قوله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } . قال قتادة والسدي : نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد ، وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وأنواع الأذى كما قال الله تعالى : ( وبلغت القلوب الحناجر ) وقيل نزلت في حرب أحد . وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد عليهم الضر ، لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسر قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى تطييباً لقلوبهم ( أم حسبتم ) أي : أحسبتم ، " والميم " صلة ، قاله الفراء ، وقال الزجاج : بل حسبتم ، ومعنى الآية : أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة .
قوله تعالى : { ولما يأتكم } . أي ولم يأتكم " وما " صلة .
قوله تعالى : { مثل الذين خلوا } . شبه الذين مضوا .
قوله تعالى : { من قبلكم } . من النبيين ، والمؤمنين .
قوله تعالى : { مستهم البأساء } . الفقر والشدة والبلاء .
قوله تعالى : { والضراء } . المرض والزمانة .
قوله تعالى : { وزلزلوا } . أي حركوا بأنواع البلايا ، والرزايا وخوفوا .
قوله تعالى : { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } . ما زال البلاء بهم حتى استبطؤوا النصر . قوله تعالى : { ألا إن نصر الله قريب } . قرأ نافع ( حتى يقول الرسول ) بالرفع ، معناه " حتى قال الرسول " ، وإذا كان الفعل الذي يلي " حتى " في معنى الماضي ، ولفظه لفظ المستقبل فلك فيه الوجهان ، الرفع والنصب ، فالنصب على ظاهر الكلام ، لأن حتى تنصب الفعل المستقبل ، والرفع لأن معناه الماضي ، وحتى لا تعمل في الماضي .
قوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون } . نزلت في عمرو بن الجموح ، وكان شيخاً كبيراً ذا مال فقال : يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق ؟ وعلى من ننفق ؟ فأنزل الله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون } .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( 214 ) .
يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم ، فهي سنته الجارية ، التي لا تتغير ولا تتبدل ، أن من قام بدينه وشرعه ، لا بد أن يبتليه ، فإن صبر على أمر الله ، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله ، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها ، ومن السيادة آلتها .
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله ، بأن صدته المكاره عما هو بصدده ، وثنته المحن عن مقصده ، فهو الكاذب في دعوى الإيمان ، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني ، ومجرد الدعاوى ، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه .
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم ( مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ ) أي : الفقر ( وَالضَّرَّاءُ ) أي : الأمراض في أبدانهم ( وَزُلْزِلُوا ) بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل ، والنفي ، وأخذ الأموال ، وقتل الأحبة ، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال ، وآل بهم الزلزال ، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به .
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال ( الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ) .
فلما كان الفرج عند الشدة ، وكلما ضاق الأمر اتسع ، قال تعالى : ( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن .
فكلما اشتدت عليه وصعبت ، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة ، والمشقات راحات ، وأعقبه ذلك ، الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ .
وقوله [ تعالى : ] الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ فعند الامتحان ، يكرم المرء أو يهان .
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على الأنبياء بعد مجيء الآيات ، تشجيعا لهم على الثبات مع مخالفتهم . و{ أم } منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار { ولما يأتكم } ولم يأتكم ، وأصل { لما } لم زيدت عليها ما وفيها توقع ولذلك جعلت مقابل قد . { مثل الذين خلوا من قبلكم } حالهم التي هي مثل في الشدة . { مستهم البأساء والضراء } بيان له على الاستئناف . { وزلزلوا } وأزعجوا إزعاجا شديدا بما أصابهم من الشدائد . { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه } لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر . وقرأ نافع يقول بالرفع على أنه حكاية حال ماضية كقولك مرض حتى لا يرجونه . { متى نصر الله } استبطاء له لتأخره . { ألا إن نصر الله قريب } استئناف على إرادة القول أي فقيل لهم ذلك إسعافا لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر ، وفيه إشارة إلى أن الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ، ومكابدة الشدائد والرياضات كما قال عليه الصلاة والسلام " حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات " .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( 214 )
وقوله تعالى : { أم حسبتم } الآية ، { أم } قد تجيء لابتداء كلام بعد كلام وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة ألف استفهام ، وحكى بعض اللغويين أنها قد تجىء بمثابة ألف الاستفهام( {[1996]} ) يبتدأ بها ، و { حسبتم } تطلب مفعولين ، فقال النحاة { أن تدخلوا } تسد مسد المفعولين لأن الجملة التي بعد { أن } مستوفاة المعنى ، ويصح أن يكون المفعول الثاني محذوفاً ، تقديره أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً ، و { لما } ، ولا يظهر أن يتقدر المفعول الثاني في قوله { ولمّا يأتكم } بتقدير أحسبتم دخولكم الجنة خلواً من أن يصيبكم ما أصاب من قبلكم ، لأن { خلوا } حال ، والحال هنا إنما تأتي بعد توفية المفعولين ، والمفعولان هما الابتداء والخبر قبل دخول حسب ، و { البأساء } : في المال ، و { الضراء } : في البدن : و { خلوا } معناه انقرضوا ، أي صاروا في خلاء من الأرض .
وهذه الآية نزلت في قصة الأحزاب حين حصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة ، هذا قول قتادة والسدي وأكثر المفسرين .
وقالت فرقة : نزلت الآية تسلية للمهاجرين الذين أصيبت أموالهم بعدهم في بلادهم وفتنوا هم قبل ذلك ، و { مثل } معناه شبه ، فالتقدير شبه آتى الذين { خلوا }( {[1997]} ) ، والزلزلة شدة التحريك ، تكون في الأشخاص وفي الأحوال ، ومذهب سيبويه أن «زلزل » رباعي ك «دحرج » .
وقال الزجّاج : «هو تضعيف في زل » فيجيء التضعيف على هذا في الفاء ، وقرأ الأعمش «وزلزلوا ويقول الرسول » بالواو بدل حتى ، وفي مصحف ابن مسعود «وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول » ، وقرا نافع «يقولُ » بالرفع ، وقرأ الباقون «يقولَ » بالنصب ، ف { حتى } غاية مجردة تنصب الفعل بتقدير إلى أن ، وعلى قراءة نافع كأنها اقترن بها تسبيب فهي حرف ابتداء ترفع الفعل( {[1998]} ) ، وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين ، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر لا على شك ولا ارتياب( {[1999]} ) ، و { الرسول } اسم الجنس( {[2000]} ) ، وذكره الله تعظيماً للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول ، وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله فيقول الرسول { ألا إن نصر الله قريب } ، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ثم قدم قول المؤمنين لأنه المتقدم في الزمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تحكم ، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر( {[2001]} ) ، ويحتمل أن يكون { ألا إن نصر الله قريب } إخباراً من الله تعالى مؤتنفاً بعد تمام ذكر القول .