اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ} (71)

( فصل{[25597]} ){[25598]}

قوله : { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } اعلم أن فرعون لما شاهد منهم السجود والإقرار خاف أنْ يصير{[25599]} ذلك سبباً لاقتداء سائر الناس بهم في الإيمان بالله وبرسوله ففي الحال ألقى هذه الشبهة في النبي{[25600]} ، وهي مشتملة{[25601]} على التنفير من وجهين :

الأول : أن الاعتماد على أول خاطر لا يجوز بل لا بد فيه من البحث ، والمناظرة ، والاستعانة بخواطر الغير ، فلمَّا لم تفعلوا شيئاً من ذلك بل في الحال " آمَنْتُمْ لَهُ " دَلَّ ذلك على أن{[25602]} إيمانكم ليس عن{[25603]} بصيرة بل لسبب آخر .

والثاني : قوله : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } يعني : أنكم تلامذته في السحر ، فاصطلحتم{[25604]} على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجاً لأمره وتفخيماً لشأنه . ثم بعد إيراد هذه الشبهة اشتغل بالتهديد تنفيراً لهم عن الإيمان ، وتنفيراً لغيرهم عن الاقتداء بهم ، فقال : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ }{[25605]} .

قوله : { لأُقَطِّعَنَّ } تقدم نحوه{[25606]} ، و " مِنْ خِلاَفٍ " حال أي مختلفة و " مِنْ " لابتداء الغاية ، وتقدم تحرير{[25607]} هذا ، وما قرئ به وقوله : { فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } يحتمل أن يكون حقيقة ، ففي التفسير{[25608]} أنه نَقَّر{[25609]} جذوع النخل حتى{[25610]} جوَّفَها ووضعَهُم{[25611]} فيها فماتوا{[25612]} جوعاً وعطشاً{[25613]} وأن يكون مجازاً ، وله وجهان :

أحدهما{[25614]} : أنه وضع ( في ) مكان{[25615]} ( عَلَى ) ، والأصل : على جذوع النخل{[25616]} ، كقول الآخر{[25617]} :

بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ *** يُحْذَى نِعَالَ السَّبْتِ لَيْسَ ( بتَوْأَمِ{[25618]} ){[25619]}

والثاني : أنه شبه تمكنهم بتمكن مَنْ حواء الجذع واشتمل عليه ، شبه تمكن المصلوب في الجِذْعِ بتمكُّن الشيء{[25620]} الموعَى في وعائه ، فلذلك قيل{[25621]} " فِي جُذُوعِ النَّخْلِ " {[25622]} . ومِنْ تَعدِّي ( صَلَبَ ) ب ( فِي ) قوله :

وَقَدْ صَلَبُوا العَبْدِيَّ فِي جِذْعِ{[25623]} نَخْلَةٍ *** فَلاَ عَطَسَتْ شَيْبَانُ إلاَّ بِأَجْدَعَا{[25624]}

قوله : { أيُّنَا أَشَدُّ } مبتدأ وخبر ، وهذه الجملة سادة مسد المفعولين إنْ كانت ( علم ) على بابها{[25625]} ، ومسد واحد{[25626]} إنْ كانت عِرفَانِيَّة{[25627]} . ويجوز على جعلها عِرْفَانِية أن تكون " أيْنَا " موصولة بمعنى ( الذي ) وينبت لأنها قد أضيفت وحذف صدر صلتها و " أَشَدُّ " خبر مبتدأ محذوف ، والجملة من ذلك المبتدأ وهذا{[25628]} الخبر صلة ل " أَيّ " ، و " أَيُّ " وما في خبرها في محل نصب مفعولاً به كقوله تعالى : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن }{[25629]} في أحد وجهيه كما تقدم{[25630]} . و أراد بقوله : " أينا " نفسه – لعنة الله - وموسى{[25631]} ، لقوله{[25632]} : { آمنتم له }{[25633]} و { أَشَدُّ عذاباً } أي : أَنَّا عَلى إيمانُكم بهِ أو رَبّ موسى على ترك الإيمان به ، " وَأَبْقَى " أي : أَدْوَمْ{[25634]} .

فإن قيل{[25635]} : إنَّ فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حيَّة عظيمة ، وذكر أنها قصدت ابتلاع قصر فرعون ، وآلَ الأمرُ إلى أنْ استغاثَ بموسى من شر{[25636]} ذلك الثعبان ، فمع قرب عهده بذلك ، وعجزه عن{[25637]} دفعه كيف يعقل أن يهدد السحرة ، ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ، ويستهزئ بموسى ، ويقول : " أيّنا أَشَدُّ عذاباً " ؟

فالجواب : يجوز أن يقال : إنَّه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنَّه كان يظهر الجلادة والوقاحة تمشيةٌ لِنَامُوسِهِ ، وترويجاً لأمره .

ومن استقرى أحوال أهل العالم علم أنَّ العاجز{[25638]} قد يفعل أمثال هذه الأشياء ، ويدل على صحة ذلك أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن عذابَ الله أشدُّ من عذاب البشر ، ثم إنه{[25639]} أنكر ذلك .

