43- نفروا استكباراً في الأرض وأنفة من الخضوع للرسول والدين الذي جاء به ، ومكروا مكر السيئ - وهو الشيطان الذي قادهم إلى الانصراف عن الدين ومحاربة الرسول - ولا يحيط ضرر المكر السيئ إلا بمن دبروه ، فهل ينتظرون إلا ما جرت به سنة الله في الذين سبقوهم ؟ فلن تجد لطريقة الله في معاملة الأمم تغييراً يُطمِّع هؤلاء الماكرين في وضع لم يكن لمن سبقوهم ، ولن تجد لسنة الله تحويلا عن اتجاهها .
قوله تعالى : { استكباراً في الأرض } نصب استكباراً على البدل من النفور ، { ومكر السيئ } يعني : العمل القبيح ، أضيف المكر إلى صفته ، قال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ حمزة : مكر السيء ساكنة الهمزة تخفيفاً ، وهي قراءة الأعمش ، { ولا يحيق المكر السيئ } أي : لا يحل ولا يحيط المكر السيء ، { إلا بأهله } فقتلوا يوم بدر ، وقال ابن عباس : عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك . والمعنى : وبال مكرهم راجع إليهم ، { فهل ينظرون } ينتظرون ، { إلا سنة الأولين } إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار .
وليس إقسامهم المذكور ، لقصد حسن ، وطلب للحق ، وإلا لوفقوا له ، ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق ، وعلى الحق ، وبهرجة في كلامهم هذا ، يريدون به المكر والخداع ، وأنهم أهل الحق ، الحريصون على طلبه ، فيغتر به المغترون ، ويمشي خلفهم المقتدون .
{ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ } الذي مقصوده مقصود سيئ ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل { إِلَّا بِأَهْلِهِ } فمكرهم إنما يعود عليهم ، وقد أبان اللّه لعباده في هذه المقالات وتلك الإقسامات ، أنهم كذبة في ذلك مزورون ، فاستبان خزيهم ، وظهرت فضيحتهم ، وتبين قصدهم السيئ ، فعاد مكرهم في نحورهم ، ورد اللّه كيدهم في صدورهم .
فلم يبق لهم إلا انتظار ما يحل بهم من العذاب ، الذي هو سنة اللّه في الأولين ، التي لا تبدل ولا تغير ، أن كل من سار في الظلم والعناد والاستكبار على العباد ، أن يحل به نقمته ، وتسلب عنه نعمته ، فَلْيَتَرَّقب هؤلاء ، ما فعل بأولئك .
استكباراً في الأرض ومكر السيىء ! . .
وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم : استكباراً في الأرض ومكر السيىء . والقرآن يكشفهم هذا الكشف ، ويسجل عليهم هذا المسلك . ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم ، تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري :
ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله . .
فما يصيب مكرهم السيى ء أحداً إلا أنفسهم ؛ وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم .
وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن ? إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم ، وهو معروف لهم . وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد :
( فلن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً ) . .
و { استكباراً } قيل فيه بدل من النفور ، وقيل مفعول من أجله ، أي نفروا من أجل الاستكبار ، وأضاف «المكر » إلى { السَّيِّىء } وهو صفة كما قيل دار الآخرة ، ومسجد الجامع ، وجانب الغربي ، وقرأ الجمهور بكسر الهمزة من «السَّيِّىء » وقرأ حمزة وحده{[9750]} «السَّيِّىء » بسكون الهمزة وهو في الثانية برفع الهمزة كالجماعة ، ولحن هذه القراءة الزجاج ووجهها أبو علي الفارسي بوجوه منها أن يكون أسكن لتوالي الحركات{[9751]} كما قال :
قلت صاحب قوم . . . . {[9752]}
على أن المبرد روى هذا قلت صاح ، وكما امرؤ القيس : [ السريع ]
اليوم أشربْ غير مستحقب . . . إثماً من الله ولا واغل{[9753]}
على أن المبرد قد رواه فاشرب وكما قال جرير : [ البسيط ]
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم . . . ونهر تيرى ولن تعرفْكم العَرب{[9754]}
وقرأ ابن مسعود «ومكراً سيئاً » ، قال أبو الفتح : يعضده تنكير ما قبله من قوله { استكباراً }{[9755]} ، و { يحيق } معناه يحيط ويحل وينزل ولا يستعمل إلا في المكروه ، وقوله { إلا بأهله } ، أي أنه لا بد أن يحيق بهم إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة فعاقبته الفاسدة لهم ، وإن حاق في الدنيا بغيرهم أحياناً فعاقبة ذلك على أهله ، وقال كعب لابن عباس : إن في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها » ، فقال ابن عباس : أنا أوجدك هذا في كتاب الله تعالى : { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }{[9756]} ، و { ينظرون } معناه ينتظرون ، و «السنة » الطريقة والعادة ، وقوله { فلن تجد لسنة الله تبديلاً } أي لتعذيبه الكفرة المكذبين ، وفي هذا توعد بين .