اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ} (214)

" أَمْ " هذه فيها أربعة أقوالٍ :

الأول : أنْ تكون منقطعةً فتتقدَّر ب " بل " والهمزة . ف " بل " لإضراب انتقالٍ من إِخْبَارٍ إلى إِخْبَارٍٍ ، والهمزةُ للتقرير . والتقدير بل حسبتم .

والثاني : أنها لمجرد الإضراب مِنْ غير تقدير همزة بعدها ، وهو قول الزَّجَّاج وأنشد : [ الطويل ]

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشِّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى *** وَصُوَرتِهَا أَمْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ{[3256]}

أي : بل أنت .

والثالث : وهو قول الفرَّاء وبعض الكُوفيِّين ، أنها بمعنى الهمزة . فعلى هذا يُبتدأُ بها في أوَّل الكلام ، ولا تحتاجُ إلى الجملة قبلها يضرب عنها .

الرابع : أنها مُتَّصلةٌ ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملةٍ محذوفةٍ قبلها .

قال القفَّال : " أمْ " هنا استفهامٌ متوسطٌ ؛ كما أَنَّ " هَلْ " استفهامٌ سابقٌ ، فيجوز أَنْ يقال : هل عندك رجلٌ ، أَمْ عندك امرأَةٌ ؟ ولا يجوز أَنْ يقال ابتداءً أَمْ عندك رجل ، فأَمَّا إذا كان متوسطاً ، جاز سواءٌ كان مسبُوقاً باستفهامٍ آخر ، أو لا يكون ، أَمَّا إذا كان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك : أنت رجلٌ لا تنصف ، أفعن جهل تفعلُ هذا ، أم لك سلطانٌ ؟ وأَمَّا الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام ؛ فكقوله :

{ الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } [ السجدة : 1 - 3 ] فكذا تقدير هذا الآية : فهدى اللَّهُ الذين آمنوا فصبروا على استهزَاءِ قومهم ، أفتسلكُون سبيلهم أم تحسبون أَنْ تدخُلُوا الجنَّةَ مِنْ غيرِ سلوكِ سبيلهم .

" حَسب " هنا من أَخواتِ " ظنَّ " ، تنصبُ مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، و " أن " وما بعدها سادة مسد المفعولين عند سيبويه ، ومسدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش ، كما تقدَّم ، ومضارعها فيه الوجهان :

الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ . ولها نظائرُ من الأفعالِ تأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في آخرِ السورةِ ، ومعنها الظَّنُّ ، وقد تستعملُ في اليقين ؛ قال : [ الطويل ]

حَسِبْتُ التُّقَى وَالجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ *** رَبَاحاً إِذَا مَا المَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ{[3257]}

ومصدرُها : الحُسْبان . وتكون غير متعديةٍ ، إذا كان معناها الشقرة ، تقول : زيدٌ ، أي : اشْقَرَّ ، فهو أَحْسَبُ ، أي : أَشْقَرُ .

قوله : " وَلَمَّا يَأْتِكمْ " الواو للحال ، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، أي : غير آتيكم مثلهم . و " لمَّا " حرف جزمٍ ، معناه النفي ؛ ك " لم " ، وهو أبلغ من النفي ب " لم " ؛ لأنَّها لا تنفي إلاَّ الزمان المتصل بزمان الحال . والفرق بينها وبين " لم " من وجوهٍ :

أحدها : أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام ، إذ دلَّ عليه دليلٌ .

وهو أحسن ما تخرَّج عليه قراءة " وإِنْ كُلاًّ لَمَّا " كقوله : [ الوافر ]

فَجئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً وَلَمَّا *** فَنَادَيْتُ الْقُبُورَ فَلَمْ تَجِبْنَهْ{[3258]}

أي : ولمَّا أكن بدءاً ، أي : مبتدئاً ؛ بخلاف " لَمْ " فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة ؛ كقوله : [ الكامل ]

وَاحْفَظْ وَدِيعَتَكَ الَّتِي أُودِعْتَهَا *** يَوْمَ الأَعَازِب إِنْ وَصَلْتَ وَإِنْ لَمِ{[3259]}

ومنها : أنَّها لنفي الماضي المتصل بزمان الحال ، و " لم " لنفيه مطلقاً أو منقطعاً على ما مرَّ .

