الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ} (214)

وله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ } : " أم " هذه فيها أربعةُ أقوالٍ : أنْ تكونَ منقطعةً فتتقدَّر ب " بل " والهمزةِ . ف " بل " لإِضرابِ انتقالٍ من إخبارٍ إلى إخبارٍ ، والهمزةُ للتقريرِ . والتقديرُ/ :بل أحَسِبْتُم . والثاني : أنها لمجردِ الإِضرابِ من غير تقديرِ همزةٍ بعدها ، وهو قولُ الزجاج وأنشد :922 بَدَتْ مثل قَرْنِ الشمسِ في رَوْنَقِ الضحى *** وصورتِها أم أنتَ في العينِ أَمْلَحُ

أي : بل أنت . والثالث : وهو قولُ بعض الكوفيين أنها بمعنى الهمزةِ فعلى هذا يُبْتَدَأُ بها في أولِ الكلامِ . ولا تحتاجُ إلى الجملةِ قبلَها يُضْرَبُ عنها . والرابع : أنها متصلةٌ ، ولا يَسْتَقِيمُ ذلك إلا بتقديرِ جملةٍ محذوفةٍ قبلَها ، فقدَّرَهُ بعضُهم : فَهَدَى اللَّهُ الذين آمنوا ، فصَبَروا على استهزاءِ قومهم ، أفتسلُكون سبيلَهم أم تحسَبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوكِ سبيلهِم .

و " حَسِبْتُم " هنا من أخوات " ظنَّ " ، تنصبُ مفعولَيْن أصلُهما المبتدأ والخبرُ ، و " أَنْ " وما بعدَها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ عند سيبويهِ ، ومسدَّ الأولِ والثاني محذوفٌ عند أبي الأخفش ، كما تقرَّر ذلك . ومضارِعُها فيه الوجهان : الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ . ولها من الأفعالِ نظائِرُ ، سيأتي ذلك في آخرِ السورةِ ، ومعناها الظنُّ ، وقد تُسْتَعْمَلُ في اليقين قال :

حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ *** رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلا

ومصدرُها : الحُسْبان . وتكون غيرَ متعديةٍ إذا كان معناها الشقرة ، تقول : حَسِبَ زيدٌ ، أي اشْقَرَّ ، فهو أَحْسَبُ أي : أَشْقَرُ .

قوله : { وَلَمَّا يَأْتِكُم } الواوُ للحالِ ، والجملةُ بعدَها في محلِّ نصبٍ عليها ، أي : غيرَ آتيكم مثلُهم . و " لَمَّا " حرفُ جزمٍ معناهُ النفي ك " لم " ، وهو أبلغُ من النفي ب " لم " ، لأنها لا تنفي إلا الزمانَ المتصلَ بزمانِ الحالِ . والفرقُ بينها وبين " لم " من وجوهٍ ، أحدُها : أنه قد يُحْذَفُ الفعلُ بعدها في فصيحِ الكلام إذا دَلَّ عليه دليلٌ كقولِهِ :

فَجِئْتُ قبورَهم بَدْءاً وَلَمَّا *** فنادَيْتُ القبورَ فلم تُجِبْنَهْ

أي : ولمَّا أكن بدءاً أي : مبتدئاً ، بخلافِ " لم " فإنه لا يجوزُ ذلك فيها إلا ضرورةً . ومنها : أنَّها لنفيِ الماضي المتصلِ بزمانِ الحال و " لم " لنفِيهِ مطلقاً أو منقطعاً على ما مَرَّ . ومنها : أنَّ " لَمَّا " لاَ تَدْخُل على فعلِ شرطٍ ولا جزاءٍ بخلافِ " لم " . واختُلِفَ في " لمَّا " فقيل : بسيطةٌ ، وقيل : مركبةٌ مِنْ لم و " ما " زيدَتْ عليها .

وفي قولِه { مَّثَلُ الَّذِينَ } حَذْفُ مضافٍ وحَذْفُ موصوفٍ تقديرُهُ : ولَمَّا يأتِكُمْ مَثَلُ محنةِ المؤمنينِ الذين خَلَوْا .

و " مِنْ قبلِكم " متعلِّقٌ ب " خَلَوا " وهو كالتأكيدِ ، فإنَّ الصلةَ مفهومةٌ من قولِهِ : " خَلَوا " .

قوله : { مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أن تكونَ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها تفسيريةٌ أي : فَسَّرَتِ المَثَلَ وَشَرَحَتْهُ كأنه قيل : ما كانَ مَثَلُهم ؟ فقيل : مَسَّتهم البأساءُ . والثاني : أن تكونَ حالاً على إضمارِ " قد " جَوَّزَ ذلك أبو البقاء ، وهي حالٌ من فاعلِ " خَلَوا " . وفي جَعْلِهَا حالاً بُعْدٌ .

