قوله جل وعلا : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } ، لا يقدرون على ذلك ، { ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } ، عوناً ومظاهراً . نزلت حين قال الكفار : لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله تعالى . فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب ، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق ، لأنه غير مخلوق ، ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله .
{ 88 } { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }
وهذا دليل قاطع ، وبرهان ساطع ، على صحة ما جاء به الرسول وصدقه ، حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله ، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله ، ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه .
ووقع كما أخبر الله ، فإن دواعي أعدائه المكذبين به ، متوفرة على رد ما جاء به بأي : وجه كان ، وهم أهل اللسان والفصاحة ، فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه .
فعلم بذلك ، أنهم أذعنوا غاية الإذعان ، طوعًا وكرهًا ، وعجزوا عن معارضته .
وكيف يقدر المخلوق من تراب ، الناقص من جميع الوجوه ، الذي ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا كلام ولا كمال إلا من ربه ، أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات ، المطلع على سائر الخفيات ، الذي له الكمال المطلق ، والحمد المطلق ، والمجد العظيم ، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا ، والأشجار كلها أقلام ، لنفذ المداد ، وفنيت الأقلام ، ولم تنفد كلمات الله .
فكما أنه ليس أحد من المخلوقين مماثلاً لله في أوصافه فكلامه من أوصافه ، التي لا يماثله فيها أحد ، فليس كمثله شيء ، في ذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله تبارك وتعالى .
فتبًا لمن اشتبه عليه كلام الخالق بكلام المخلوق ، وزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم افتراه على الله واختلقه من نفسه .
وقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } الآية ، سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن ، فإنا نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز ، المعلمة بأن جميع الخلائق لو تعاونوا إنساً وجناً على ذلك لم يقدروا عليه ، والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم والرصف لمعانيه ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عز وجل ، والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه للعلل التي ذكرنا أليق الكلام بها في المعنى ، وقد ذكرت هذه المسألة في صدر هذا الديوان ، وقوله { لا يأتون بمثله } في موضع رفع ، و { لا } متلقية قسماً ، واللام في قوله { لئن } مؤذنه غير لازمة قد تحذف أحياناً ، وقد تجيء هذه اللام مؤكدة فقط ، ويجيء الفعل المنفي مجزوماً ، وهذا اعتماد على الشرط ومنه قول الأعمش : [ البسيط ]
لئن منيت بنا عن غر معركة . . . لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل{[7692]}
و «الظهير » المعين ، ومنه قوله عز وجل { وإن تظاهرا عليه }{[7693]} الآية : وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به ما لا نفهمه نحن ، ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة ، وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ، ولكل حصل علم قطعي ، لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبي وأعماله مشاهدة علم ضرورة وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر ، فحصل للجميع القطع ، لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير في شعر ذي الرمة في قوله : يُعد الناسبون إلى تميم{[7694]} .
الأبيات كلها ، وألا ترى قصة جرير في نوادره مع الفرزدق : في قول الفرزدق : على م تلفتين ، وفي قوله : تلفت أنها تحت ابن قين{[7695]} .
وألا ترى إلى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى استدلال الآخر على البعث بقوله { حتى زرتم المقابر }{[7696]} فقال إن الزيارة تقتضي الانصراف ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى : وأنكرتني وما كان الذي نكرت{[7697]} ، ومنه قول الأعرابي للأصمعي : من أحوج الكريم إلى أن يقسم ؟ ومن فهمهم أنهم ببدائههم يأتون بكلمة منثورة تفضل المنقح من الشعر ، وأمثلة ذلك محفوظة ، ومن ذلك أجوبتهم المسكتة إلى غير ذلك من براعتهم في الفصاحة ، وكونهم فيها النهاية ، كما كان السحر في زمن موسى ، والطب في زمن عيسى ، فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ المحاد{[7698]} منهم إلى السيف ، ورضي بالقتل والسبا وكشف الحرم ، وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة ، وكذلك التحدي بالعشر السور ، والتحدي بالسورة إنما وقع كله على حد واحد في النظم خاصة ، وقيد العشر بالافتراء{[7699]} لأنهم ذكروا أن القرآن مفترى ، فدعاهم بعقب ذكر ذلك إلى الإتيان بعشر سور مفتريات ، ولم يذكر الافتراء في السورة لأنه لم يجر عنهم ذكر ذلك قبل ، بل قال
{ إن كنتم في ريب }{[7700]} على أنه قد جاء ذكر السورة مع ذكرهم الافتراء في سورة هود وقد اختلف الناس في هذا الموضع فقيل دعوا إلى السورة المماثلة في النظم والغيوب وغير ذلك من الأوصاف ، وكان ذلك من تكليف ما لا يطاق ، فلما عسر عليهم خفق بالدعوة إلى المفتريات ، وقيل غير هذا مما ينحل عند تحصيله .
استئناف للزيادة في الامتنان . وهو استئناف بياني لمضمون جملة { إن فضله كان عليك كبيراً } [ الإسراء : 87 ] . وافتتاحه ب ( قل ) للاهتمام به . وهذا تنويه بشرف القرآن فكان هذا التنويه امتناناً على الذين آمنوا به وهم الذين كان لهم شفاء ورحمة ، وتحدياً بالعجز على الإتيان بمثله للذين أعرضوا عنه وهم الذين لا يزيدهم إلا خساراً .
وجملة { لا يأتون بمثله } جواب القسم المحذوف .
وجرد الجواب من اللام الغالب اقترانها بجواب القسم كراهية اجتماع لامين : لام القسم ، ولام النافية .
ومعنى الاجتماع : الاتفاق واتحاد الرأي ، أي لو تواردت عقول الإنس والجن على أن يأتي كل واحد منهم بمثل هذا القرآن لما أتوا بمثله . فهو اجتماع الرأي لا اجتماع التعاون ، كما تدل عليه المبالغة في قوله بعده : { ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } .
وذكر الجن مع الإنس لقصد التعميم ، كما يقال : « لو اجتمع أهل السماوات والأرض » ، وأيضاً لأن المتحدِّين بإعجاز القرآن كانوا يزعمون أن الجن يقدرون على الأعمال العظيمة .
والمراد بالمماثلة للقرآن : المماثلة في مجموع الفصاحة والبلاغة والمعاني والآداب والشرائع ، وهي نواحي إعجاز القرآن اللفظي والعلمي .
وجملة { لا يأتون } جواب القسم الموطَأ له باللام . وجواب ( إن ) الشرطيّة محذوف دل عليه جواب القسم .
وجملة { ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } في موقع الحال من ضمير { لا يأتون } .
و ( لو ) وصلية ، وهي تفيد أن ما بعدها مظنة أن لا يشمله ما قبلها . وقد تقدم معناها عند قوله : { ولو افتدى به } في سورة [ آل عمران : 91 ] .
والظهير : المعين . والمعنى : ولو تعاون الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله فكيف بهم إذا حاولوا ذلك متفرقين .
وفائدة هذه الجملة تأكيد معنى الاجتماع المدلول بقوله : { لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن } أنه اجتماع تظافر على عمل واحد ومقصد واحد .