قوله تعالى : { وقالوا } يعني : منكري البعث ، { ما هي إلا حياتنا الدنيا } أي : ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، { نموت ونحيا } أي يموت الآباء ويحيا الأبناء ، وقال الزجاج : يعني نموت ونحيا ، " فالواو " للاجتماع ، { وما يهلكنا إلا الدهر } أي وما يفنينا إلا مر الزمان وطول العمر واختلاف الليل والنهار . { وما لهم بذلك } أي : الذي قالوه ، { من علم } أي : لم يقولوه عن علم ، { إن هم إلا يظنون }
أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أنبأنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف السلمي ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن همام بن منبه ، حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : لا يقل ابن آدم : يا خيبة الدهر ، فإني أنا الدهر ، أرسل الليل والنهار ، فإذا شئت قبضتهما " .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، حدثنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن أيوب عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يسب أحدكم الدهر ، فإن الله هو الدهر ، ولا يقولن للعنب : الكرم ، فإن الكرم هو الرجل المسلم " . ومعنى الحديث أن العرب كان من شأنهم ذم الدهر ، وسبه عند النوازل ، لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره ، فيقولون : أصابتهم قوارع الدهر ، وأبادهم الدهر ، كما أخبر الله تعالى عنهم : { وما يهلكنا إلا الدهر } فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها ، فكان مرجع سبهم إلى الله عز وجل ، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر ، فنهوا عن سب الدهر .
{ وَقَالُوا } أي : منكرو البعث { مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ } أي : إن هي إلا عادات وجري على رسوم الليل والنهار يموت أناس ويحيا أناس وما مات فليس براجع إلى الله ولا مجازى بعمله .
وقولهم هذا صادر عن غير علم { إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ } فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين من غير دليل دلهم على ذلك ولا برهان .
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي : ما ثم إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة ، وهذا يقوله مشركو{[26332]} العرب المنكرون للمعاد ، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم ، وهم ينكرون البداءة{[26333]} والرجعة ، ويقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه . وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا المعقول{[26334]} وكذبوا المنقول ، ولهذا قالوا{[26335]} { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } قال الله تعالى : { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } أي : يتوهمون ويتخيلون .
فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح ، وأبو داود ، والنسائي ، من رواية سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلب ليله ونهاره " {[26336]} وفي رواية : " لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر " {[26337]} .
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار ، وهو الذي يهلكنا ، يميتنا ويحيينا ، فقال الله في كتابه : { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ } قال : " ويسبون الدهر ، فقال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار " {[26338]} .
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن منصور ، عن شُرَيْح بن النعمان ، عن ابن عيينة مثله : ثم روي عن يونس ، عن ابن وهب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : يسب ابن آدم الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الليل والنهار " .
وأخرجه{[26339]} صاحبا الصحيح والنسائي ، من حديث يونس بن زيد ، به{[26340]} .
وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله : استقرضت عبدي فلم يعطني ، وسَبّنِي عبدي ، يقول : وادهراه . وأنا الدهر " {[26341]} .
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله ، عليه الصلاة والسلام : " لا تسبوا الدهر ؛ فإن الله هو الدهر " : كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أوخيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله [ عز وجل ]{[26342]} فكأنهم إنما سبوا ، الله عز وجل ؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نُهي{[26343]} عن سب الدهر بهذا الاعتبار ؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ، ويسندون إليه تلك الأفعال .
هذا أحسن ما قيل في تفسيره ، وهو المراد ، والله أعلم . وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى ، أخذا من هذا الحديث . .
هذا عطف على جملة { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } [ الجاثية : 21 ] أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيراً من عقبى المسلمين ، يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلاً وإنما يقينُهم قولُهم { ما هي إلا حياتنا الدنيا } .
وتقدم في سورة الأنعام ( 29 ) { وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } وضمير { هي } ضمير القصة والشأن ، أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات ، أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا ، أي الحاضرة القريبَة منا ، أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث ، ويجوز أن يكون { هي } ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حَصْراً لجنس الحياة في الحياة الدنيا .
