوا فرضتم لهن فريضة -في إتباعكم بصداق ولا نفقة . وذلك مذهب ، لولا ما قد وصفت من أن المعني بالطلاق قبل المسيس في هذه الآية صنفان من النساء : أحدهما المفروض لها ، والآخر غير المفروض لها . فإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لأن يقال : لا سبيل لهن عليكم في صداق ، إذا كان الأمر على ما وصفنا .

* * *

وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر : وهو أن يكون معناه : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن ، في أي وقت شئتم طلاقهن . لأنه لا سنة في طلاقهن ، فللرجل أن يطلقهن إذا لم يكن مسهن حائضا وطاهرا في كل وقت أحب . وليس ذلك كذلك في المدخول بها التي قد مست ، لأنه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء- إلا للعدة طاهرا في طهر لم يجامع فيه . فيكون " الجناح " الذي أسقط عن مطلق التي لم يمسها في حال حيضها ، ( 1 ) هو " الجناح " الذي كان به مأخوذا المطلق بعد الدخول بها في حال حيضها ، أو في طهر قد جامعها فيه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

{ لا جناح عليكم } لا تبعة من مهر . وقيل من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس . وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر النهي عن الطرق فظن أن فيه حرجا فنفى { إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } أي تجامعوهن . وقرأ حمزة والكسائي " تماسوهن " بضم التاء ومد الميم في جميع القرآن . { أو تفرضوا لهن فريضة } إلا أن تفرضوا ، أو حتى تفرضوا أو وتفرضوا . والفرض تسمية المهر . وفريضة نصب على المفعول به بمعنى فعيلة بمعنى مفعول . والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية ، ويحتمل المصدر . والمعنى أنه لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسم لها مهرا ، إذ لو كانت ممسوسة فعلية المسمى ، أو مهر المثل . ولو كانت غير ممسوسة ولكن سمي لها فلها نصف المسمى ، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى ، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين . { ومتعوهن } عطف على مقدر أي فطلقوهن ومتعوهن ، والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق ، وتقديرها مفوض إلى رأي الحاكم ويؤيده قوله : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } أي على كل من الذي له سعة ، والمقتر الضيق الحال ما يطيقه ويليق به ، ويدل عليه قوله عليه السلام لأنصاري طلق امرأته المفوضة قبل أن يمسها " متعها بقلنسوتك " . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : هي درع وملحفة وخمار على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل ، ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوضة التي لم يمسها الزوج ، وألحق بها الشافعي رحمه الله تعالى في أحد قوليه الممسوسة المفوضة وغيرها قياسا ، وهو مقدم على المفهوم . وقرأ حمزة والكسائي وحفص وابن ذكوان بفتح الدال { متاعا } تمتيعا . { بالمعروف } بالوجه الذي يستحسنه الشرع والمروءة . { حقا } صفة لمتاعا ، أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا . { على المحسنين } الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال ، أو إلى المطلقات بالتمتيع وسماهم محسنين قبل الفعل للمشارفة ترغيبا وتحريضا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ( 236 ) ( {[2269]} )

هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع ، فرض مهراً أو لم يفرض ، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق( {[2270]} ) وقضاء الشهوة وأمر بالتزوج طلباً للعصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءاً من هذا المكروه ، فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن . وقال قوم : { لا جناح عليكم } معناه لا طلب بجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها والمتعة لمن لم يفرض لها ، وقال قوم : { لا جناح عليكم } معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت حيض بخلاف المدخول بها ، وقال مكي : «المعنى لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس » ، والخطاب بالآية لجميع الناس ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «تمسوهن » بغير ألف ، وقرأ الكسائي وحمزة «تُماسوهن » بألف وضم التاء ، وهذه القراءة الأخيرة تعطي المس من الزوجين ، والقراءة الأولى تقتضي ذلك بالمعنى المفهوم من المس( {[2271]} ) ، ورجحها أبو علي لأن أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن : نكح وسفد وقرع وذقط وضرب الفحل ، والقراءتان( {[2272]} ) حسنتان ، و { تفرضوا } عطف على «تمسوا » ، وفرض المهر إثباته وتحديده ، وهذه الآية تعطي جواز العقد على التفويض لأنه نكاح مقرر في الآية مبين حكم الطلاق فيه ، قاله مالك في المدونة ، والفريضة الصداق ، وقوله تعالى : { ومتعوهن } معناه أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهن ، وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب ، وحمله أبو عبيدة ومالك بن أنس وأصحابه وشريح وغيرهم على الندب ، ثم اختلفوا في الضمير المتصل ب «متعوا » من المراد به من النساء ؟ ، فقال ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي : المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض ، ومندوبة في غيرها( {[2273]} ) ، وقال مالك وأصحابه : المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها ، فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها( {[2274]} ) ، وقال أبو ثور : لها المتعة ولكل مطلقة ، وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة( {[2275]} ) ، فقال الزهري : يقضي لها بها القاضي ، وقال جمهور الناس : لا يقضي بها ، قاله شريح ، ويقال للزوج : إن كنت من المتقين والمحسنين فمتع ولم يقض عليه .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا( {[2276]} ) مع إطلاق لفظ الوجوب عند بعضهم ، وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان : المتعة بإزاء غم الطلاق ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة( {[2277]} ) ، وقال الترمذي وعطاء والنخعي : للمختلعة متعة ، وقال أصحاب الرأي : للملاعنة متعة ، قال ابن القاسم : ولا متعة في نكاح مفسوخ( {[2278]} ) ، قال ابن المواز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد مثل ملك أحد الزوجين صاحبه ، وروى ابن وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار ، فهذه لا متعة لها ، وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذاك كله فلها المتعة ، لأن الزوج سبب الفراق ، وعليها هي غضاضة في أن لا تختار نفسها .

واختلف الناس في مقدار المتعة ، فقال ابن عمر : «أدنى ما يجزىء في المتعة ثلاثون درهماً أو شبهها » ، وروي أن ابن محيريز( {[2279]} ) كان يقضي على صاحب الديوان بثلاثة دنانير( {[2280]} ) ، وقال ابن عباس : «أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة » ، وقال عطاء : «من أوسط ذلك درع وخمار وملحفة » ، وقال الحسن : «يمتع كل على قدره : هذا بخادم ، وهذا بأثواب ، وهذا بثوب وهذا بنفقة » ، وكذلك يقول مالك بن أنس( {[2281]} ) ، ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفاً وزقاق من عسل ، ومتع شريح بخمسمائة درهم ، وقالت أم حميد بن عبد الرحمن بن عوف : «كأني انظر إلى خادم سوداء متع بها عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة » ، وقال أصحاب الرأي وغيرهم : متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير( {[2282]} ) ، وقوله تعالى { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } دليل على رفض التحديد ، وقرأ الجمهور «على الموْسِع » بسكون الواو وكسر السين بمعنى الذي أوسع أي اتسعت حاله ، وقرأ أبو حيوة : «الموسَّع » بفتح الواو وشد السين وفتحها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «قدْره » بسكون الدال في الموضعين ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «قدَره » بفتح الدال فيهما ، قال أبو الحسن الأخفش وغيره : هما بمعنى لغتان فصيحتان ، وكذلك حتى أبو زيد ، تقول : خذ قدر كذا وقدر كذا بمعنى ، ويقرأ في كتاب الله { فسالت أودية بقدرها }( {[2283]} ) [ الرعد : 17 ] وقدرها ، وقال : { وما قدروا الله حق قدره }( {[2284]} ) [ الأنعام : 91 ] ، ولو حركت الدال لكان جائزاً ، و { المقتر } : المقل القليل المال ، و { متاعاً } نصب على المصدر وقوله تعالى { بالمعروف } أي لا حمل فيه ولا تكلف على أحد الجانبين ، فهو تأكيد لمعنى قوله { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } ، ثم أكد تعالى الندب بقوله { حقاً على المحسنين } أي في هذه النازلة من التمتيع هم محسنون ، ومن قال بأن المتعة واجبة( {[2285]} ) قال : هذا تأكيد الوجوب ، أي على المحسنين بالإيمان والإسلام ، فليس لأحد أن يقول لست بمحسن على هذا التأويل ، و { حقاً } صفة لقوله { متاعاً } ، أو نصب على المصدر وذلك أدخل في التأكيد للأمر( {[2286]} ) .


[2269]:- الظاهر أن (أو) بمعنى (الواو) – أي: ما لم تمسّوهن ولا تفرضوا لهن، ووضع (أو) موضع (الواو (كثير في القرآن كقوله تعالى: [ولا تطع منهم آثما أو كفورا] أي: وكفورا، وكقوله تعالى: [وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياناً أو هم قائلون] أي: وهم قائلون، ويدل على هذا أنه تعالى عطف المفروض لها بقوله: [وإن طلّقتموهن من قبل أن تمِسّوهن وقد فرضتم لهنّ فريضة] الآية، فلو كانت آية: [لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء] لبيان طلاق المفروض لها قبل المس لما كرره. والحاصل أن المطلقة بعد الدخول والفرض لها المفروض كاملا – والمطلقة قبل الدخول مع الفرض لها نصف المفروض، والمطلقة قبل الدخول والفرض لها المتعة لأنها لا شيء لها، وذلك لجبر خاطرها وتطييب نفسها، وهذا التفصيل له حظ من النظر الصحيح، والله أعلم.
[2270]:- جاء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات)، رواه ابن جرير بسنده عن شهر بن حوشب الشامي، وروى الطبراني عن أبي موسى مرفوعاً: (لا أحب الذواقين من الرجال ولا الذواقات من النساء)، وروى الديلمي عن أبي هريرة: (تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات).
[2271]:- يقال: مَسَّ امرأته وماسَّها كما يقال: لمَسها ولامسها، إلا أن ماسَّ يدل على وقوع المَس من الجانبين بمادته وصيغته، ومسَّ يدل على ذلك بمضمونه ومفهومه.
[2272]:- يعني أنه لا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، وهما متفقتان في الحكم والمفهوم والقراءة بكل منهما.
[2273]:- أي غير المطلقة قبل البناء والفرض.
[2274]:- لقوله تعالى: [وإن طلّقتموهن من قبل أن تمسّوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم].
[2275]:- لقوله تعالى: [لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسّوهن أو تفرضوا لهنّ فريضة ومتِّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المُقْتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين]. واختلف أيحكم بالمتعة أم لا ؟ وسبب ذلك الاختلاف في فهم الأمر في الآية أهو للإيجاب أم للندب ؟ ويروى عن الشعبي أنه سئل عن المتعة: أيحبس فيها ؟ فقرأ: [على الموسع قدره وعلى المقتر قدره] قال: والله ما رأيت أحدا حُبس فيها، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة، ويدل على ذلك قوله تعالى: [حقا على المحسنين] [حقا على المتقين] إذ لو كانت واجبة لوقع الحكم بها على غير المتقين، وأكثر الناس لا يتقون.
[2276]:- يعني أن هذا الإجماع وقع مع إطلاق بعضهم لفظ الوجوب في كل مطلقة، وأما مالك رحمه الله فقد ربط المتعة بإزاء غم الطلاق، ولذلك استثنى المرأة التي تتسبب في الطلاق.
[2277]:- أي لا قبل البناء ولا بعده لأنها هي التي اختارت الطلاق.
[2278]:- أي لقوله تعالى: [وللمطلقات متاع بالمعروف] ولقوله تعالى: [ومتّعوهن] بعد ذكر الطلاق، وعليه فالمتعة في الطلاق لا في الفسخ.
[2279]:- هو عبد الله بن محيريز أبو محيريز المسكي التابعي المتوفى كما قيل في خلافة عمر ابن عبد العزيز.
[2280]:- هو من سجل اسمه فيه ليأخذ عطاءه سواء أكان من الجيش أم من غيره.
[2281]:- هذا أعدل الأقوال لقوله تعالى: [على الموسِع قدره وعلى المقْتِر قدره]، ولكل زمن مستواه المادي وكذلك لكل مجتمع.
[2282]:- يمنع هذا قوله تعالى: [على الموسع قدره وعلى المقتر قدره] فإن هذا النص يرفض التحديد، والله أعلم.
[2283]:- من الآية (17) من سورة (الرعد).
[2284]:- من الآية (67) من سورة (الزمر).
[2285]:- رجح الإيجاب الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله، وقد اعترضه القاضي أبو محمد رحمه الله عند قوله تعالى: [وللمطلّقات متاع بالمعروف حقّا على المتّقين] انظره.
[2286]:- أي متاعاً ثابتاً على المحسنين، أو: حقّ عليهم حقا على أنه مصدر منصوب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَّا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (236)

استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر ، كله أو بعضه ، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس . فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، ومناسبة موقعها لا تخفى ، فإنه لما جرى الكلام في الآيات السابقة على الطلاق الذي تجب فيه العدة ، وهو طلاق المدخول بهن ، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول ، وهو الذي في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } الآية ، في سورة الأحزاب ( 49 ) ، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر والعفو عنه .

