اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ} (87)

قوله : { بِمَلْكِنَا } قرأ الأخوان{[26173]} بضم الميم ، ونافع وعاصم بفتحها والباقون بكسرها{[26174]} . فقيل : لغات بمعنى واحد{[26175]} كالنَّقْضِ والنُّقضِ والنِّقْضِ{[26176]} ، فهي مصادر ، ومعناها القدرة والتسلط . وفرق الفارسي وغيره{[26177]} بينهما ، فقال{[26178]} : المضموم معناه : لم يكن مُلْكٌ فتُخْلِفُ موعدك بسلطانه ، وإنما فعلناه بنظر واجتهاد ، فالمعنى على أن ليس له ملك كقول ذي الرُّمة :

لاَ يُشْتَكَى سَقْطَةٌ مِنْهَا وَقَدْ رَقَصَتْ *** بِهَا المَفَاوِزُ حَتَّى ظَهْرُهَا حَدِبُ{[26179]}

أي لا يقع منها سَقْطَة فَتَشْتَكِي{[26180]} .

وفتح الميم مصدر من مَلَكَ أمره ، والمعنى : ما فعلناه بأنَّا ملكنا الصواب ، بل غلبتنا أنفسنا . وكسر الميم كَثُر فيما تحوزه اليد وتحويه ، ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ، ومعناها كمعنى التي قبلها .

والمصدر في هذين الوجهين مضاف لفاعله ، والمفعول{[26181]} محذوف أي : بِمَلْكِنَا الصوابَ{[26182]} . قوله : { حُمِّلْنَا } قرأ نافع وابن كثير وحفص بضم الحاء وكسر الميم المشددة وأبو جعفر كذلك إلا أنه خفف الميم . ( والباقون بفتحها خفيفة الميم{[26183]} ){[26184]} . فالقراءة الأولى والثانية نسبوا فيهما{[26185]} الفعل إلى غيرهم{[26186]} .

وفي الثالثة{[26187]} نسبوه إلى أنفسهم{[26188]} و " أَوْزَاراً " {[26189]} مفعول ثان غير القراءة الثالثة{[26190]} . و " مِنْ زِينَةِ " يجوز أن يكون متعلقاً{[26191]} ب " حُمِّلْنَا " ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل " أَوْزَاراً " .

وقوله : " فَكَذَلِكَ " نعت لمصدر{[26192]} أو حال من ضميره عند سيبويه أي : إلقاء مثل إلقَائِنَا .

فصل

اختلفوا في القائل{[26193]} { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } على وجهين :

فقيل : القائل هم الذين لم يعبدُوا العجلَ كأنهم قالوا : ما أخلَفْنَا موعدَك بأمرٍ كُنَّا نملكه ، وقد يضيف{[26194]} الرجل فعل قرينه إلى نفسه ، كقوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر }{[26195]} { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً }{[26196]} وإن كان القائل{[26197]} بذلك آباءهم ، فكأنهم قالوا : الشبهة قويت{[26198]} على عبدة العجل ، فلم نقدر على منعهم عنه{[26199]} ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم ، لأنَّا{[26200]} خفنا أن نصير سبباً لوقوع الفرقة ، وزيادة الفتنة .

وقيل : هذا قول عبدة العِجل ، والمعنى أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا ، وفاعل السبب فاعل المسبب ، فمخلف الوعد هو{[26201]} الذي أوقع الشبهة ، فإنه{[26202]} كان كالمالك لنا .

فإن قيل : كيف يُعْقَل رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجلٍ يُعْرَف فسادُها بالضرورة ، ثم إن مثل هذا الجمع لما فارقوا الدين وأظهروا الكفر فكيف يعقل{[26203]} رجوعهم دفعة واحدة عن ذلك{[26204]} الدين بسبب رجوع موسى -عليه السلام{[26205]}- وحده إليهم ؟

فالجواب{[26206]} : هذا غير{[26207]} ممتنع في حق البُلْهِ{[26208]} من الناس .

ثم إنَّ القوم فروا من العذر{[26209]} الحامل لهم{[26210]} على ذلك الفعل فقالوا { ولكنا{[26211]} حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم } فمن قرأ بالتخفيف فالمعنى حملْنَا{[26212]} في{[26213]} أنفسنا ما كنا استعرضناه من القوم . ومن قرأ بالتشديد فقيل : إن موسى -عليه السلام{[26214]}- أمرهم باستعاره الحُلِيّ والخروج بها فكأنه ألزمهم ذلك . والمراد بالأوزار حُليّ قوم فرعون .

وقيل : جعلنا كالضامن لها أن نؤديها إلى حيث يأمرنا الله .

وقيل : إنَّ الله تعالى حَمَّلَهُم ذلك ، أي : ألزمهم حكم المغنم{[26215]} .

قيل : أخذوها على وجه العارية ولم يردوها حين خرجوا من مصر استعاروها لعيدهم{[26216]} .

وقيل : إن الله تعالى لما أغرق فرعون نبذَ البحر حُليَّهم فأخذوها وكانت غنيمة ، ولم تكن الغنيمة حلالاً لهم في ذلك الزمان ، فسماها الله أوْزَاراً لذلك{[26217]} ، لأنه يجب عليهم حفظها من غير{[26218]} فائدة فكانت أوزاراً{[26219]} .