قوله : { حَتَّى يَقُولَ } قرأ الجمهورُ : " يقولُ " نصباً ، وله وجهان ، أحدُهما : أنَّ " حتى " بمعنى " إلى " ، أي : إلى أن يقولَ ، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزالِ ، و " حتى " إنما يُنْصَبُ بعدها المضارعُ المستقبلُ ، وهذا قد وقع ومَضَى . فالجوابُ : أنه على حكايةِ الحالِ ، حكى تلك الحالَ . والثاني : أنَّ " حتى " بمعنى " كي " ، فتفيدُ العِلَّةَ ، وهذا ضَعيفٌ ؛ لأنَّ قولَ الرسول والمؤمنين ليس علةً للمسِّ والزلزالِ ، وإن كان ظاهرُ كلامِ أبي البقاء على ذلك فإنه قال : " ويُقْرَأ بالرفعِ على أن يكونَ التقديرُ : زُلْزِلُوا فقالوا : فالزَّلْزَلَةُ سببُ القولِ " و " أَنْ " بعد " حتى " مضمرةٌ على كِلا التقديرين . وقرأ نافع برفِعِهِ على أنَّه حالٌ ، والحالُ لا يُنْصَبُ بعد " حتى " ولا غيرِها ، لأنَّ الناصبَ يُخَلِّصُ للاستقبالِ فتَنَافيا .

واعلم أنَّ " حتى " إذا وَقَعَ بعدها فعلٌ : فإمَّا أن يكونَ حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً ، فإنْ كان حالاً رُفِعَ نحو : " مَرِض حتى لا يَرْجونه " أي في الحال . وإن كان مستقبلاً نُصِبَ ، تقول : سِرْتُ حتى أدخلَ البلدَ وأنت لم تدخُلْ بعدُ . وإن كان ماضياً فتحكيه ، ثم حكايتُك له : إمَّا أَنْ تَكونَ بحسَب كونِهِ مستقبلاً ، فتنصبَه على حكايةِ هذه الحالِ ، وإمَّا أن يكونَ بحسَبِ كونِهِ حالاً ، فترفَعَهُ على حكايةِ هذه الحالِ ، فيصدُقُ أن تقولَ في قراءةِ الجماعةِ : حكايةُ حالٍ ، وفي قراءةِ نافع أيضاً : حكايةُ حالٍ . وإنَّما نَبَّهْتُ على ذلك لأنَّ عبارةَ بعضِهم تَخُصُّ حكايةً الحالِ بقراءةِ الجمهورِ ، وعبارَةَ آخرين تَخُصُّها بقراءةِ نافع . قال أبو البقاء في قراءةِ الجمهور : " والفعلُ هنا مستقبلٌ حُكِيت به حالُهم والمعنى على المُضِيِّ " وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفعَ بأنَّ " حتى " للتعليلِ .

قوله : " معه " هذا الظرفُ يجوزُ أن يكونَ منصوباً بيقول ، أي : إنهم صاحبوه في هذا القولِ وجامَعُوه فيه ، وأن يكونَ منصوباً بآمنوا ، أي : صاحبوه في الإِيمانِ .

قوله : { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } " متى " منصوبٌ على الظرفِ فموضعُهُ رفعٌ خبراً مقدماً ، و " نصرٌ " مبتدأٌ مؤخرٌ . وقال أبو البقاء : " وعلى قولِ الأخفش موضعُه نصبٌ على الظرفِ و " نصرُ " مرفوعٌ به " . و " متى " ظرفُ زمانٍ لا يَتَصَرَّفُ إلا بجرِّه بحرفٍ .

وهو مبنيٌّ لِتَضَمُّنِهِ : إما لِمَعْنَى همزة الاستفهام وإمَّا معنى " مَنْ " الشرطية ، فإنه يكونُ اسمَ استفهامٍ ، ويكونُ اسمَ شرطٍ فيجزمُ فعلين شرطاً وجزاءً .

والظاهرُ أنَّ جملةَ { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } من قولِ المؤمنينَ ، وجملةَ { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } من قولِ الرسولِ ، فَنُسِبَ القولُ إلى الجميعِ إجمالاً ، ودلالةُ الحالِ مبيِّنَةٌ للتفصيلِ المذكور . وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مَنْ زَعَم أَن في الكلامِ تقديماً وتأخيراً ، والتقديرُ : حتى يقولَ الذين آمنوا { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } فيقولُ الرسولُ " إلا إنَّ " ، فَقُدِّمَ الرسولُ لمكانَتِهِ ، وقُدِّم المؤمنون لتقدُّمِهِم في الزمان . قال ابن عطية : " هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلُ الكلامِ على غير وجهِهِ " وهو كما قال . وقيل : الجملتانِ من قولِ الرسولِ والمؤمنين معاً ، يعني أن الرسولَ قالَهما معاً ، وكذلك أتباعُهُ قالوهما معاً ، وقولُ الرسول { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } ليس على سبيلِ الشَّكِّ ، إنما هو على سبيلِ الدعاء باستِعْجَال النصر . وقيل : إنَّ الجملةَ الأولى من كلام الرسولِ وأتباعه ، والجملة الأخيرةَ من كلامِ اللَّهِ تعالى ، أجابهُم بما سألوه الرسُلُ واستبطَأَهُ الأتباع . فالحاصل أن الجملتين في محل نصب بالقول .