ومنها : أنَّ " لَمَّا " لا تدخل على فعل شرطٍ ، ولا جزاءٍ بخلاف " لم " .

ومنها أنّ " لَمْ " قد تلغى بخلاف " لَمَّا " ، فإنها لم يأتِ فيها ذلك ، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة " الحُجُرَاتِ " عند قوله تعالى : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ } [ الحجرات : 14 ] .

واختلف في " لَمَّا " فقيل : مركبة من لم و " ما " زيدت عليها .

وقال سيبويه : بسيطة وليست " ما " زائدة ؛ لأنَّ " لما " تقع في مواضع لا تقع فيها " لم " ؛ يقول الرجل لصاحبه : أقدِّم فلاناً ، فيقول " لَمَّا " ، ولا يقال : " لَمْ " مفردةً .

قال المبرّد : إذا قال القائل : لم يأتني زيدٌ ، فهو نفيٌ لقولك أتاك زيدٌ ، وإذا قال لَمَّا يأتني ، فمعناه : أنَّه لم يأتني بعد ، وأنا أتوقَّعه ؛ قال النابغة : [ الكامل ]

أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أنَّ رَكَابَنَا *** لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ{[3260]}

وفي قوله " مَثَلُ الَّذِينَ " حذف مضافٍ ، وحذفُ موصوفٍ ، تقديره : ولمَّا يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا .

و " مِنْ قَبْلِكُمْ " متعلِّقٌ ب " خَلَوا " وهو كالتأكيد ، فإنَّ الصلة مفهومةٌ من قوله : " خَلَوْا " .

فصل في سبب نزول " أم حسبتم " الآية

قال ابن عبَّاس ، وعطاء : لمَّا دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتدَّ عليهم الضرر ؛ لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ ، وتركوا ديارهم ، وأموالهم بأيدي المشركين ، وآثروا رضا الله ورسوله ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسرَّ قوم النفاق ، فأنزل الله تعالى ؛ تطييباً لطيوبهم : " أَمْ حَسِبْتُمْ{[3261]} " .

وقال قتادة والسُّديُّ : نزلت في " غَزْوَةِ الخنْدَقِ " أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد ، والحزن ، وشدَّة الخوف ، والبرد ، وضيق العيش ، وأنواع الأذى ؛ كما قال تعالى : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ }{[3262]} [ الأحزاب : 10 ] وقيل : نزلت في " غَزْوَةِ أُحُد " لما قال عبد الله بن أُبيٍّ لأصحاب النبي عليه السلام إلى متى تقتلون أنفسكم ، وترجون الباطل ، ولو كان محمد نبياً ، لمَّا سلَّط الله عليكم الأسر والقتل ، فأنزل الله تعالى هذه الآية{[3263]} " أَمْ حَسِبْتُمْ " ، أي : المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بمجرد الإيمان بي ، وتصديق رسولي ، دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبَّدكم به ، وابتلاكم بالصبر عليه ، وأن ينالكم من أذى الكفار ، ومن احتمال الفقر ومكابدة الضر والبؤس ، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدوِّ ؛ كما كان ذلك فيما كان من قبلكم من المؤمنين ، والمَثَلُ هو المِثْلُ ، وهو الشَّبه ، إلاَّ أنَّ المثل لحالةٍ غريبةٍ ، أو قصَّة عجيبةٍ لها شأنٌ ؛ ومنه قوله تعالى : { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } [ النحل : 60 ] أي : الصفة التي لها شأن عظيم .

قوله : " مَسَّتْهم البأْسَاءُ " في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أن تكون لا محلّ لها من الإعراب ؛ لأنها تفسيريةٌ ، أي : فسَّرَتِ المثل وشرحته ، كأنه قيل : ما كان مثلهم ؟ فقيل : مسَّتهم البأساء .

والثاني : ان تكون حالاً على إضمار " قَدْ " جوَّز ذلك أبو البقاء{[3264]} ، وهي حالٌ من فاعلٍ " خَلَوا " . وفي جعلها حالاً بُعْدٌ .

و " البَأْسَاءُ " : اسمٌ من البؤْسِ بمعنى الشِّدِّة ، وهو البلاء والفقر .