وحقيقة الجناح الإثم كما تقدم في قوله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } [ البقرة : 158 ] . ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم ، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق ، ووقع في « الكشاف » تفسير الجناح بالتبعة فقال : { لا جناح عليكم لا تبعة عليكم من إيجاب المهر } ثم قال : والدليل على أن الجناح تبعة المهر ، قوله : { وإن طلقتموهن } إلى قوله : { فنصف ما فرضتم } فقوله : { فنصف ما فرضتم } إثبات للجناح المنفي ثمة » وقال ابن عطية وقال قوم : لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر فعلمنا أن صاحب « الكشاف » مسبوق بهذا التأويل ، وهو لم يذكر في « الأساس » هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازاً ، فإنما تأوله من تأوله تفسيراً لمعنى الكلام كله لا لكلمة { جناح } وفيه بعد ، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع المهر . والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح ، وهو معناه المتعارف ، وفي « تفسير ابن عطية » عن مكي بن أبي طالب « لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء ؛ لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس » وقريب منه في الطيبي عن الراغب أي في « تفسيره » .

فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه ، وكأن قوله : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق ، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة ، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء .

قال ابن عطية وغيره : إنه لكثرة ما حض الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة ، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن ، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرماً ، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر .

والنساء : الأزواج ، والتعريف فيه تعريف الجنس ، فهو في سياق النفي للعموم ، أي لا جناح في تطليقكم الأزواج ، و ( ما ) ظرفية مصدرية ، والمسيس هنا كناية عن قربان المرأة .

و ( أو ) في قوله : { أو تفرضوا لهن فريضة } عاطفة على { تمسوهن } المنفي ، و ( أو ) إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد واو العطف فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوق عليه معاً ، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات ، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين ، نبه على ذلك الشيخ ابن الحاجب في « أماليه » وصرح به التفتازاني في « شرح الكشاف » ، وقال الطيبي : إنه يؤخذ من كلام الراغب ، وهو التحقيق ؛ لأن مفاد « أو » في الإثبات نظير مفاد النكرة وهو الفرد المبهم ، فإذا دخل النفي استلزم نفي الأمرين جميعاً ، ولهذا كان المراد في قوله تعالى : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] النهي عن طاعة كليهما ، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر ، وعلى هذا انبنت المسألة الأصولية وهي : هل وقع في اللغة ما يدل على تحريم واحد لا بعينه ، بناء على أن ذلك لا يكون إلا بحرف أو ، وأن أو إذا وقعت في سياق النهي كانت كالتي تقع في سياق النفي .

وجعل صاحب « الكشاف » ( أو ) في قوله : { أو تفرضوا لهن فريضة } بمعنى إلا أو حتى ، وهي التي ينتصب المضارع بعدها بأن واجبة الإضمار ، بناء على إمكانه هنا وعلى أنه أبعد عن الخفاء في دلالة أو العاطفة في سياق النفي ، على انتفاء كلا المتعاطفين ؛ إذ قد يتوهم أنها لنفي أحدهما كشأنها في الإثبات ، وبناء على أنه أنسب بقوله تعالى بعد ذلك { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } حيث اقتصر في التفصيل على أحد الأمرين : وهو الطلاق قبل المسيس مع فرض الصداق ، ولم يذكر حكم الطلاق قبل المسيس أو بعده ، وقبل فرض الصداق ، فدل بذلك على أن الصورة لم تدخل في التقسيم السابق ، وذلك أنسب بأن تكون للاستثناء أو الغاية ، لا للعطف ، ولا يتوهم أن صاحب الكشاف أهمل تقدير العطف لعدم استقامته ، بل لأن غيره هنا أوضح وأنسب ، يعني والمراد قد ظهر من الآية ظهوراً لا يدع لتوهم قصد نفي أحد الأمرين خطوراً بالأذهان ، ولهذا استدركه البيضاوي فجوز تقديرها عاطفة في هذه الآية .

