الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ} (31)

{ فَبَعَثَ اللَّهُ } غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله عليه حتى مكّن له ثم ألقاه في الحفيرة وواراه . وقابيل ينظر إليه فلما رأى ذلك { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } أي جيفته وفيه دليل على أن الميت كلّه عورة { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } على حمله لا على قتله ، وقيل : على موت أخيه لا على ركوب الذنب .

يدل عليه ما أخبر الأوزاعي عن المطلب بن عبد اللّه المخزومي قال : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء ، فناداه اللّه : أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيباً ، فقال اللّه عز وجل : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك ؟ فأين دمه إن كنت قتلته ؟ ومنع اللّه عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعدها أبداً .

مقاتل بن الضحّاك عن ابن عباس قال : لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكّة أشتال الشجر وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه : وأمرّ الماء واغبرّت الأرض .

فقال آدم ( عليه السلام ) : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا بقابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول ، وهو أوّل من قال الشعر :

تغيرت البلاد ومن عليها *** ووجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم *** وقلّ بشاشة الوجه الصبيح

وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : من قال إن آدم قال شعراً فقد كذب على اللّه ورسوله ورمى آدم بالمآثم ، إنّ محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم صلوات اللّه عليهم في النهي عن الشعر سواء ، قال اللّه تعالى

{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، وإنما يقول الشعر من تكلّم بالعربية فلمّا قال آدم مرثية في إبنه هابيل ، وهو أوّل شهيد كان على وجه الأرض . قال آدم لابنه شيث : وهو أكبر ولده ووصيّه : يا بني إنّك وصيي ، إحفظ هذا الكلام ليتوارث فلم يزل يقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية ، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فإذا هو سجع ، فقال إن هذا ليقوّم شعراً فرّد المقدم إلى آخره والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعراً وما زاد فيه ولا نقص حرفاً من ذلك قال :

تغيّرت البلاد ومن عليها *** ووجه الأرض مغبرّ قبيح

تغير كل ذي طعم ولون *** وقلّ بشاشة الوجه الصبيح

وقابيل أذاق الموت هابي *** ل فواحزني لقد فقد المليح

ومالي لا أجود بسكب دمع *** وهابيل تضمنّه الضريح

بقتل ابن النبي بغير جرم *** قلبي عند قلبه جريح

أرى طول الحياة عليّ غمّاً *** وهل أنا من حياتي مستريح

فجاورنا عدوّاً ليس يفنى *** عدوماً يموت فنستريح

دع الشكوى فقد هلكا جميعاً *** بهالك ليس بالثمن الربيح

وما يغني البكاء عن البواكي *** إذا ما المرء غيّب في الضريح

فبكّ النفس منك ودع هواها *** فلست مخلداً بعد الذبيح

فأجابه إبليس في جوف الليل شامتاً :

تنحّ عن البلاد وساكنيها *** فتىً في الخلد ضاق بك الفسيح

فكنت بها وزوجك في رخاء *** وقلبك من أذى الدنيا مريح

فما انفكت مكايدي ومكري *** إلى أن فاتك الخلد الرّبيح

فلولا رحمة الجبّار أضحى *** بكفك من جنان الخلد ريح

وقال سالم بن أبي الجعد : لما قتل هابيل مكث آدم ( عليه السلام ) مائة سنة لا أكثر .

ثم أتى فقيل : حيّاك اللّه وبياك أي ضحّكك ، ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حوّاء شيثاً وتفسيره : هبة اللّه ، يعني إنه خلف من هابيل ، وعلّمه اللّه تعالى ساعات الليل والنهار وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه هبة اللّه وصار وصي آدم عليهما السلام وولي عهده ، وأما قابيل فقيل له : إذهب طريداً شريداً فزعاً مرهوباً لا يأمن من يراه فأخذ بيد أخته هبة اللّه ذهب بها إلى عدن من أرض اليمن ، فأتاه إبليس ، فقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النّار ويخدمها فانصب أنت ناراً يكون لك ولعقبك فنصب ناراً وهو أوّل من نصب ناراً وعبدها .

قالوا : كان لا يمرّ به أحداً من ولده إلاّ رماه ، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له فقال الأعمى : إنّ هذا أبوك قابيل فرمى الأعمى ابن قابيل فقتله . فقال ابن الأعمى : قتلت أباك . فرفع يده فلطم إبنه فمات قال الأعمى : ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي .

قال مجاهد : فعلقت إحدى رجل قابيل إلى فخذه وساقه وعلقت يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيث أدارت عليه بالصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج ، قالوا : واتّخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطنبور ، والمزامير ، والعيدان ، والطنابر ، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى طوّفهم اللّه عز وجل بالطوفان أيام نوح ( عليه السلام ) وبقي نسل شيث .

قال عبد اللّه بن عمر : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار العذاب قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم .

الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن مسروق بن عبد اللّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تقتل نفس مسلمة ظلماً إلاّ كان على ابن آدم ( الأوّل ) كفل من دمه ، لأنه أوّل من سنّ القتل " .

مسلم بن عبد اللّه عن سعيد بن صور عن أنس بن مالك قال : " سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال : " يوم دم " قالوا : وكيف ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : " فيه حاضت حوّاء وقتل ابن آدم أخاه " .

وعن يحيى بن زهدم قال : حدّثني أبي عن أبيه عن أنس قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : " " امتن اللّه عز وجل على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث ، بالريح بعد الروح فلولا إن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميماً ، وبالدودة في الحبة فلولا أن الدودة تقع في الحبة لأكنزها الملوك وكانت حباً من الدنانير والدراهم . وبالموت بعد الكبر ، فإن الرجل ليكبر حتى يمّل نفسه ويملّه أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أيسر له " .