و " الضَّرَّاءُ " : الأمراض ، والآلام ، وضروب الخوف .

قال أبو العبَّاس المقريُّ : ورد لفظ " الضُّرِّ " في القرآن على أربعة أوجهٍ :

الأول : الضُّرُّ : الفقر ؛ كهذه الآية ، ومثله : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ } [ يونس : 12 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ } [ النحل : 53 ] أي : الفقر .

الثاني : الضّرّ : القحط ؛ قال تعالى : { أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ }

[ الأعراف : 94 ] أي : قحطوا .

أو قوله تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ }

[ يونس : 21 ] أي : قحط .

الثالث : الضُّرُّ : المرض ؛ قال تعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ }

[ يونس : 207 ] أي : بمرض .

الرابع : الضر : الأهوال ؛ قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ }

[ الإسراء : 67 ] .

قوله : " وَزُلْزِلُوا " أي : حرِّكوا بأنواع البلايا والرَّزايا .

قال الزَّجَّاج : أصل الزَّلزلة في اللغة من زلَّ الشيء عن مكانه ، فإذا قلت : زلزلته فتأويله : أنَّك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه ؛ لأن ما فيه تكريرٌ يكرّرُ فيه الفعل نحو : صَرَّ وصَرْصَرَ ، وصَلَّ وصَلْصَلَ ؛ وَكَفَّ وَكَفْكَفَ ، وفسر بعضهم " زُلْزِلُوا " أي : خُوِّفُوا ؛ وذلك لأنَّ الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه .

قول تعالى : " حَتَّى يَقُولَ " قرأ الجمهور : " يقولَ " نصباً ، وله وجهان :

أحدهما : أنَّ " حَتَّى " بمعنى " إِلَى " ، أي : إلى أن يقول ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزال ، و " حَتَّى " إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل ، وهذا قد وقع ومضى . فالجواب : أنه على حكاية الحال ، [ حكى تلك الحال ] .

والثاني : أنَّ " حَتَّى " بمعنى " كَيْ " ، فتفيد العلَّة كقوله : أطعتُ الله حَتَّى أدْخَلنِي الجنةَ ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قول الرسول والمؤمنين ليس علَّة للمسِّ والزلزال ، وإن كان ظاهر كلام أبي البقاء{[3265]} على ذلك ، فإنه قال : " بالرفعِ على أَنْ يكونَ التقديرُ : زُلْزِلُوا فقالوا ، فالزَّلْزَلَةُ سَبَبُ القولِ " ، و " أَنْ " بعد " حَتَّى " مُضْمَرةٌ على كِلا التقديرين .

وقرأ نافع برفعه على أنَّه حالٌ ، والحال لا ينصب بعد " حَتَّى " ولا غيرها ؛ لأنَّ الناصب يخلِّص للاستقبال ؛ فتنافيا .

واعلم أنَّ " حَتَّى " إذا وقع بعدها فعلٌ : فإمَّا أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً ، فإن كان حالاً ، رفع ؛ نحو : " مَرِضَ حَتَّى لاَ يَرْجُونَهُ " أي : في الحال . وإن كان مُسْتَقْبلاً نصب ، تقول : سِرْتُ حتَّى أدخل البلد ، وأنت لم تدخل بعد . وإن كان ماضياً فتحكيه ، ثُمَّ حكايتك له : إمَّا أن تكون بحسب كونه مستقبلاً ، فتنصبه على حكاية هذه الحال ، وإمَّا أن يكون بحسب كونه حالاً ، فترفعه على حكاية هذه الحال ، فيصدق أن تقول في قراءة الجماعة : حكاية حالٍ ، وفي قراءة نافعٍ أيضاً : حكاية حال .

قال شهاب الدِّين : إنَّما نبَّهتُ على ذلك ؛ لأنَّ عبارة بعضهم تخُصُّ حكاية الحال بقراءة الجمهور ، وعبارة آخرين تخصُّها بقراءة نافع .

قال أبو البقاء{[3266]} في قراءة الجمهور : " والفعلُ هنا مستقبلٌ ، حُكِيت به حَالُهُمْ ، والمعنى على المُضِيِّ " وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفع بأنَّ " حتى " للتعليل .

