جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ} (87)

القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلََكِنّا حُمّلْنَآ أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هََذَآ إِلََهُكُمْ وَإِلََهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ } .

يقول تعالى ذكره : قال قوم موسى لموسى : ما أخلفنا موعدك ، يعنون بموعده : عهده الذي كان عهده إليهم ، كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثنا الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مَوْعِدِي قال : عهدي ، وذلك العهد والموعد هو ما بيّناه قبل .

وقوله : بِمِلْكِنا يخبر جلّ ذكره عنهم أنهم أقروا على أنفسهم بالخطأ ، وقالوا : إنا لم نطق حمل أنفسنا على الصواب ، ولم نملك أمرنا حتى وقعنا في الذي وقعنا فيه من الفتنة .

وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : «بِمَلْكِنا » بفتح الميم ، وقرأته عامة قرّاء الكوفة : «بِمُلْكِنا » بضم الميم ، وقرأه بعض أهل البصرة بِمِلْكِنا بالكسر . فأما الفتح والضمّ فهما بمعنى واحد ، وهما بقدرتنا وطاقتنا ، غير أن أحدهما مصدر ، والاَخر اسم . وأما الكسر فهو بمعنى ملك الشيء وكونه للمالك .

واختلف أيضا أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : ما أخلفنا موعدك بأمرنا . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " يقول : بأمرنا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بِمَلْكِنا قال : بأمرنا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : معناه : بطاقتنا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالُوا " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " : أي بطاقتنا .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : قالُوا " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " يقول : بطاقتنا .

وقال آخرون : معناه : ما أخلفنا موعدك بهوانا ، ولكنا لم نملك أنفسنا . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا " قال : يقول بهوانا ، قال : ولكنه جاءت ثلاثة ، قال ومعهم حليّ استعاروه من آل فرعون ، وثياب .

وقال أبو جعفر : وكلّ هذه الأقوال الثلاثة في ذلك متقاربات المعنى ، لأن من لم يهلك نفسه ، لغلبة هواه على ما أمر ، فإنه لا يمتنع في اللغة أن يقول : فعل فلان هذا الأمر ، وهو لا يملك نفسه وفعله ، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه . فإذا كان ذلك كذلك ، فسواء بأيّ القراءات الثلاث قرأ ذلك القارىء ، وذلك أن من كسر الميم من الملك ، فإنما يوجه معنى الكلام إلى ما أخلفنا موعدك ، ونحن نملك الوفاء به لغلبة أنفسنا إيانا على خلافه ، وجعله من قول القائل : هذا ملك فلان لما يملكه من المملوكات ، وأن من فتحها ، فإنه يوجه معنى الكلام إلى نحو ذلك ، غير أنه يجعله مصدرا من قول القائل : ملكت الشيء أملكه ملكا وملكة ، كما يقال : غلبت فلانا أغلبه غَلبا وغَلَبة ، وأن من ضمها فإنه وجّه معناه إلى ما أخلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا ، أي ونحن نقدر أن نمتنع منه ، لأن كل من قهر شيئا فقد صار له السلطان عليه . وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بالضمّ ، فقال : أيّ ملك كان يومئذٍ لبني إسرائيل ، وإنما كانوا بمصر مستضعفين ، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابا بعيدا وقارئو ذلك بالضم لم يقصدوا المعنى الذي ظنه هذا المنكر عليهم ذلك ، وإنما قصدوا إلى أن معناه : ما أخلفنا موعدك بسلطان كانت لنا على أنفسنا نقدر أن نردّها عما أتت ، لأن هواها غلبنا على إخلافك الموعد .

وقوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " يقول : ولكنا حملنا أثقالاً وأحمالاً من زينة القوم ، يعنون من حليّ آل فرعون وذلك أن بني إسرائيل لما أراد موسى أن يسير بهم ليلاً من مصر بأمر الله إياه بذلك ، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم ، وقال : إن الله مغنمكم ذلك ، ففعلوا ، واستعاروا من حلىّ نسائهم وأمتعتهم ، فذلك قولهم لموسى حين قال لهم " أفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أمْ أرَدْتُمْ أنْ يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبّكُمْ فَأخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا ما أخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا ، وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزارا مِنْ زِينَةٍ القَوْمِ " . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " فهو ما كان مع بني إسرائيل من حليّ آل فرعون ، يقول : خطئونا بما أصبنا من حليّ عدوّنا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أوْزَارا قال : أثقالاً . وقوله : مِنْ زِينَةِ القَوْمِ قال : هي الحليّ التي استعاروا من آل فرعون ، فهي الأثقال .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا " قال : أثقالاً مِنْ زِينَةِ القَوْمِ قال : حليهم .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينةِ القَوْمِ " يقول : من حليّ القبط .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَلَكِنّا حُمّلْنا أوْزَارا مِنْ زِينَةِ القَوْمِ " قال : الحليّ الذي استعاروه . والثياب ليست من الذنوب في شيء ، لو كانت الذنوب كانت حملناها نحملها ، فليست من الذنوب في شيء .

واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأ عامة قرّاء المدينة وبعض المكيين : حُمّلْنا بضم الحاء وتشديد الميم بمعنى أن موسى يحملهم ذلك . وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض المكيين : «حَمَلْنا » بتخفيف الحاء والميم وفتحهما ، بمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد .

قال أبو جعفر : والقول عندي في تأويل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، لأن القوم حملوا ، وأن موسى قد أمرهم بحمله ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب .

وقوله : فَقَذَفْناها يقول : فألقينا تلك الأوزار من زينة القوم في الحفرة فَكَذَلكَ ألْقَى السّامِرِيّ يقول : فكما قذفنا نحن تلك الأثقال ، فكذلك ألقى السامريّ ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : فَقَذَفْناها قال : فألقيناها فَكَذَلكَ ألْقَى السّامِريّ : كذلك صنع .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد فَقَذَفْناها قال : فألقيناها فَكَذَلِكَ ألْقَى السّامِرِيّ فكذلك صنع .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَقَذَفْناها : أي فنبذناها .