31- بعد قتله أصابته حسرة وحيرة ، ولم يدر ما يصنع بجثته ، فأرسل الله غراباً ينبش تراب الأرض ليدفن غراباً ميتاً ، حتى يُعَلِّم ذلك القاتل كيف يستر جثة أخيه ، فقال القاتل مُحِسَّا بوبال ما ارتكب ، متحسراً على جريمته : أعجزت عن أن أكون مثل هذا الغراب فأستر جثة أخي ؟ ! فصار من النادمين على جرمه ومخالفته دواعي الفطرة{[52]} .
قوله تعالى : { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه } ، فلما رأى قابيل ذلك .
قوله تعالى : { قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي } ، أي جيفته ، وقيل : عورته ، لأنه كان قد سلب ثيابه .
قوله تعالى : { فأصبح من النادمين } ، على حمله على عاتقه لا على قتله ، وقيل :على فراق أخيه ، وقيل : ندم لقلة النفع بقتله ، فإنه أسخط والديه ، وما انتفع بقتله شيئاً ، ولم يكن ندمه على القتل وركوب الذنب . قال عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ، ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء ، فناداه آدم : أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيباً ، فقال آدم : إن دم أخيك ليناديني من الأرض ، فلم قتلت أخاك ؟ قال : فأين دمه إن كنت قتلته ؟ فحرم الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده أبداً . وقال مقاتل بن سليمان عن الضحاك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما قتل قابيل هابيل وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر ، وتغيرت الأطعمة ، وحمضت الفواكه ، وأمر الماء ، واغبرت الأرض ، فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند ، فإذا قابيل قد قتل هابيل ، فأنشأ يقول : وهو أول من قال الشعر :
تغيرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي وطعم ولون *** وقل بشاشة الوجه المليح
وروي عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من قال إن آدم عليه السلام قال شعراً فقد كذب على الله ورسوله ، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم السلام في النهي عن الشعر سواء ، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، فلما قال آدم مرثيته قال لشيث : يا بني إنك وصي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه ، فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان ، وكان يتكلم بالعربية والسريانية ، وهو أول من خط بالعربية ، وكان يقول الشعر ، فنظر في المرثية ، فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم ، فوزنه شعراً ، وزاد فيه أبيات منها :
ومالي لا أجود بسكب دمع *** وهابيل تضمنه الضريح
أرى طول الحياة علي غما *** فهل أنا من حياتي مستريح
فلما مضى من عمر آدم عليه السلام مائة وثلاثون سنة ، -وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين- ولدت له حواء شيثاً ، واسمه : هبة الله ، يعني أنه خلف من هابيل علمه الله تعالى ساعات الليل والنهار ، وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها ، وأنزل عليه خمسين صحيفة ، فصار وصي آدم وولي عهده ، وأما قابيل فقيل له : اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً ، لا تأمن من تراه ، فأخذ بيد أخته إقليما ، وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن ، فأتاه إبليس فقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل ، لأنه كان يعبد النار ، فانصب أنت نارا ًأيضاً تكون لك ولعقبك ، فبنى بيتاً للنار ، فهو أول من عبد النار ، وكان لا يمر به أحد إلا رماه ، فأقبل ابن له أعمى ومعه ابن له ، فقال للأعمى ابنه : هذا أبوك قابيل ، فرمى الأعمى أباه فقتله ، فقال ابن الأعمى : قتلت أباك ؟ فرفع يده ولطم ابنه ، فمات ، فقال الأعمى : ويل لي قتلت أبي برميتي ، وقتلت ابني بلطمتي . وقال مجاهد : فعلقت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها وساقها ، وعلقت منها فهو معلق إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس ما دارت عليه ، في الصيف حظيرة من نار ، وفي الشتاء حظيرة من ثلج ، قال : واتخذ أولاد آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير ، وانهمكوا في اللهو ، وشرب الخمر ، وعبادة النار ، والزنا ، والفواحش ، حتى أغرقهم الله بالطوفان أيام نوح عليه السلام ، وبقي نسل شيث .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمر بن حفص بن غياث ، ثنا أبي ، ثنا الأعمش ، حدثني عبد الله بن مرة عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ) .
فلما قتل أخاه لم يدر كيف يصنع به ؛ لأنه أول ميت مات من بني آدم { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ } أي : يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا . { لِيُرِيَهُ } بذلك { كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ } أي : بدنه ، لأن بدن الميت يكون عورة { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } وهكذا عاقبة المعاصي الندامة والخسارة .
ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية . صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحما يسري فيه العفن ، فهو سوأة لا تطيقها النفوس .
وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه - وهو الباطش القاتل الفاتك - عن أن يواري سوأة أخيه . عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير :
( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه . قال : يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ؟ فأصبح من النادمين ) . .
