قوله تعالى : { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } قرأ نافع ، و أبو جعفر ، وعاصم : ( بملكنا ) بفتح الميم ، وقرأ حمزة والكسائي بضمها ، وقرأ الآخرون بكسرها ، أي : ونحن نملك أمرنا . وقيل : باختيارنا ، ومن قرأ بالضم فمعناه بقدرتنا وسلطاننا ، وذلك أن المرء إذا وقع في البلية والفتنة لم يملك نفسه . { ولكنا حملنا } قرأ أبو عمرو ، و حمزة ، و الكسائي ، وأبو بكر ، و يعقوب : ( حملنا ) بفتح الحاء ، وتخفيف الميم . وقرأ الآخرون بضم الحاء وتشديد الميم ، أي : جعلونا نحملها وكلفنا حملها ، { أوزاراً من زينة القوم } من حلي قوم فرعون ، سماها أوزاراً لأنهم أخذوها على وجه العارية فلم يردوها . وذلك أن بني إسرائيل كانوا قد استعاروا حلياً من القبط ، وكان ذلك معهم حين خرجوا من مصر . وقيل : إن الله تعالى لما أغرق فرعون نبذ البحر حليهم فأخذوها ، وكانت غنيمة ، ولم تكن الغنيمة حلالاً لهم في ذلك الزمان ، فسماها أوزاراً لذلك . { فقذفناها } قيل : إن السامري قال لهم : احفروا حفيرة فألقوها فيها حتى يرجع موسى . قال السدي : قال لهم هارون إن تلك غنيمة لا تحل ، فاحفروا حفيرة فألقوها فيها حتى يرجع موسى ، فيرى رأيه فيها ، ففعلوا . قوله : { فقذفناها } ، أي : طرحناها في الحفرة . { فكذلك ألقى السامري } ما معه من الحلي فيها ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : أوقد هارون ناراً وقال : اقذفوا فيها ما معكم ، فألقوه فيها ، ثم ألقى السامري ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل . قال قتادة : كان قد صر قبضة من ذلك التراب في عمامته .
{ 87 - 89 } { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }
أي : قالوا له : ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا ، وملك منا لأنفسنا ، ولكن السبب الداعي لذلك ، أننا تأثمنا من زينة القوم التي عندنا ، وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط ، فخرجوا وهو معهم وألقوه ، وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع .
{ قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول لنا السامري لما أخلفناه ، وقرأ نافع وعاصم { بملكنا } بالفتح وحمزة والكسائي بالضم وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء . { ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم } حملنا أحمالا من حلى القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس . وقيل استعاروا لعيد كان لهم ثم لم يردوا عند الخروج مخافة أن يعلموا به وقيل هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه ولعلهم سموها أوزارا لأنها آثام ، فإن الغنائم لم تكن تحل بعد أو لأنهم كانوا مستأمنين وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي . { فقذفناها } أي في النار . { فكذلك ألقى السامري } أي ما كان معه منها . روي أنهم لما حسبوا أن العدة قد كملت قال لهم السامري : إنما أخلف موسى ميعادكم لما معكم من حلى القوم وهو حرام عليكم ، فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف كل ما معنا فيها ففعلوا وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر وروح " حملنا " بالفتح والتخفيف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال قوم موسى لموسى: ما أخلفنا موعدك، يعنون بموعده: عهده الذي كان عهده إليهم... وقوله:"بِمِلْكِنا" يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ، وقالوا: إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة...
وقوله: "وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ "يقول: ولكنا حملنا أثقالاً وأحمالاً من زينة القوم، يعنون من حليّ آل فرعون... وقوله: "فَقَذَفْناها" يقول: فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة "فَكَذَلكَ ألْقَى السّامِرِيّ" يقول: فكما قذفنا نحن تلك الأثقال، فكذلك ألقى السامريّ ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم} قيل أثقالا {من زينة القوم} أي من حلي القبط... {فقذفناها} أي قذفنا ما حملنا من حليهم.
وقوله تعالى: {فكذلك ألقى السامري} أي كذلك قذف ما حمل السامري من حليهم. وجائز أن يكون قوله: {فكذلك ألقى السامري} ما أخذ من قبضته من أثر الرسول كقوله: {فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها} [طه: 96].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تشوف السامع إلى جوابهم، استأنف ذكره فقال: {قالوا}: لم يكن شيء من ذلك.
ولما كان المقصود من هذا السياق كله إظهار عظيم القدرة، عبر عن ذلك بقوله، حكاية عنهم للاعتراف بما قررهم موسى عليه السلام به من العناد معتذرين عنه بالقدرة، والاعتذار به لا يدفع العقوبة المرتبة على الذنب: {ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي لقد صدقت فيما قلت، ولكنا لم نفعل ذلك ونحن بملك أمرنا -هذا على قراءة الجماعة بالكسر، وعلى قراءة نافع وعاصم بالفتح المعنى: ولنا ملكة نتصرف بها في أنفسنا، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالضم كأنهم قالوا: ولنا سلطان قاهر لأمورنا- على أنهم قد ذكروا أن القراءات الثلاث لغات لمعنى واحد، قال في القاموس: ملكه يملكه ملكاً مثلثة: احتواه قادراً على الاستبداد به، والمعنى أن السامري زين لهم ذلك، ووسوس به الشيطان فما دروا إلا وقد تبعوه حتى كانوا كأنهم يقادون إليه بالسلاسل، وقيل هذا كلام من لم يعبده، اعتذروا بأنهم كانوا قليلاً، لا قدرة لهم على مقاومة من عبده، وهذا كله إشارة إلى أنه تعالى هو المتصرف في القلوب، فهو قادر على أن يرد كفار قريش والعرب من بعد عنادهم، ولددهم وفسادهم {ولكنا} كنا {حملنا أوزاراً} أي أثقالاً من النقدين هي أسباب الآثام... {من زينة القوم} الذين لم نكن نعرف قوماً غيرهم، وغيرهم ليس حقيقاً بإطلاق هذا اللفظ عليه وهم القبط، فقضى لنا أن نقذفها في النار، وتوفرت الدواعي على ذلك واشتدت بحيث لم نتمالك {فقذفناها فكذلك} أي فتعقب هذا أنه مثل ذلك الإلقاء {ألقى السامري} وهو لصيق انضم إليهم من قبط مصر، ألقى ما كان معه، إما من المال وإما من أثر الرسول، كما مضى و يأتي، وكأن إلقاءه كان آخراً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندئذ يعتذرون بذلك العذر العجيب، الذي يكشف عن أثر الاستعباد الطويل، والتخلخل النفسي والسخف العقلي: (قالوا: ما أخلفنا موعدك بملكنا) فلقد كان الأمر أكبر من طاقتنا! (ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها).. وقد حملوا معهم أكداسا من حلي المصريات كانت عارية عند نسائهم فحملنها معهن. فهم يشيرون إلى هذه الأحمال. ويقولون: لقد قذفناها تخلصا منها لأنها حرام.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
نفوا أنهم أخلفوا موعدهم مختارين مريدين، بل كانوا تحت تأثير إغراء شديد وتضليل كبير، وعبروا عن فقدهم لإرادتهم الحرة الخالية من الإغراء بقول {بملكنا} قرئت بفتح الميم ويكسرها وبضمها، والمراد أنهم ما أخلفوا وعدك في الوحدانية واستقامة النفس والفكر بإرادتهم الحرة المختارة، ولكن بإغراء. وفي هذا اعتراف بالجريمة، واعتراف آخر بأنهم ارتكبوها وإرادتهم مسلوبة بإغراء شديد، ولو كانوا أمام قاض من قضاة الدنيا لأخذهم باعترافهم، واعتذارهم بأنهم كانوا مغرورين ومخدوعين لا يخليهم من العقاب بل يقرره عليهم ويثبته، فالعبرة في الجريمة بالاختيار، وقد كان الاختيار من غير إكراه ولا يُعد الغرور إكراها. وخصوصا أنهم هم الذين قدموا سبب التضليل، وقالوا: {ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري}. الاستدراك هنا استدراك من اعترافهم يتضمن الاعتذار عن ضعف إرادتهم، وضلال نفوسهم، وهو اعتذار سخيف كشأن بني إسرائيل في كل الأزمان.