وأيضاً : فقد كان عالماً بكذبه في قوله : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } لأنه علم أنْ موسى ما خالطهم البتة ، وما لقيهم ، وكان يعرف من سحرته ويعرف أستاذ كل واحد من هو ، وكيف حصَّلَ ذلك العلم ، ثم إنه مع ذلك قال هذا الكلام ، فثبت أن سبيله في ذلك{[25640]} ما ذكرناه ، وقال{[25641]} ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا في النهار سحرة ، وفي آخره شهداء{[25642]} .


[25597]:ذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/87.
[25598]:ما بين القوسين سقط من ب.
[25599]:في ب أن يكون.
[25600]:في النبي: سقط من ب.
[25601]:ي ب: وهي تدل. وهو تحريف.
[25602]:أن : سقط من ب.
[25603]:عن: سقط من ب.
[25604]:في ب: واصطلحتم.
[25605]:ما بين القوسين سقط من ب.
[25606]:عند قوله تعالى: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين} [الأعراف: 124]. وذكر ابن عادل هناك: وقرأ مجاهد وابن جبير وحميد المكي وابن محيصن "لأقطعن" مخففا من قطع الثلاثي، وكذا "لأصلبنكم" من صلب الثلاثي، وروى ضم اللام وكسرها وهما لغتان في المضارع يقال: صلبه يصلبه ويصلبه. وقوله: "من خلاف" يحتمل أن يكون المعنى أنه يقطع من كل شق طرفا فيقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى فيكون من خلاف "حالا"، أي: مختلفة، ويحتمل أن يكون المعنى "لأقطعن" لأجل مخالفتكم إياي فتكون "من" تعليلية. انظر اللباب 4/85.
[25607]:في ب: تجويز. وهو تحريف.
[25608]:ي ب: يحتمل أن يكون في التفسير. وهو تحريف.
[25609]:في ب: يقرأ. وهو تحريف.
[25610]:في ب: حفر. وهو تحريف.
[25611]:في ب: ووصفهم. وهو تحريف.
[25612]:في ب: فيموتوا. وهو تحريف.
[25613]:قال أبو البقاء: "قوله تعالى: "في جذوع النخل": في هنا على بابها، لأن الجذع مكان للمصلوب ومحتو عليه) التبيان 2/897).
[25614]:ي ب: الأول.
[25615]:في ب: موضع.
[25616]:انظر معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/368، التبيان 2/897.
[25617]:في ب: كقوله.
[25618]:البيت من بحر الكامل، وهو من معلقة عنترة بن شداد. والشاهد فيه أن (في) بمعنى (على) أي: على سرحة.
[25619]:ما بين القوسين في ب: يعوام.
[25620]:ي ب: في الجذع كالشيء.
[25621]:ي ب: قال. وهو تحريف.
[25622]:انظر الفخر الرازي 22/87.
[25623]:في ب: جذوع. وهو تحريف.
[25624]:البيت من بحر الطويل قاله سويد بن أبي كاهل اليشكري، ونسبه ابن جني في الخصائص لامرأة من العرب. وهو في مجاز القرآن 2/24، المقتضب 2/318، الكامل 2/1001، معاني القرآن وإعرابه للزجاج 3/368، الخصائص 2/313، أمالي ابن الشجري 2/367 ابن يعيش 8/21، القرطبي 11/224 اللسان (عبد) المغني 1/168 شرح شواهده 1/379. العبديّ: نسبة إلى عبد القيس. الأجدع: الأنف المقطوع. والشاهد فيه تعدي (صلب) بـ (في). أو على أن (في) بمعنى (على).
[25625]:في ب: إن كانت علما بأينا، وهو تحريف.
[25626]:في ب: ومسدا واحدا. وهو تحريف.
[25627]:وذلك لأن (علم) إذا كانت بمعنى أيقن تعدت إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر نحو قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار} [الممتحنة: 10] وإن كانت بمعنى عرف تعدت إلى مفعول واحد نحو قوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا} [النحل: 78] انظر الهمع 1/149.
[25628]:ذا: سقط من ب.
[25629]:مريم: 69].
[25630]:ي أوائل السورة.
[25631]:في ب: وموسى عليه الصلاة والسلام.
[25632]:في ب: بقوله.
[25633]:بق إلى تقرير هذا المعنى العلامة الزمخشري 2/441.
[25634]:نظر تفسير البغوي 5/443.
[25635]:من هنا نقله ابن عادل عن تفسير الفخر الرازي 22/88.
[25636]:شر : سقط من ب.
[25637]:ي الأصل: و. وهو تحريف.
[25638]:في ب: الفاجر. وهو تحريف.
[25639]:أنه: سقط من الأصل.
[25640]:ي ب: سبيل ذلك. وهو تحريف.
[25641]:في ب: فصل قال.
[25642]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/88.