وقد أفادت الآية حكماً بمنطوقها وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئاً من المال ، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي ، وحكى القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها ، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة ، ثم اختلفوا في وجوبها كما سيأتي . وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقداً لازماً بالقول ، واعتبرت المهر الذي هو من متمماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح ، بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه ، وهي تعيين مقداره بالقول ، وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية ، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس ، فالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت متبوعها ، بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات ، وفيه نظر ، والنفس لقول حماد بن سليمان أميل .

والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق ، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه : بالتصدي لبيان أحكامها ، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية ، فنحن نبسط القول في ذلك : إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق في الطبائع والأخلاق والأهواء والأميال ، وقد وجدنا المعاشرة نوعين : أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة ، وهي معاشرة النسب ، المختلفة في القوة والضعف ، بحسب شدة قرب النسب وبعده كمعاشرة الآباء مع الأبناء ، والإخوة بعضهم مع بعض ، وأبناء العم والعشيرة ، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان ، فنجد في قصر زمن المعاشرة ، عند ضعف الآصرة ، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال ، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيراً في مقدار الملاءمة ؛ لأنه بمقدار قرب النسيب ، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم ، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول ، فنشأ من السببين الجبلي ، والاصطحابي ، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة ، وحكم التعود والإلف ، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب .

النوع الثاني : معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة والخلة والحاجة والمعاونة ، وما هي إلا معاشرة مؤقتة تطول أو تقصر ، وتستمر أو تغب ، بحسب قوة الداعي وضعفه ، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة ، والتقصير في ذلك ، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع . ومعاشرة الزوجين في التنويع ، هي من النوع الثاني ، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول ، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي ، في أول عقد التزوج حتى تطول المعاشرة ويكتسب كل من الآخر خلقه ، إلا أن الله تعالى جعل في رغبة الرجل في المرأة إلى حد أن خطبها ، وفي ميله إلى التي يراها ، مذ انتسبت به واقترنت ، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة ، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يغرز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة وثقة بالخير ، تقوم مقام السبب الجبلي ، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني الجليل ، بقوله : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] .

وقد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما ، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة ، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوباً لكلا الزوجين ، وهذا لا إشكال فيه ، وقد يكون مرغوباً لأحدهما ويمتنع منه الآخر ، فلزم ترجيح أحد الجانبين وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد ، كيف وهو الذي سعى إليها ورغب في الاقتران بها ؛ ولأن العقل في نوعه أشد ، والنظر منه في العواقب أسد ، ولا أشد احتمالاً لأذى وصبراً على سوء خلق من المرأة ، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج ، وهذا التخلص هو المسمى : بالطلاق ، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي ، وقد تسأله المرأة من الرجل ، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها ، قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه :

تلك عِرساي تنطقان على عم *** د إلى اليوم قولَ زور وهَتْر

سَالَتَانِي الطلاق أَن رأَتامَا *** لي قليلاً قد جئتماني بنُكْـــر

وقال عبيد بن الأبرصْ :

تلكَ عِرسي غضبى تريد زيالي *** أَلبَيْن تري ، ، د أم لِـــدَلال

إن يكن طِبُّكِ الفــراقَ فلا أح *** فِلُ أن تعطفي صُدور الجِمال

وجعل الشرع للحاكم إذا أبى الزوج الفراق ولحق الزوجة الضرُّ من عشرته ، بعد ثبوت موجباته ، أن يطلقها عليه . فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع ، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتُفي برضا واحد : وهو الزوج ، تسهيلاً للفراق عند الاضطرار إليه ، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعاً ؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق ، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث ، كيف يعمد راغب في امرأة ، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها ، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها ، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف ، أسهل منه بعد التعارف .

وقرأ الجمهور ( ما لم تمسوهن ) بفتح المثناة الفوقية مضارع مس المجرد ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ، ( تماسوهن ) بضم المثناة الفوقية وبألف بعد الميم مضارع ماس ؛ لأن كلا الزوجين يمس الآخر .

