100- واتخذ الكافرون - مع هذه الدلائل - الملائكة والشياطين شركاء لله ، وقد خلقهم فلا يصح مع علمهم ذلك أن يعبدوا غيره ، وهو الذي خلق الملائكة والشياطين ، فلا ينبغي أن يعبدوهم وهم مخلوقون مثلهم ! . . واختلق هؤلاء الكفار لله بنين : فزعم النصارى أن المسيح ابن الله ، وزعم مشركو بعض العرب أن الملائكة بنات الله ، وذلك جهل منهم . تنزّه الله تعالى عما يفترون في أوصافه سبحانه !
قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } ، يعني : الكافرين جعلوا لله شركاء الجن .
قوله تعالى : { وخلقهم } ، يعني : وهو خلق الجن ، قال الكلبي : نزلت في الزنادقة ، أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق ، فقالوا : الله خالق النور ، والناس ، والدواب ، والأنعام ، وإبليس خالق الظلمة ، والسباع ، والحيات ، والعقارب . وهذا كقوله : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } [ الصافات : 158 ] وإبليس من الجن .
قوله تعالى : { وخرقوا } ، قرأ أهل المدينة { وخرقوا } ، بتشديد الراء على التكثير ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : اختلقوا .
قوله تعالى : { له بنين وبنات بغير علم } ، وذلك مثل قول اليهود ( عزير ابن الله ) ، وقول النصارى ( المسيح ابن الله ) ، وقول كفار مكة ( الملائكة بنات الله ) ، ثم نزه نفسه فقال : { سبحانه وتعالى عما يصفون } .
{ 100 - 104 } { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }
يخبر تعالى : أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم ، بآياته البينات ، وحججه الواضحات -أن المشركين به ، من قريش وغيرهم ، جعلوا له شركاء ، يدعونهم ، ويعبدونهم ، من الجن والملائكة ، الذين هم خلق من خلق الله ، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء ، فجعلوها شركاء لمن له الخلق والأمر ، وهو المنعم بسائر أصناف النعم ، الدافع لجميع النقم ، وكذلك " خرق المشركون " أي : ائتفكوا ، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله ، بنين وبنات بغير علم منهم ، ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم ، وافترى عليه أشنع النقص ، الذي يجب تنزيه الله عنه ؟ ! ! .
ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } فإنه تعالى ، الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وآفة وعيب .
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، وأشركوا{[10994]} في عبادة الله أن عبدوا الجن ، فجعلوهم شركاء الله في العبادة ، تعالى الله عن شركهم وكفرهم .
فإن قيل : فكيف عُبدت الجن وإنما كانوا يعبدون الأصنام ؟ فالجواب : أنهم إنما عبدوا الأصنام عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك ، كما قال تعالى : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [ النساء : 117 - 120 ] ، وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ]{[10995]} } [ الكهف : 50 ] ، وقال إبراهيم لأبيه : { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } [ مريم : 44 ] ، وقال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ يس : 60 ، 61 ] ، وتقول{[10996]} الملائكة يوم القيامة : { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ } أي : وقد خلقهم ، فهو الخالق وحده لا شريك له ، فكيف يعبد معه غيره ، كما قال إبراهيم [ عليه السلام ]{[10997]} { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 ، 96 ] .
ومعنى الآية : أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده ؛ فلهذا يجب أن يُفْرَد بالعبادة وحده لا شريك له .
وقوله تعالى : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ينبه به تعالى على ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولدا ، كما يزعم من قاله من اليهود في العزير ، ومن قال من النصارى في المسيح وكما قال{[10998]} المشركون من العرب في الملائكة : إنها بنات الله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
ومعنى قوله [ تعالى ]{[10999]} { وَخَرَقُوا } أي : واختلقوا وائتفكوا ، وتخرّصوا وكذبوا ، كما قاله علماء السلف . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَخَرَقُوا } يعني : أنهم تخرصوا .
وقال العوفي عنه : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } قال : جعلوا له بنين وبنات . وقال مجاهد : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } قال : كذبوا . وكذا قال الحسن . وقال الضحاك : وضعوا ، وقال السُّدِّي : قطعوا .
قال ابن جرير : فتأويل الكلام إذًا : وجعلوا لله الجن شركاء{[11000]} في عبادتهم إياه ، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا ظهير { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } يقول : وتخرصوا لله كذبا ، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم بحقيقة ما يقولون ، ولكن جهلا بالله وبعظمته ، وأنه لا ينبغي إن كان إلها أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة ، ولا أن يشركه في خلقه شريك .
ولهذا قال تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } أي : تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد ، والنظراء والشركاء .
عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال : { وجعلوا لله شركاء الجن } أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا : الملائكة بنات الله . وسماهم جنا لاجتنانهم تحقيرا لشأنهم ، أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى ، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم ، أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع ، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية . ومفعول { جعلوا } { لله شركاء } والجن بدل من { شركاء } أو { شركاء } الجن و{ لله } متعلق ب{ شركاء } ، أو حال منه وقرئ { الجن } بالرفع كأنه قيل : من هم فقيل الجن ، و{ الجن } بالجر على الإضافة للتبيين . { وخلقهم } حال بتقدير قد ، والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق . وقرئ { وخلقهم } عطفا على { الجن } أي وما يخلقونه من الأصنام ، أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإفك حيث نسبوه إليه . { وخرقوا له } افتعلوا وافتروا له . وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير . وقرئ " وحرفوا " أي وزوروا . { بنين وبنات } فقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وقالت العرب الملائكة بنات الله . { بغير علم } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلا ، وهو في موضع الحال من الواو ، أو المصدر أي خرقا بغير علم . { سبحانه وتعالى عما يصفون } وهو أن له شريكا أو ولدا .
{ جعلوا } بمعنى صيروا ، و { الجن } مفعول و { شركاء } مفعول ثان مقدم ، ويصح أن يكون قوله { شركاء } مفعولاً أولاً و { لله } في موضع المفعول الثاني و { الجن } بدل من قوله { شركاء } وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب ، العابدين للجن ، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا ، أما الذين «خرقوا البنين » فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح ، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالوا : للملائكة بنات الله ، فكأن الضمير في { جعلوا } و { خرقوا } لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا ، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد ، وقرأ شعيب بن أبي حمزة «شركاء الجنِّ » بخفض النون ، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة «الجِّن والجُّن » بالخفض والرفع على تقديرهم الجن ، وقرأ الجمهور «وخلَقهم » بفتح اللام على معنى وهو خلقهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو خلقهم » يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين ، وقرأ يحيى بن يعمر «وخلْقهم » بسكون اللام عطفاً على الجن أي جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناماً شركاء بالله ، وقرأ السبعة سوى نافع «وخرَقوا » بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا{[5035]} وقرأ نافع «وخرّقوا » بتشديد الراء على المبالغة ، وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا » مشددة الراء ، وقوله { بغير علم } نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى ، { سبحانه } أي تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى .