{ وإذ قال موسى لقومه } من بني إسرائيل : { يا قوم لم تؤذونني } وذلك حين رموه بالأدرة ، { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } والرسول يعظم ويحترم . { فلما زاغوا } عدلوا عن الحق ، { أزاغ الله قلوبهم } أمالها عن الحق ، يعني أنهم لما تركوا الحق بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق ، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } قال الزجاج : يعني لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق .
{ 5 } { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
[ أي : ] { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } موبخا لهم على صنيعهم ، ومقرعا لهم على أذيته ، وهم يعلمون أنه رسول الله : { لِمَ تُؤْذُونَنِي } بالأقوال والأفعال ، { وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } .
والرسول من حقه الإكرام والإعظام ، والانقياد{[1071]} بأوامره ، والابتدار لحكمه .
وأما أذية الرسول الذي إحسانه إلى الخلق فوق كل إحسان بعد إحسان الله ، ففي غاية الوقاحة والجراءة والزيغ عن الصراط المستقيم ، الذي قد علموه وتركوه ، ولهذا قال : { فَلَمَّا زَاغُوا } أي : انصرفوا عن الحق بقصدهم { أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها ، ولم يوفقهم الله للهدى ، لأنهم لا يليق بهم الخير ، ولا يصلحون إلا للشر ، { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الذين لم يزل الفسق وصفا لهم{[1072]} ، لا لهم قصد في الهدى ، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده ، ليس ظلما منه ، ولا حجة لهم عليه ، وإنما ذلك بسبب منهم ، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه ، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال{[1073]} والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب [ عقوبة لهم وعدلا منه بهم ] كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه : { لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } أي : لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة ؟ . وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصاب{[28781]} من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ؛ ولهذا قال : " رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " {[28782]} وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يُوَصّلوا إليه أذى ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا }[ الأحزاب : 69 ] .
وقوله : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } أي : فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به ، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى ، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }[ الأنعام : 110 ] وقال :{ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }[ النساء : 115 ] ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية : { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
{ وإذ قال موسى لقومه }مقدرا بأذكر أو كان كذا { يا قوم لم تؤذونني } بالعصيان والرمي بالادرة ، { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } بما جئتكم من المعجزات ، والجملة حال مقررة للإنكار فإن العلم بنبوته يوجب تعظيمه ويمنع إيذاءه وقد لتحقيق العلم ، { فلما زاغوا }عن الحق{ أزاغ الله قلوبهم }صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب ، { والله لا يهدي الفاسقين }هداية موصلة إلى معرفة الحق أو إلى الجنة .
ثم ذكر الله تعالى مقالة موسى وذلك ضرب مثل للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ذكرهم الله تعالى بقوم آذوا نبيهم على علم منهم بنبوته و { زاغوا } ف { أزاغ الله قلوبهم } ، أي فاحذروا أيها المؤمنون أن يصيركم العصيان ، وقول الباطل إلى مثل حالهم ، وقال أبو أمامة : هم الخوارج ، وقال سعد بن أبي وقاص : هم الحرورية ، المعنى : أنهم أشباههم في أنهم لما { زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ، وقوله :{ لم تؤذونني } تقرير ، والمعنى { تؤذونني } بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم ، وهذه كانت أفعال بني إسرائيل ، وانظر إنه تعالى أسند الزيغ إليهم لكونه فعل حطيطة{[11072]} ، كما قال الله تعالى : { نسوا الله فأنساهم أنفسهم }{[11073]} [ الحشر : 19 ] وهذا يخالف قوله تعالى : { ثم تاب عليهم ليتوبوا }{[11074]} [ التوبة : 118 ] فأسند التوبة إلى نفسه لكونها فعل رفعة ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : { وإذا مرضت فهو يشفين }{[11075]} [ الشعراء : 80 ] ، و { زاغ } معناه : مال ، وصار عرفها في الميل عن الحق ، و { أزاغ الله قلوبهم } معناه : طبع عليها وختم وكثر ميلها عن الحق ، وهذه العقوبة على الذنب بالذنب ، وأمال ابن أبي إسحاق : { زاغوا } .