قوله تعالى : { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين }يعني : فاطبخ لي الآجر ، وقيل : إنه أول من اتخذ الآجر وبنى به ، { فاجعل لي صرحاً } قصراً عالياً ، وقيل : منارة ، قال أهل السير : لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامان الفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير ، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، أراد الله عز وجل أن يفتنهم فيه ، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دماً ، فقال قد قتلت إله موسى ، وكان فرعون يصعد على البراذين ، فبعث الله جبريل جنح غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ، فذلك قوله تعالى : { فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً } { لعلي أطلع إلى إله موسى } أنظر إليه وأقف على حاله ، { وإني لأظنه } يعني موسى ، { من الكاذبين } في زعمه أن للأرض والخلق إلهاً غيري ، وأنه رسوله .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } متجرئا على ربه ، ومموها على قومه السفهاء ، أخفاء العقول : { يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } أي : أنا وحدي ، إلهكم ومعبودكم ، ولو كان ثَمَّ إله غيري ، لعلمته ، فانظر إلى هذا الورع التام من فرعون ! ، حيث لم يقل " ما لكم من إله غيري " بل تورع وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } وهذا ، لأنه عندهم ، العالم الفاضل ، الذي مهما قال فهو الحق ، ومهما أمر أطاعوه .
فلما قال هذه المقالة ، التي قد تحتمل أن ثَمَّ إلها غيره ، أراد أن يحقق النفي ، الذي جعل فيه ذلك الاحتمال ، فقال ل " هامان " { فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ } ليجعل له لبنا من فخار . { فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا } أي : بناء { لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ولكن سنحقق هذا الظن ، ونريكم كذب موسى . فانظر هذه الجراءة العظيمة على اللّه ، التي ما بلغها آدمي ، كذب موسى ، وادَّعى أنه إله ، ونفى أن يكون له علم بالإله الحق ، وفعل الأسباب ، ليتوصل إلى إله موسى ، وكل هذا ترويج ، ولكن العجب من هؤلاء الملأ ، الذين يزعمون أنهم كبار المملكة ، المدبرون لشئونها ، كيف لعب هذا الرجل بعقولهم ، واستخف أحلامهم ، وهذا لفسقهم الذي صار صفة راسخة فيهم .
فسد دينهم ، ثم تبع ذلك فساد عقولهم ، فنسألك اللهم الثبات على الإيمان ، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وتهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعوى الإلهية لنفسه القبيحة - لعنه الله - كما قال تعالى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ الزخرف : 54 ] ، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية ، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ؛ ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ، [ و ]{[22322]} قال تعالى إخبارا عنه : { فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [ النازعات : 23 - 26 ] يعني : أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مُصَرِّحا لهم بذلك ، فأجابوه سامعين مطيعين . ولهذا انتقم الله تعالى منه ، فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة ، وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك فقال : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ] .
وقوله : { فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } أي : أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين ، ليتخذ له آجُرّا لبناء الصرح ، وهو القصر المنيف الرفيع - كما قال في الآية الأخرى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ . أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ } [ غافر : 36 ، 37 ] ، وذلك لأن{[22323]} فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يُرَ في الدنيا بناء أعلى منه ، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون ؛ ولهذا قال : { وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : في قوله إن ثَمّ ربًّا غيري ، لا أنه كذبه في أن الله أرسله ؛ لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع ، فإنه قال : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] وقال : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ] وقال : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } وهذا قول ابن جرير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيّهَا الْملاُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحاً لّعَلّيَ أَطّلِعُ إِلَىَ إِلََهِ مُوسَىَ وَإِنّي لأظُنّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال فرعون لأشراف قومه وسادتهم : يا أيّها المَلأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي فتعبدوه ، وتصدّقوا قول موسى فيما جاءكم به من أن لكم وله ربا غيري ومعبودا سواي ، فَأوْقِدْ لي يا هامانُ عَلى الطّينِ يقول : فاعمل لي آجرا ، وذُكر أنه أوّل من طبخ الّآجر وبنى به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد فَأَوْقِدْ لي يا هامانُ عَلى الطّينِ قال : على المدَر يكون لَبِنا مطبوخا .
قال ابن جُرَيج : أوّل من أمر بصنعة الآجرّ وبنى به فرعون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة فَأوْقِدْ لي يا هامانُ عَلى الطّينِ قال : فكان أوّل من طبخ الآجرّ يبني به الصرح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله ( فَأَوْقِدْ لي يا هامانُ عَلى الطينِ ) قال : المطبوخ الذي يوقد عليه هو من طين يبنون به البنيان .
وقوله : فاجْعَلْ لي صَرْحا يقول : ابن لي بالآجرّ بناء ، وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر . ومنه قول الشاعر :
بِهِنّ نَعامٌ بَناها الرّجا *** لُ يَحْسَبُ أعْلامَهُنّ الصّرُوحا
وقوله : ( لَعَلّي أطّلِعُ إلى إلَهِ مُوسَى ) يقول : أنظر إلى معبود موسى ، الذي يعبده ، ويدعو إلى عبادته وإنّي لأظُنّهُ فيما يقول من أن له معبودا يعبده في السماء ، وأنه هو الذي يؤيده وينصره ، وهو الذي أرسله إلينا ، من الكاذبين ، فذكر لنا أن هامان بنى له الصرح ، فارتقى فوقه . فكان من قصته وقصة ارتقائه ما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قال فرعون لقومه : يا أيّها المَلأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي ، فَأوْقِدْ لي يا هامانُ عَلى الطّينِ ، فاجْعَلْ لي صَرْحا لعلي أذهب في السماء ، فأنظر إلى إله موسى فلما بُنِي له الصرح ، ارتقى فوقه ، فأمر بُنّشابة فرمى بها نحو السماء ، فردّت إليه وهي متلطخة دما ، فقال : قد قتلت إله موسى ، تعالى الله عما يقولون .