وقيل : سميت{[26220]} أوزاراً لكثرتها وثقلها ، والأوزار : الأثقال . وقيل المراد بالأوزار الآثام ، والمعنى حُمِّلْنَا آثاماً ، روي{[26221]} أن هارون –عليه السلام{[26222]} - قال إنها نجسة فتطهروا منها{[26223]} ، وقال السَّامِريّ إنَّ موسى احتبس عقوبة بالحُلِيّ . فيجوز أن يكونوا{[26224]} أرادوا هذا القول ، وقد يقول الإنسان للشيء{[26225]} الذي يلزمه رده هذا كله إثمٌ وذنبٌ .

وقيل : إنَّ ذلك الحِليّ كان للقبط يتزينون به في مجامع{[26226]} لهم يجري فيها الكفر ، فلذلك{[26227]} وصف بكونها أوزاراً كما يقال مثله في آلات المعاصي{[26228]} .

وقوله : { فَقَذَفْنَاهَا } أي فَطَرَحْنَاهَا{[26229]} في الحفيرة ، وذلك أن هارون قال لهم : إنَّ تلكَ غنيمةٌ لا تَحِلٌُّ فاحفروا ، فحفروا حفيرة ، ثم ألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه ، ففعلوا{[26230]} .

وقيل : قَذَفُوها في موضعٍ أمرهم السامريُّ بذلك{[26231]} .

وقيل : في موضعٍ جمع فيه النار ، ثم قالوا : وكذلك ألقى السامري ما معه من الحُلِيّ فيها{[26232]} .


[26173]:وهما حمزة والكسائي.
[26174]:انظر السبعة (332، 423) الحجة لابن خالويه (446)، الكشف 2/104 النشر 2/321 – 322، الإتحاف (306).
[26175]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/75، التبيان 2/900، البحر المحيط 6/268، وانظر أيضا اللسان (ملك).
[26176]:في ب: كالبغض والنقض. وهو تحريف. والنقض: إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء. انظر اللسان (نقض).
[26177]:وهم مكي، وابن الأنباري، والعكبري. انظر الكشف 2/104، ومشكل إعراب القرآن 2/75، البيان 2/152، التبيان 2/900، 901.
[26178]:في ب: فقيل.
[26179]:البيت من بحر البسيط قاله ذو الرُّمة وهو ديوانه (1/44)، تفسير ابن عطية 10/74، البحر المحيط 6/268. السَّقطة: السقوط والعثرة. المفاوز: جمع مفازة. وهي الصحراء التي لا ماء فيها. الحَدَب: خروج الظهر، ودخول البطن والصدر.
[26180]:في ب: فتشكوا. وهو تحريف.
[26181]:في ب: والمصدر. وهو تحريف.
[26182]:انظر البحر المحيط 6/268.
[26183]:انظر السبعة (423)، الحجة لابن خالويه (246)، الكشف 2/104 النشر 2/322، الإتحاف (306).
[26184]:ما بين القوسين سقط من ب.
[26185]:في ب: فيها.
[26186]:أي أنهم بنوا الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله. الحجة لابن خالويه (246)، الكشف 2/104.
[26187]:في الأصل: وفي الثانية، وفي ب: وفي الثالث.
[26188]:ببناء الفعل للمعلوم. الحجة لابن خالويه (246)، الكشف 2/105.
[26189]:في ب: أوزارا.
[26190]:"حملنا" عدِّي بالتضعيف إلى مفعولين، وبني للمفعول، فالضمير المتصل نائب فاعل، و"أوزارا" مفعول ثان. أما على القراءة الثالثة فالضمير المتصل فاعل، و"أوزارا" مفعول به، فالفعل متعد إلى مفعول واحد.
[26191]:في ب: متعلق. وهو تحريف.
[26192]:محذوف أي إلقاء مثل ذلك، قاله مكي في مشكل إعراب القرآن 2/85 وأبو البقاء في التبيان 2/901.
[26193]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/102 -103.
[26194]:في ب: يضف. وهو تحريف.
[26195]:[البقرة: 50].
[26196]:[البقرة: 72].
[26197]:في الفخر الرازي: الفاعل.
[26198]:في ب: قرينة. وهو تحريف.
[26199]:في ب: منه.
[26200]:في ب: لأني. وهو تحريف.
[26201]:هو: سقط من ب.
[26202]:في ب: كأنه. وهو تحريف.
[26203]:في ب: يمكن.
[26204]:في ب: هذا.
[26205]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26206]:في ب: والجواب.
[26207]:غير: سقط من ب.
[26208]:الأبله: هو الذي لا عقل له. اللسان (بَلَهَ).
[26209]:في ب: الفرار. وهو تحريف.
[26210]:في ب: عليهم ولهم. ولا معنى لها.
[26211]:في ب: إنا. وهو تحريف.
[26212]:حُمّلنا: سقط من الأصل.
[26213]:في الأصل: مع.
[26214]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26215]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/102 – 103.
[26216]:انظر البغوي 5/451.
[26217]:في ب: لغير.
[26218]:في ب: أثقالا.
[26219]:انظر البغوي 5/451.
[26220]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/103.
[26221]:في ب: فصل روي.
[26222]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[26223]:في الأصل: منه. وهو تحريف.
[26224]:في ب: أن يكون قد. وهو تحريف.
[26225]:في ب: وقد يقال للإنسان. وهو تحريف.
[26226]:في ب: جامع. وهو تحريف.
[26227]:في ب: فكذلك. وهو تحريف.
[26228]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/103.
[26229]:في ب: أي طرحناها.
[26230]:انظر البغوي 5/451.
[26231]:انظر الفخر الرازي 22/103.
[26232]:انظر الفخر الرازي 22/103.