فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ} (214)

{ أم } هنا : منقطعة بمعنى : بل . وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة همزة الاستفهام يبتدأ بها الكلام ، فعلى هذا معنى الاستفهام هنا : التقرير ، والإنكار ، أي : أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً ، ولم تُمْتَحنوا بمثل ما امتِحَن به مَنْ كان قبلكم ، فتصبروا كما صبروا ؟ ذكر الله سبحانه هذه التسلية بعد أن ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم ، تثبيتاً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] وقوله تعالى : { الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1 - 2 ] وقوله : { مَسَّتْهُمْ } بيان لقوله : { مثَلُ الذين خَلَوْا } ، و { البأساء والضراء } قد تقدّم تفسيرهما ، والزلزلة : شدّة التحريك يكون في الأشخاص وفي الأحوال ، يقال : زلزل الله الأرض زَلزلة ، وزلزالاً بالكسر ، فتزلزلت إذا تحركت ، واضطربت ، فمعنى زُلزلوا : خُوِّفوا وأزعجوا إزعاجاً شديداً . وقال الزجاج : أصل الزلزلة : نقل الشيء من مكانه ، فإذا قلت : زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه .

وقوله : { حتى يَقُولَ } أي : استمرّ ذلك إلى غاية هي : قول الرسول ، ومن معه { متى نَصْرُ الله } والرسول هنا قيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو شعياء . وقيل هو كل رسول بعث إلى أمته . وقرأ مجاهد ، والأعرج ، ونافع ، وابن محيصن بالرفع في قوله : { حتى يَقُولَ } وقرأ غيرهم بالنصب ، فالرفع : على أنه حكاية لحال ماضية ، والنصب بإضمار «أن » على أنه غاية لما قبله . وقرأ الأعمش : { وَزُلْزِلُوا وَيَقُولُ الرسول } بالواو بدل حتى ، ومعنى ذلك : أن الرسول ومن معه بلغ بهم الضجر إلى أن قالوا هذه المقالة المقتضية لطلب النصر ، واستبطاء حصوله ، واستطالة تأخره ، فبشرهم الله سبحانه بقوله : { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } . وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله ؟ ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ألا إن نصر الله قريب . ولا مُلْجىء لهذا التكلف ، لأن قول الرسول ، ومن معه : { متى نَصْرُ الله } ليس فيه إلا استعجال النصر من الله سبحانه ، وليس فيه ما زعموه من الشكّ ، والارتياب حتى يحتاج إلى ذلك التأويل المتعسّف .

وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ، أن هذه الآية نزلت في يوم الأحزاب ، أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ، وأصحابه بلاء ، وحصر . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه ، وصفوته لتطيب أنفسهم ، فقال { مسَّتْهُمُ البأساء والضراء } فالبأساء : الفتن ، والضرّاء : السقم ، وزلزلوا بالفتن ، وأذى الناس إياهم .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { وَلَمَّا يَاتِكُم مثَلُ الذين خَلَوْا } قال : أصابهم هذا يوم الأحزاب حتى قال قائلهم : { ما وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 12 ] ولعله يعني بقوله : حتى قال قائلهم : يعني : قائل المنافقين كما يفيد ذلك قوله تعالى : { إِذْ جَاءوكُمْ من فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَل مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا * هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِم مرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 10 - 12 ] .