وتقول بعض الروايات : إن الغراب قتل غرابا آخر ، أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب ، فجعل يحفر في الأرض ، ثم واراه وأهال عليه التراب . . فقال القاتل قولته . وفعل مثلما رأى الغراب يفعل . .
وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتا يدفن - وإلا لفعل - وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم . أو لأن هذا القاتل كان حدثا ولم ير من يدفن ميتا . . والاحتمالان قائمان . وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة - وإلا لقبل الله توبته - وإنما كان الندم الناشى ء من عدم جدوى فعلته ، وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق .
كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب ، قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس . وقد يكون حدثا خارقا أجراه الله . . وهذه كتلك سواء . . فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي . . هذا من قدرته ، وهذا من قدرته على السواء . .
{ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه } روي أنه لما قتله تحير في أمره ولم يدر ما يصنع به إذ كان أول ميت من بني آدم ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة والضمير في ليرى ، لله سبحانه وتعالى ، أو للغراب ، وكيف حال من الضمير في { يواري } والجملة ثاني مفعولي يرى ، والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فإنه مما يستقبح أن يرى . { قال يا ويلتا } كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم . والمعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك ، والويل والويلة الهلكة . { أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي } لا أهتدي إلى مثل ما اهتدي إليه ، وقوله : { فأواري } عطف على { أكون } وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى ههنا لو عجزت لواريت ، وقرئ بالسكون على فأنا أواري أو على تسكين المنصوب تخفيفا . { فأصبح من النادمين } على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل ، وتلمذه للغراب واسوداد لونه وتبري أبويه منه ، أذ روي أنه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ منه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وعدم الظفر بما فعله من أجله .
{ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض كيف يواري سوءة أخيه قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي } . البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان ، أي فألْهم الله غراباً ينزل بحيث يراه قابيل . وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغِربان من قبلُ ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس . ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب ، فقالوا : غُراب البين .
والضمير المستتر في « يُريَه » إن كان عائداً إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان ، وإن كان عائداً إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع ، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز ، لأنّه سبب الرؤية فكأنَّه مُرِيءٌ . و { كيف } يجوز أن تكون مجرّدة عن الاستفهام مراداً منها الكيفية ، أو للاستفهام ، والمعنى : ليريه جواب كيف يُواري .
وَالسَّوْأة : مَا تَسُوء رؤيتُه ، وَهِي هنا تغيّر رائحة القتيل وتقطّع جسمه .
وكلمة { يَا ويلتا } من صيّغ الاستغاثة المستعملة في التعجّب ، وأصله يا لَوَيْلَتِي ، فعوّضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم : يا عَجَباً ، ويجوز أن يجعل الألف عوضاً عن ياء المتكلم ، وهي لغة ، ويكون النّداء مجازاً بتنزيل الويلة منزلة ما يُنَادَى ، كقوله : { يَا حسرتى على ما فرّطتُ في جنب الله } [ الزمر : 56 ] . والاستفهام في { أعجزت } إنكاري .
وهذا المشهد العظيم هو مشهد أوّل حضارة في البشر ، وهي من قبيل طلب سَتر المشاهد المكروهة . وهو أيضاً مشهد أوّلِ علمٍ اكتسبه البشر بالتّقليد وبالتَّجربة ، وهو أيضاً مشهد أوّل مظاهر تَلقّي البشر معارفه من عوالم أضعفَ منه كما تَشَبَّه النَّاس بالحيوان في الزينة ، فلبسوا الجُلُود الحسنة الملوّنة وتكلّلوا بالريش المُلوّن وبالزهور والحجارة الكريمة ، فكم في هذه الآية من عبرة للتَّاريخ والدّين والخُلُق .
{ فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } .
القول فيه كالقول في { فأصبح من الخاسرين } [ المائدة : 30 ] . ومعنى { من النادمين } أصبح نادماً أشدّ ندامة ، لأنّ { من النادمين } أدلّ على تمكّن الندامة من نفسه ، من أن يقال « نادماً » . كما تقدّم عند قوله تعالى : { وكان من الكافرين } [ البقرة : 34 ] وقوله : { فتكونا من الظالمين في سورة البقرة ( 35 ) .
والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه ؛ لم يتفطّن لما فيه عليه من مضرّة قال تعالى : { أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } [ الحجرات : 6 ] ، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذْ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميّت ورأى نفسه يجترىء على قتل أخيه ، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلاّ مبدأ النّدامة وحُبِّ الكرامة لأخيه .
ويحتمل أن هذا النّدم لم يكن ناشئاً عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة ، فلذلك لم ينفعه . فجاء في الصّحيح " ما مِن نفس تُقْتَل ظُلماً إلاّ كان على ابنِ آدم الأوّل كِفْل من دمها ذلك لأنَّه أوّل من سَنّ القتل " ويحتمل أن يكون دليلاً لمن قالوا : إنّ القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عبّاس ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية من سورة النّساء ( 93 ) .