وقوله : { ومتعوهن على الموسع قدره } الآية عطف على قوله : { لا جناح عليكم } عطف التشريع على التشريع ، على أن الاتحاد بالإنشائية والخبرية غير شرط عند المحققين ، والضمير عائد إلى النساء المعمول للفعل المقيد بالظرف وهو : { ما لم تَمسوهن أو تفرضوا } ، كما هو الظاهر ، أي متعوا المطلقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، ولا أحسب أحداً يجعل معاد الضمير على غير ما ذكرنا ، وأما ما يوجد من الخلاف بين العلماء في حكم المتعة للمطلقة المدخول بها ، فذلك لأدلة أخرى غير هذه الآية .

والأمر في قوله : { ومتعوهن } ظاهره الوجوب وهو قول علي وابن عمر والحسن والزهريّ وابن جبير وقتادة والضحاك وإسحاق بن راهويه ، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد ؛ لأن أصل الصِّيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى : { حقا على المحسنين } وقوله بعد ذلك ، في الآية الآتية : { حقا على المتقين } لأن كلمة { حقا } تؤكد الوجوب ، والمراد بالمحسنين عند هؤلاء المؤمنون ، فالمحسن بمعنى المحسن إلى نفسه بإبعادها عن الكفر ، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة ، وهو الأرجح لئلا يكون عقد نكاحها خلياً عن عوض المهر .

وجعل جماعة الأمر هنا للندب لقوله بعدُ : { حقا على المحسنين } فإنه قرينة على صرف الأمر إلى أحد ما يقتضِيه ، وهو ندب خاص مؤكد للندب العام في معنى الإحسان ، وهو قول مالك وشُريح ، فجعلها حقاً على المحسنين ، ولو كانت واجبة لجعلها حقاً على جميع الناس ، ومفهوم جعلها حقاً على المحسنين أنها ليست حقاً على جميع الناس ، وكذلك قوله { المتقين } في الآية الآتية ، لأن المتقي هو كثير الامتثال ، على أننا لو حملنا المتقين على كل مؤمن لكان بين الآيتين تعارض المفهوم والعموم ، فإن المفهوم الخاص يخصص العموم .

وفي « تفسير الأبّي » عن ابن عرفة : « قال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك : المتعة واجبة يقضى بها إذ لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا من المتقين إلا رجل سوء ، ثم ذكر ابن عرفة عن ابن عبد السلام عن ابن حبيب أنه قال بتقديم العموم على المفهوم عند التعارض ، وأنه الأصح عند الأصوليين ، قلت : فيه نظر ، فإن القائل بالمفهوم لا بد أن يخصص بخصوصه عموم العام إذا تعارضا ، على أن لمذهببِ مالك أن المتعة عطية ومؤاساة ، والمؤاساة في مرتبة التحسيني ، فلا تبلغ مبلغ الوجوب ، ولأنها مال بذل في غير عوض ، فيرجع إلى التبرعات ، والتبرعات مندوبة لا واجبة ، وقرينة ذلك قوله تعالى : { حقا على المحسنين } فإن فيه إيماء إلى أن ذلك من الإحسان لا من الحقوق ، على أنه قد نفى الله الجناح عن المطلق ثم أثبت المتعة ، فلو كانت المتعة واجبة لانتقض نفي الجناح ، إلا أن يقال : إن الجناح نفي لأن المهر شيء معين ، قد يجحف بالمطلق بخلاف المتعة ، فإنها على حسب وسعه ولذلك نفى مالك ندبَ المتعة للتي طلقت قبل البناء وقد سمَّى لها مهراً ، قال : فحسبها ما فرض لها أي لأن الله قصَرها على ذلك ، رفقاً بالمطلق ، أي فلا تندب لها ندب خاصاً ، بأمر القرآن . وقد قال مالك : بأن المطلقة المدخول بها يستحب تمتيعها ، أي بقاعدة الإحسان الأعم ولما مضى من عمل السلف .

وقوله : { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } الموسع من أوسع إذا صار ذا سعة ، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قَتر وهو ضيق العيش ، والقدر بسكون الدال وبفتحها ما به تعيين ذات الشيء أو حاله ، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام ، ويطلق على ما يساويه في القيمة ، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء في مراتب الناس في الثروة ، وهو الطبقة من القوم ، والطاقة من المال ، وقرأه الجمهور بسكون الدال ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بفتح الدال .