فصارت بينة ورحمة للمؤمنين ، وحجة على المعاندين ف { قَالَ } فرعون للسحرة : { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } أي : كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن ؟
استغرب ذلك منهم ، لأدبهم معه ، وذلهم ، وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم ، وجعل هذا من ذاك .
ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان ، واستخف عقول قومه ، وأظهر لهم أن هذه الغلبة من موسى للسحرة ، ليس لأن الذي معه الحق ، بل لأنه تمالأ هو والسحرة ، ومكروا ، ودبروا أن يخرجوا فرعون وقومه من بلادهم ، فقبل قومه هذا المكر منه ، وظنوه صدقا { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } مع أن هذه المقالة التي قالها ، لا تدخل عقل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة بالواقع ، فإن موسى أتى من مدين وحيدا ، وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة ولا غيرهم ، بل بادر إلى دعوة فرعون وقومه ، وأراهم الآيات ، فأراد فرعون أن يعارض ما جاء به موسى فسعى ما أمكنه ، وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم .
فجاءوا إليه ، ووعدهم الأجر والمنزلة عند الغلبة ، وهم حرصوا غاية الحرص ، وكادوا أشد الكيد ، على غلبتهم لموسى ، وكان منهم ما كان ، فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم وموسى واتفقوا على ما صدر ؟ هذا من أمحل المحال ، ثم توعد فرعون السحرة فقال : { فلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ }
كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد ، يقطع يده اليمنى ، ورجله اليسرى ، { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي : لأجل أن تشتهروا وتختزوا ، { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } يعني بزعمه هو أو الله ، وأنه أشد عذابا من الله وأبقى ، قلبا للحقائق ، وترهيبا لمن لا عقل له .
وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وورش عن نافع «آمنتم » على الخبر ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «ءامنتم » بهمزة بعدها مدة ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «أأمنتم » بهمزتين ، وقوله { قبل أن آذن لكم } مقاربة منه وبعض إذعان . وقوله { من خلاف } يريد قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى ، قوله { في جذوع النخل } اتساع من حيث هو مربوط في الجذع وليست على حد قولك ركبت على الفرس ، وقوله { أينا } يريد نفسه ورب موسى عليه السلام ، وقال الطبري يريد نفسه وموسى عليه السلام والأول أذهب مع مخرفة فرعون{[8134]} .
ويقال : آمن له ، أي حصل عنده الإيمانُ لأجله . كما يقال : آمن به ، أي حصل الإيمان عنده بسببه . وأصل الفعل أن يتعدى بنفسه لأنّ آمنه بمعنى صَدقه ، ولكنه كاد أن لا يستعمل في معنى التصديق إلاّ بأحد هذين الحرفين .
وقرأ قالون وورش من طريق الأزرق ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وروحٌ عن يعقوب { ءامنتم } بهمزة واحدة بعدها مَدّة وهي المدّة الناشئة عن تسهيل الهمزة الأصلية في فعل آمن ، على أنّ الكلام استفهام .
وقرأه ورش من طريق الأصفهاني ، وابنُ كثير ، وحفص عن عاصم ، ورويسٌ عن يعقوب بهمزة واحدة على أنّ الكلام خبر ، فهو خبر مستعمل في التوبيخ .
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بهمزتين على الاستفهام أيضاً .
لما رأى فرعون إيمان السحرة تغيّظ ورام عقابهم ولكنه علم أنّ العقاب على الإيمان بموسى بعد أن فتح باب المناظرة معه نكث لأصول المناظرة فاختلق للتشفّي من الذين آمنوا علّة إعلانهم الإيمان قبل استئذانِ فرعون ، فعدّ ذلك جرأة عليه ، وأوهم أنّهم لو استأذنوه لأذن لهم ، واستخلص من تسرعهم بذلك أنهم تواطؤوا مع موسى من قبلُ فأظهروا العجز عند مناظرته . ومقصد فرعون من هذا إقناع الحاضرين بأنّ موسى لم يأت بما يعجز السحرة إدخالاً للشكّ على نفوس الذين شاهدوا الآيات . وهذه شِنْشِنة من قديم الزمان اختلاق المغلوب بارد العذر . ومن هذا القبيل اتهام المحكوم عليهم الحاكمين بالارتشاء ، واتهام الدول المغلوبة في الحروب قواد الجيوش بالخيانة .
