قوله تعالى : { يخادعون الله } أي يخالفون الله ، وأصل الخدع في اللغة الإخفاء ومنه المخدع للبيت الذي يخفى فيه المتاع فالمخادع يظهر خلاف ما يضمر والخدع من الله في قوله ( وهو خادعهم ) أي يظهر لهم ويعجل لهم من النعيم في الدنيا خلاف ما يغيب عنهم من عذاب الآخرة . وقيل : أصل الخدع : الفساد ، معناه يفسدون ما أظهروا من الإيمان بما أضمروا من الكفر . وقوله : ( وهو خادعهم ) أي : يفسد عليهم نعيمهم في الدنيا بما يصيرهم إليه من عذاب الآخرة . فإن قيل ما معنى قوله ( يخادعون الله ) والمفاعلة للمشاركة وقد جل الله تعالى عن المشاركة في المخادعة قيل : قد ترد المفاعلة لا على معنى المشاركة كقولك عافاك الله وعاقبت فلاناً ، وطارقت النعل . وقال الحسن : معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ) أي : أولياء الله ، وقيل : ذكر الله هاهنا تحسين والقصد بالمخادعة الذين آمنوا كقوله تعالى ( فأن لله خمسه وللرسول ) وقيل معناه يفعلون في دين الله ما هو خداع في دينهم .
قوله تعالى : { والذين آمنوا } . أي و يخادعون المؤمنين بقولهم إذا رأوهم : آمنا وهم غير مؤمنين .
قوله تعالى : { وما يخدعون } . قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو : وما يخادعون كالحرف الأول وجعلوه من المفاعلة التي تختص بالواحد ، وقرأ الباقون : وما يخدعون على الأصل .
قوله تعالى : { إلا أنفسهم } . لأن وبال خداعهم راجع إليهم لأن الله تعالى يطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على نفاقهم فيفتضحون في الدنيا ويستوجبون العقاب في العقبى .
قوله تعالى : { وما يشعرون } . أي لا يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم وأن وبال خداعهم يعود عليهم .
والمخادعة : أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع ، فهؤلاء المنافقون ، سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك ، فعاد خداعهم على أنفسهم ، فإن{[39]} هذا من العجائب ، لأن المخادع ، إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد{[40]} أو يسلم ، لا له ولا عليه ، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم ، وكأنهم{[41]} يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها ، لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم [ شيئا ] وعباده المؤمنون ، لا يضرهم كيدهم شيئا ، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان ، فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم ، وصار كيدهم في نحورهم ، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا ، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة .
ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع ، بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم ، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك .
وقوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي : بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك ، وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] ؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } يقول : وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم ، وما يشعرون بذلك من أنفسهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] .
ومن القراء من قرأ : " وَمَا يُخَادِعُونَ{[1257]} إِلا أَنفُسَهُمْ " ، وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد .
قال ابن جرير : فإن قال قائل : كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا ، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية ؟
قيل : لا تمتنع{[1258]} العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية ، لينجو مما هو له خائف ، مخادعا ، فكذلك المنافق ، سمي مخادعا لله وللمؤمنين ، بإظهاره ما أظهر{[1259]} بلسانه تقية ، مما تخلص به من القتل والسباء{[1260]} والعذاب العاجل ، وهو لغير ما أظهر ، مستبطن ، وذلك من فعلِه - وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا - فهو لنفسه بذلك من فعله خادع ، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها ، ويُسقيها كأس{[1261]} سرورها ، وهو موردها حياض عطبها ، ومُجرّعها بها كأس عذابها ، ومُزيرُها{[1262]} من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به ، فذلك خديعته نفسه ، ظنًا منه - مع إساءته إليها في أمر معادها - أنه إليها محسن ، كما قال تعالى : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم{[1263]} عليها ربهم بكفرهم ، وشكهم وتكذيبهم ، غير شاعرين ولا دارين ، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون{[1264]} .
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا عليّ بن المبارك ، فيما كتب إليّ ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا محمد بن ثور ، عن ابن جُرَيْج ، في قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ } قال : يظهرون " لا إله إلا الله " يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم ، وفي أنفسهم غير ذلك{[1265]} .
وقال سعيد ، عن قتادة : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } نعت المنافق عند كثير : خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله ، يصبح على حال ويمسي على غيره ، ويمسي على حال ويصبح على غيره ، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.