وجملة { نموت ونحيا } مبيّنة لجملة { ما هي إلا حياتنا الدنيا } أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي حياة هذا العالم لا غير فإذا مات من كان حيّاً خلفه من يوجد بعده . فمعنى { نموت ونحيا } يموت بعضنا ويحيا بعض أي يبقى حيّاً إلى أمد أو يولد بعد من ماتوا . وللدلالة على هذا التطور عبّر بالفعل المضارع ، أي تتجدد فينا الحياة والموت . فالمعنى : نموت ونحيا في هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى . ثم إن كانت هذه الجملة محكية بلفظ كلامهم فَلَعَلها ممّا جرى مجرى المثل بينهم ، وإنْ كانت حكايَة لمعنى كلامهم فهي من إيجاز القرآن وهم إنما قالوا : يموت بعضنا ويحيَا بعضنا ثم يموت فصار كالمثل .
ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم : { نموت ونحيا } تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم { ما هي إلا حياتنا الدنيا } يصرف عن خطور هذا بالبال . والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً بين المتعاطفين في الحصول .
وإنما قدم { نموت } في الذكر على { ونحيا } في البيان مع أن المبيّن قولهم { ما هي إلا حياتنا الدنيا } فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبيَّن فيقال : نَحيَا ونموت ، فقيل قُدّم { نموت } لتتأتى الفاصلة بلفظ { نحيا } مع لفظ { الدنيا } . وعندي أن تقديم فعل { نموت } على { نَحيا } للاهتمام بالموت في هذا المقام لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا . وحصلت الفاصلة تبعاً ، وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى : { وما لهم بذلك من علم } فالإشارة ب { ذلك } إلى قولهم { وما يُهلكنا إلا الدهر } ، أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل .
وأما زيادة { وما يهلكنا إلا الدهر } فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر .
فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر . فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيّاً فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره .
والمعنى : أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان ، أي حَدثانه من طول مدة يعقبها الموت بالشيخوخة ، أو من أسباب تفضي إلى الهلاك ، وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عَمْرو بن قميئة :
رَمَتْنِي بناتُ الدهر من حيث لا أرى *** فمَا بال من يُرمى وليس بِرَامِ
ولعلهم يريدون أنه لو تأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران :
منع البقاء تقلب الشمس *** وطلوعها من حيث لا تُمسي
فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء . وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم ، وأما ما يجري في العالم من التصرفات فلم يكن لهم فيه رأي وكيف وحالتهم الأمية لا تساعد على ذلك ، وكانوا يخطئون في التفاصيل حتى يأتوا بما يناقض ما يعتقدونه ، ولذلك أعقبه بقوله تعالى : { وما لهم بذلك من علم } فإشارة ب { ذلك } إلى قولهم { وما يهلكنا إلا الدهر } أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل على ذلك فإن الدليل النظري بَيَّن أن الدهر وهو الزمان ليس بمُميت مباشرةً وهو ظاهر ولا بواسطةٍ في الإماتة إذ الزمان أمر اعتباري لا يفعل ولا يؤثر وإنما هو مقادير يقدِّر بها الناس الأبعاد بين الحوادث مرجعه إلى تقدير حصة النهار والليل وحصص الفصول الأربعة ، وإنما توهم عامة الناس أن الزمان متصرف ، وهي توهمات شاعت حتى استقرت في الأذهان الساذجة .
والمراد بالظن في قوله : { إن هم إلا يظنون } ما ليس بعلم فهو هنا التخيل والتوهم وجملة { إن هم إلا يظنون } مبيّنة بجملة { وما لهم بذلك من علم } أو استئناف بياني كأنّ سائلاً حين سَمع قوله : { وما لهم بذلك من علم } سأل عن مستندهم في قولهم ذلك فأجيب بأنه الظن المبني على التخيل .
وجيء بالمضارع في { يظنون } لأنهم يجددون هذا الظن ويتلقاه صغيرهم عن كبيرهم في أجيالهم وما هم بمقلعين عنه .