وضمير { لَهُ } عائد إلى موسى مثل ضمير { إنه لكبيركُم .
ومعنى { قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُم } قبل أن أسوّغ لكم أن تؤمنوا به . يقال : أذِن له ، إذ أباح له شيئاً .
والتقطيع : شدّة القطع . ومرجع المبالغة إلى الكيفية ، وهي ما وصفه بقوله { مِن خِلاف } أي مختلفة ؛ بأن لا تقطع على جانب واحد بل من جانبين مختلفين ، أي تقطع اليد ثمّ الرجلُ من الجهة المخالفة لجهة اليد المقطوعة ثم اليد الأخرى ثم الرجل الأخرى . والظاهر : أنّ القطع على هذه الكيفية كان شعاراً لقطع المجرمين ، فيكون ذكر هذه الصفة حكاية للواقع لا للاحتراز عن قطع بشكل آخر ، إذ لا أثر لهذه الصفة في تفظيع ولا في شدّة إيلام إذا كان ذلك يقع متتابعاً .
وأما ما جاء في الإسلام في عقوبة المحارب فإنما هو قطع عضو واحد عند كل حرابة فهو من الرحمة في العقوبة لئلا يتعطّل انتفاع المقطوع بباقي أعضائه من جرّاء قطع يَد ثمّ رجل من جهة واحدة ، أو قطع يد بعد يد وبقاء الرجلين .
و ( من ) في قوله { مِنْ خلاف } للابتداء ، أي يبدأ القطع من مبدأ المخالفة بين المقطوع . والمجرور في موضع الحال ، وقد تقدّم نظيره في سورة الأعراف وفي سورة المائدة .
والتصليب : مبالغة في الصلب . والصلب : ربط الجسم على عود مُنتصب أو دَقُّهُ عليه بمسامير ، وتقدم عند قوله تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه } في سورة النساء ( 157 ) . والمبالغة راجعة إلى الكيفية أيضاً بشدّة الدقّ على الأعواد .
ولذلك عدل عن حرف الاستعلاء إلى حرف الظرفية تشبيهاً لشدّة تمكّن المصلوب من الجذع بتمكن الشيء الواقع في وعائه .
والجذوع : جمع جذع بكسر الجيم وسكون الذال وهو عود النخلة . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وهزي إليك بجذع النخلة } [ مريم : 25 ] . وتعدية فعل { ولأُصلّبَنَّكُم } بحرف ( في ) مع أنّ الصلب يكون فوق الجذع لا داخله ليدل على أنه صلب متمكن يُشبه حصول المظروف في الظرف ، فحرف ( في ) استعارة تبعيّة تابعة لاستعارة متعلَّق معنى ( في ) لمتعلَّق معنى ( على ) .
وأيّنا : استفهام عن مشتركيْن في شدّة التعذيب . وفعل { لتعلمُن معلق عن العمل لوقوع الاستفهام في آخره . وأراد بالمشتركين نفسَه وربّ موسى سبحانه لأنه علم من قولهم { آمنا برب هارون وموسى } [ الشعراء : 47 ] أن الذي حملهم على الإيمان به ما قدم لهم موسى من الموعظة حين قال لهم بمسمع من فرعون { ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب } [ طه : 61 ] ، أي وستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حُذرتموه . وهذا من غروره . ويدل على أن ذلك مراد فرعون ما قابل به المؤمنون قوله { أينا أشدّ عذاباً وأبقى بقولهم والله خير وأبقى } [ طه : 73 ] ، أي خير منك وأبقى عملاً من عملك ، فثوابه خير من رضاك وعذابه أشد من عذابك .