السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ} (87)

ولما تشوق السامع إلى جوابهم استأنف ذكره ، فقال : { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } أي : بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا ، وأمرنا ولم يسوِّل لنا السامري لما أخلفناه ، واختلف في هذا المجيب على وجهين :

الأول : هم الذين لم يعبدوا العجل ، فكأنهم قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا أي : بأمر كنا نملكه ، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه كقوله تعالى : { وإذ فرقنا بكم البحر } [ البقرة ، 50 ] ، { وإذ قتلتم نفساً } [ البقرة ، 72 ] ، وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم ، فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل ، فلم نقدر على منعهم عنه ، ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سبباً لوقوع النفرة ، وزيادة الفتنة .

الثاني : أن هذا قول عبدة العجل ، والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا ، وفاعل السبب فاعل المسبب ، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة ، فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل : كيف كان رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجل يعرف فسادها بالضرورة ؟ أجيب : بأنَّ هذا غير ممتنع في حق البله من الناس وقرأ عاصم ونافع بفتح الميم ، وحمزة والكسائي بضمها ، والباقون بكسرها ، وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء ، ثم إن القوم فسروا الضرر الحامل لهم على ذلك الفعل ، فقالوا : { ولكنا حملنا } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الحاء وكسر الميم مشددة ، وأبو عمرو ، وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الحاء والميم مخففة { أوزاراً } أي : أثقالاً { من زينة القوم } أي : حلي قوم فرعون استعارها منهم بنو إسرائيل بسبب عرس ، وقيل : استعاروها لعيد كان لهم ، ثم لم يردوها عند الخروج مخافة أن يعلموا به ، وقيل : هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم ، فأخذوه ، قال البيضاوي : ولعلهم سموها أوزاراً لأنها آثام فإن الغنائم لم تكن تحل بعد ، ولأنهم كانوا مستأمنين ، وليس للمستأمن أن يأخذ من مال الحربي { فقذفناها } أي : في النار { فكذلك ألقى السامري } أي : ما كان معه إما من المال أو من أثر الرسول ، روي أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون ، وأجلهم ثلاثين يوماً ، وذهب فصامها ليلها ونهارها ، ثم كره أن يكلم ربه ، وريح فمه متغير ، فمضغ شيئاً من نبات الأرض ، فقال له ربه : أو ما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك ، ارجع فصم عشراً ، وقيل : إنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة ، وحسبوها أربعين بأيامها ، وقالوا : قد كملت العدة ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم خرجتم من مصر ، ولقوم فرعون عندكم عوار ، فاحفروا حفرة وألقوها فيها ، ثم أوقدوا عليها ناراً ، فلا يكون لنا ولا لهم ، وكان السامري قد رأى أثراً ، فقبض منه قبضة ، فمر بهارون فقال له : يا سامري ألا تلقي ما في يدك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها على شيء إلا أن تدعوا الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون فقال : أريد أن يكون عجلاً ، فاجتمع ما في الحفرة وصار عجلاً ، فهذا معنى قوله تعالى : { فأخرج لهم عجلاً جسداً } .