قوله : " معه " هذا الظرف يجوز أن يكون منصوباً بيقول ، أي : إنهم صاحبوه في هذا القول وجامعوه فيه ، وأن يكون منصوباً بآمنوا ، أي : صاحبوه في الإيمان .

قوله : { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } " مَتَى " منصوبٌ على الظرف ، فموضعه رفعٌ ؛ خبراً مقدَّماً ، و " نصرٌ " مبتدأٌ مؤخرٌ .

وقال أبو البقاء{[3267]} : " وعلى قولِ الأَخْفَشِ : موضعه نصب على الظرف ، و " نصرُ " مرفوعٌ به " . و " مَتَى " ظرفُ زمانٍ لا يتصرَّف إلا بجرِّه بحرفٍ . وهو مبنيٌّ ؛ لتضمُّنه : إما لمعنى همزة الاستفهام ، وإمَّا معنى " مَنْ " الشرطية ، فإنه يكون اسم استفهام ، ويكون اسم شرطٍ فيجزم فعلين شرطاً وجزاءً .

قال القرطبي{[3268]} : " نَصْرُ اللَّهِ " رفع بالابتداء على قول سيبويه ، وعلى قول أبي العباس ؛ رفع بفعلٍ ، أي : متى يقع نصر الله .

و " قَرِيبٌ " خبر " إنَّ " قال النَّحَّاسُ{[3269]} : ويجوز في غير القرآن " قَرِيباً " أي : مكاناً قريباً و " قَرِيبٌ " لا تثنِّيه العرب ، ولا تجمعه ، ولا تؤنّثه في هذا المعنى ؛ قال تعالى : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ }

[ الأعراف : 56 ] ؛ وقال الشَّاعر : [ الطويل ]

لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ هَاشِمٍ *** قَرِيبٌ وَلاَ بَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا{[3270]}

فإن قلت : فلانٌ قريبٌ لي ثنيت وجمعت فقلت : قَرِيبُونَ ، وأقْرِباءُ ، وقُرَبَاءُ .

فصل

والظاهر أنَّ جملة { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } من قول المؤمنين ، وجملة { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } من قول الرسول ، فنسب القول إلى الجميع ؛ إجمالاً ، ودلالة الحال مبيِّنة للتفصيل المذكور . وهذا أولى من قول من زعم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والتقدير : حتَّى يقول الذين آمنوا : " مَتَى نَصْرُ اللَّهِ " ؟ فيقول الرسول " أَلاَ إِنَّ " فقدِّم الرسول ؛ لمكانته ، وقدِّم المؤمنون ؛ لتقدُّمهم في الزمان . قالوا : لأنه أخبر عن الرسول ، والذين آمنوا بكلامين :

أحدهما : أنهم قالوا : مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ؟

والثاني : " ألاَّ إنَّ نصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " فوجب إسناد كلِّ واحدٍ من هذين الكلامين إلى ما يليق به من ذينك المذكورين ، قال : الذين آمنوا قالوا : " مَتَى نَصْرُ اللَّهِ " والرسلُ قالوا : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } قالوا : ولهذا نظيرٌ في القرآن والشِّعر :

أمَّا القرآن : فقوله : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] ، والمعنى ؛ لتسكنوا في اللَّيل ، ولتبتغوا من فضله في النهار .

وأمَّا الشعر : فقول امرئ القيس : [ الطويل ]

كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً *** لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ وَالْحَشَفُ البَالِي{[3271]}

فشبه العنَّاب بالرطب ، والحشف البالي باليابس .

قال ابن عطيَّة : " هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلٌ لِلْكلامِ على غَيْرِ وَجْهِهِ " .

وقيل : الجملتان من قول الرسول والمؤمنين معاً ، يعني أن الرسول قالهما معاً ، وكذلك أتباعه . فإن قيل : كيف يليق بالرسول القاطع بصحَّةِ وعد الله ووعيده أن يقول مستبعداً : مَتَى نصر الله ؟

والجواب من وجوه :

أحدها : التأويل المتقدِّم .

والثاني : أن قول الرسول { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } ليس على سبيل الشِّكِّ بل على سبيل الدعاء باستعجال النصر .

