البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ} (31)

الغراب : طائر معروف ويجمع في القلة على أغربة ، وفي الكثرة على غربان .

وغراب اسم جنس وأسماء الأجناس إذا وقعت على مسمياتها من غير أن تكون منقولة من شيء ، فإن وجد فيها ما يمكن اشتقاقه حمل على أنه مشتق ، إلا أنَّ ذلك قليل جدّاً ، بل الأكثر أن تكون غير مشتقة نحو : تراب ، وحجر ، وماء .

ويمكن غراب أن يكون مأخوذاً من الاغتراب ، فإن العرب تتشاءم به وتزعم أنه دال على الفراق .

وقال حران العود :

وأما الغراب فالغريب المطوّح .

وقال الشنفري :

غراب لاغتراب من النوى *** وبالباذين من حبيب تعاشره

البحث في الأرض نبش التراب وإثارته ، ومنه سميت براءة بحوث .

وفي المثل : لا تكن كالباحث عن الشفرة .

السوأة : العورة .

العجز : عدم الإطاقة ، وماضيه على فعل بفتح العين ، وهي اللغة الفاشية .

وحكى الكسائي فيه : فعل بكسر العين .

الندم : التحسر يقال منه : ندم يندم .

الصلب معروف وهو إصابة صلبة بجذع ، أو حائط كما تقول : عانه أي أصاب عينه ، وكيده أصاب كيده .

{ فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه } روي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض ، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به ، فخاف السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح ، وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا ، فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فقال : يا ويلتي أعجزت .

وقيل : حمله مائة سنة .

وقيل : طلب في ثاني يوم إخفاء قتل أخيه فلم يدر ما يصنع .

وقيل : بعث الله غراباً إلى غراب ميت ، فجعل يبحث قي الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت .

وقيل : بعث الله غراباً واحداً فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل .

وروي أنه أول ميت مات على وجه الأرض ، وكذلك جهل سنة المواراة .

والظاهر أنه غراب بعثه الله يبحث في الأرض ليرى قابيل كيف يواري سوءة هابيل ، فاستفاد قابيل ببحثه في الأرض أن يبحث هو في الأرض فيستر فيه أخاه ، والمراد بالسوءة هنا قيل : العورة ، وخصت بالذكر مع أنّ المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، ولأن سترها أوكد .

وقيل : جميع جيفته .

قيل : فإن الميت كله عورة ، ولذلك كفن بالأكفان .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسوءة هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها ، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة ، لا على جهة الغض منه ، بل الغض لاحق للقاتل وهو الذي أتى بالسوءة انتهى .

والسوءة الفضيحة لقبحها قال الشاعر :

يا لقومي للسوءة السوآء *** أي للفضيحة العظيمة .

قالوا : ويحتمل إن صح أنه قتل غراب غراباً أو كان ميتاً ، أن يكون الضمير في أخيه عائداً على الغراب ، أي : ليرى قابيل كيف يواري الغراب سوءة أخيه وهو الغراب الميت ، فيتعلم منه بالأداة كيف يواري قابيل سوءة هابيل ، وهذا فيه بعد .

لأن الغراب لا تظهر له سوءة ، والظاهر أنّ الإرادة هنا من جعله يرى أي : يبصر ، وعلق ليريه عن المفعول الثاني بالجملة التي فيها الاستفهام في موضع المفعول الثاني ، وكيف معمولة ليواري .

وليريه متعلق بيبحث .

ويجوز أن يتعلق بقوله : فبعث ، وضمير الفاعل في ليريه الظاهر أنه عائد على الله تعالى ، لأن الإراءة حقيقة هي من الله ، إذ ليس للغراب قصد الإراءة وإرادتها .

ويجوز أن يعود على الغراب أي : ليريه الغراب ، أي : ليعلمه لأنه لما كان سبب تعليمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز ، ويظهر أن الحكمة في أن كان هذا المبعوث غراباً دون غيره من الحيوان ومن الطيور كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب ، وذلك مناسب لهذه القصة .

وقيل : فبعث جملة محذوفة دل عليها المعنى تقديره : فجهل مواراته فبعث .

{ قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي } استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم ، وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والرؤية والتدبير من طائر لا يعقل .

ومعنى هذا الاستفهام : الإنكار على نفسه ، والنعي أي : لا أعجز عن كوني مثل هذا الغرب ، وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله : مثل هذا الغراب .

وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ، ثم قد ينادي ما لا يعقل على سبيل المجاز كقولهم : يا عجباً ويا حسرة ، والمراد بذلك التعجب .

كأنه قال : انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة ، فالمعنى : تنبهوا لهذه الهلكة .

وتأويله هذا أوانك فاحصري .

وقرأ الجمهور : يا ويلتا بألف بعد التاء ، وهي بدل من ياء المتكلم ، وأصله يا ويلتي بالياء ، وهي قراءة الحسن .

