السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ} (31)

ولم يدر ما يصنع به لأنه أوّل ميت على وجه الأرض من بني آدم وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة فحمله بعد قتله في جراب أربعين يوماً وقال ابن عباس : سنة حتى أروح وعكف عليه الطير والسباع تنظر متى يرمي فتأكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره ورجليه حتى مكنّه ثم ألقاه في الحفرة وواراه وقابيل ينظر إليه . فذلك قوله تعالى : { فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه } أي : الله أو ليريه الغراب أي : ليعلمه ؛ لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز { كيف يواري } أي : يستر { سوأة } أي : جيفة { أخيه } وقيل : عورته لأنه كان سلبه ثيابه فلما رأى قابيل ذلك { قال يا ويلتي } كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم والمعنى : يا ويلتي احضري فهذا أوانك والويل والويلة الهلكة { أعجزت } أي : مع ما جعل الله لي من القوّة الناطقة { أن } أي : عن أن { أكون } مع مالي من الجوارح الصالحة لأعظم من ذلك { مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي } أي : لأهتدي إلى ما اهتدى إليه وقوله تعالى : { فأواري } عطف على أكون وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى لو عجزت لواريت { فأصبح } أي : بسبب قتله { من النادمين } أي : على ما فعل لأنه فقد أخاه وأغضب ربه وأباه وما انتفع من قتله بشيء ، قال المطلب بن عبد الله بن حنطب : لما قتل ابن آدم أخاه رجّت الأرض بما فيها سبعة أيام وعن ابن عباس لما قتله ، وكان آدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت وأمرّ الماء واغبرّت الأرض فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث .

وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض وشربت الأرض الدم فسأله آدم عليه السلام بعد مجيئه من مكة عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً فقال : بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك قال : فأين دمه إن كنت قتلته فحرّم الله عز وجل على الأرض من يومئذٍ أن تشرب دماً بعده أبداً ، وعن الواقدي : أنّ السودان كلهم من ولده وعن محمد بن إسحاق : كان نوح نائماً فرآه ابنه حام عرياناً فلم يستره فاسودّ في الوقت فالسودان من ولده ورآه ابنه سام فستره .

وروي أنّ آدم صلوات الله وسلامه عليه مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه لما أتى من مكة إلى الهند رثاه بشعر وهو :

تغيرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغير كل ذي طعم ولون *** وقل بشاشة الوجه المليح

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : من قال إنّ آدم قال شعراً فقد كذب إنّ محمداً والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء .

وروي أنه رثاه فلم يزل ينتقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يقول الشعر فنظر إلى المرثية فإذا هي سجع فقال : إنّ هذا يقوم منه شعر فرد المقدّم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدّم فوزنه شعراً وزيد فيه أبيات منها :

أرى طول الحياة عليّ غماً *** فهل أنا من حياتي مستريح

ومالي لا أجود بسكب دمع *** وهابيل تضمنه الضريح

فلما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمسين سنة ولدت له حواء شيئاً وتفسيره هبة الله أي : إنه خلف الله من هابيل علّمه الله ساعات الليل والنهار وأعلمه الله عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده . وأمّا قابيل فقيل له : اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً لا يأمن من يراه ، فأخذ بيد أخته أقليماً وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس لعنه الله تعالى وقال له : إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار فانصب أنت ناراً تكون لك ولعقبك فبنى بيت النار فهو أوّل من عبد النار ، قال مجاهد : واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله تعالى بالطوفان أيام نوح عليه السلام ، وبقي نسل شيث عليه السلام ، قال البقاعي في تفسيره : والله أعلم بما يروى من ذلك ولا يعتمد على مثل هذه الأحاديث ، وقد أحسن الطبري بقوله : أخبر الله تعالى بقتله ولا خبر يقطع العذر بصفة قتله على ما ذكرنا منه في مثله ولا فائدة في طلب الصحيح منه في الدين اه .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها لأنه أوّل من سنّ القتل ) .