الثالث : أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذَّى من كيد الأعداء ؛ قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] وقال تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] وقال تعالى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } [ يوسف : 110 ] ، وعلى هذا فإذا ضاق قلبه ، وقلَّت حيلته ، وكان قد تقدم وعبد الله بنصره ، إلاَّ أنه لم يعيِّن له الوقت ؛ قال عند ضيق قلبه : { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } حَتَّى إنَّه إذا علم قرب الوقت ، زال غمه وطاب قلبه ؛ ويؤيد ذلك قوله في الجواب { إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } فلما كان الجواب بذكر القرب ؛ دلَّ على أنَّ السؤال كان واقعاً عن القرب ، ولو كان السؤال وقع عن أنَّه هل يوجد النصر ، أم لا ؛ لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال ، هذا على قول من قال إن قوله : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } مِن كلام الله تعالى جواباً للرسول ، ومن قال إنه من كلام المؤمنين . قال : إنَّهم لما علموا أنَّ الله تعالى لا يُعلي عدوه عليهم ، قالوا : { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } ، فنحن على ثقة بوعدك .

وقيل : إنَّ الجملة الأولى من كلام [ الرسول وأتباعه ، والجملة الأخيرة من كلام ] الله تعالى ، على ما تقدم . فالحاصل أنَّ الجملتين في محلِّ نصب بالقول .

فإن قيل : قوله : { إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } يوجب في حق كل من لحقه شدَّةٌ أن يعلم أنه سيظفر بزوالها ، وذلك غير ثابتٍ .

فالجواب : لا يمتنع أن يكون هذا من خواصِّ الأنبياء - عليهم السّلام - وأيضاً فإن كان عامّاً في حق الكل إذ كلُّ من كان في بلاءٍ ، فلا بدَّ له من أحد أمرين :

إمَّا أن يتخلص منه أو يموت ، فإن مات ، فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ، ولا يضيع حقه ، وذلك من أعظم النصر ، وإنما جعله قريباً ؛ لأن الموت آتٍ ؛ وكلَّ آتٍ قريبٌ .


[3256]:- تقدم برقم 227.
[3257]:- البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 246؛ وأساس البلاغة ص 46 (ثقل)؛ والدرر 2/ 247؛ وشرح التصريح 1/ 249؛ ولسان العرب (ثقل)، والمقاصد النحوية 2/ 384؛ وأوضح المسالك 2/44؛ وتخليص الشواهد ص 435؛ وشرح الأشموني 1/156؛ وشرح ابن عقيل ص 213؛ وشرح قطر الندى ص 274؛ وهمع الهوامع 1/149، والدر المصون 1/522.
[3258]:- تقدم برقم 230.
[3259]:- البيت لإبراهيم بن هرمة ينظر ديوانه ص 191، وخزانة الأدب 9/1008، والدرر 5/ 66، وشرح شواهد المغني 2/682، والمقاصد النحوية 4/ 443، والأشباه والنظائر 4/ 114، وأوضح المسالك 4/202، وجواهر الأدب ص 256، 424، والجنى الداني ص 269، وشرح الأشموني 3/576، ومغني اللبيب 1/280، وهمع الهوامع 2/ 56.
[3260]:-تقدم برقم 566.
[3261]:- ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (6/17) عن ابن عباس.
[3262]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/289) عن قتادة والسدي وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (1/436-437) عن قتادة وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن المنذر. وأورده عن السدي (1/437) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
[3263]:- ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (6/17).
[3264]:- ينظر: الإملاء 1/91.
[3265]:-ينظر: الإملاء 1/91.
[3266]:-ينظر: الإملاء 1/91.
[3267]:- ينظر: الإملاء 1/91.
[3268]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/25.
[3269]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/25.
[3270]:-تقدم برقم 566.
[3271]:- ينظر: ديوانه ص 38، وشرح التصريح 1/ 382، وشرح شواهد المغني 1/342، 2/ 595، 819، والصاحبي في فقه اللغة ص 244، ولسان العرب (أدب)، والمقاصد النحوية 2/216، والمنصف 2/ 117، والأشباه والنظائر 7/ 64، وأوضح المسالك 2/ 329، ومغني اللبيب 1/218، 2/392، 439.