وأمال حمزة والكسائي وأبو عمر وألف ويلتي .

وقرأ الجمهور : أعجزت بفتح الجيم .

وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وفياض ، وطلحة ، وسليمان : بكسرها وهي لغة شاذة ، وإنما مشهور الكسر في قولهم : عجزت المرأة إذا كبرت عجيزتها .

وقرأ الجمهور : فأواريَ بنصب الياء عطفاً على قوله : أن أكون .

كأنه قال : أعجزتُ أن أواريَ سوءة أخي .

وقال الزمخشري : فأواري بالنصب على جواب الاستفهام انتهى .

وهذا خطأ فاحش ، لأن الفاء الواقعة جواباً للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء ، وهنا تقول : أتزورني فأكرمك ، والمعنى : إن تزرني أكرمك .

وقال تعالى : { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } أي إن يكن لنا شفعاء يشفعوا .

ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوارِ سوءة أخي لم يصح ، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب .

وقرأ طلحة بن مصرف ، والفياض بن غزوان : فأواريْ بسكون الياء ، فالأولى أن يكون على القطع أي : فأنا أواري سوءة أخي ، فيكون أواري مرفوعاً .

وقال الزمخشري : وقرئ بالسكون على فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى .

يعني : الزمخشري : وقرئ بالسكون على فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف انتهى .

يعني : أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفاً استثقلها على حرف العلة .

وقال ابن عطية : هي لغة لتوالي الحركات انتهى .

ولا ينبغي أن يخرج على النصب ، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفاً كما أشار إليه الزمخشري ، ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية ، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات ، لأنه لم يتوال فيه الحركات .

وهذا عند النحويين أعني النصب بحذف الفتحة ، لا يجوز إلا في الضرورة ، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على جه صحيح ، وقد وجد وهو الاستئناف أي : فأنا أواري .

وقرأ الزهري : سوة أخي بحذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى الواو .

ولا يجوز قلب الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، لأن الحركة عارضة كهي في سمول وجعل .

وقرأ أبو حفص : سوة بقلب الهمزة واواً ، وأدغم الواو فيه ، كما قالوا في شيء شي ، وفي سيئة سية .

قال الشاعر :

وإن رأوا سية طاروا بها فرحاً *** مني وما علموا من صالح دفنوا

{ فأصبح من النادمين } قيل : هذه جملة محذوفة تقديره : فوارى سوءة أخيه .

والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه ، وتبشيره أنه من أصحاب النار .

وهذا يدل على أنه كان عاصياً لا كافراً .

قيل : ولم ينفعه ندمه ، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة .

وقيل : من النادمين على حمله .

وقيل : من النادمين خوف الفضيحة .

وقال الزمخشري : من النادمين على قتله لما تعب من حمله ، وتحيره في أمر ، وتبين له من عجزه وتلمذته للغراب ، واسوداد لونه ، وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين انتهى .

وقد اختلف العلماء في قابيل ، أكان كافراً أم عاصياً ؟ وفي الحديث : « إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرها ودعوا شرها » وحكى المفسرون عجائب مما جرى بقتل هابيل من رجفان الأرض سبعة أيام ، وشرب الأرض دمه ، وإيسال الشجر ، وتغير الأطعمة ، وحموضة الفواكه ، ومرارة الماء ، واغبرار الأرض ، وهرب قابيل بأخته إقليميا إلى عدن من أرض اليمن ، وعبادته النار ، وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان ، والله أعلم بصحة ذلك .

قال الزمخشري .

وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنةلا يضحك ، وأنه رثاه بشعر .

وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون .

وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر .

وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال : من قال إنّ آدم قال شعراً فهو كذب ، ورمى ردم بما لا يليق بالنبوّة ، لأن محمداً والأنبياء عليهم السلام ، كلهم في النفي عن الشعر سواء .

قال الله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } ولكنه كان ينوح عليه ، وهو أول شهيد كان على وجه الأرض ويصف حزنه عليه نثراً من الكلام شبه المرثية ، فتناسخته القرون وحفظوا كلامه ، فلما وصل إلى يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية فنظمه فقال :

تغيرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مغبر قبيح

وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات ، وأنّ إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات .

وقول الزمخشري في الشعر : إنه ملحون ، يسير فيه إلى البيت وهو الثاني :

تغير كل ذي لون وطعم *** وقل بشاشة الوجه المليح

يرويه بشاشة الوجه المليح على الاقواء ، ويروى بنصب بشاشة من غير تنوين ، ورفع الوجه المليح .

وليس بلحن ، قد خرجوه على حذف التنوين من بشاشة ، ونصبه على التمييز ، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام .

قد جاء في كلامهم قرئ : { أحد الله الصمد } وروي ولا ذاكر الله بحذف التنوين