الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُۥ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِۚ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِيۖ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ} (31)

قوله تعالى : { لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي } : هذه اللامُ يجوز فيها وجهان ، أحدهما : انها متعلقةٌ ب " يبحث " أي : يَنْبُشُ ويُثير الترابَ للإِراءة ، الثاني : انها متعلقةٌ ب " بَعَثَ " ، و " كيف " معمولةٌ ل " يُوارِي " ، وجملةُ الاستفهامِ معلقةٌ للرؤيةِ البصريةِ ، فهي في محلِّ المفعولِ الثاني سادةٌ مسدَّه ، لأن " رأى " البصرية قبل تعدِّيها بالهمزةِ متعديةٌ لواحد فاكتسبت بالهمزةِ آخرَ ، وتقدَّم نظيرُها في قوله : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } [ البقرة : 260 ] والسَّوْءَةُ هنا المرادُ بها ما الا يَجُوز أن ينكشِفَ مِنْ جسِده ، وهي الفضيحة أيضاً قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** يالقَومي لِلسَّوْءَة السَّوْآءِ

ويجوزُ تخفيفُها بإلقاءِ حركةِ الهمزة على الواوِ وهي قراءةُ الزهري ، وحينئذ فلا يجوزُ قَلْبُ هذه الواوِ ألفاً وإنْ صَدَقَ علَيها أنها حرفُ علةٍ متحركٌ منتفحُ ما قبلَه ، لأنَّ حركتَها عارضةٌ ، ومثلُها : " جَيَلَ " " وتَوَم " مخفَّفَيْ جَيْئَل وتَوْءَم ، يجوزُ أيضاً قلْبُ هذه الهمزةِ واواً ، وإدغام ما قبلها فيها تشبيهاً للأصلي بالزائد وهي لغةٌ ، يَقُولون في " شيء " و " ضوء " : شيّ ، وضوّ ، قال :

وإنْ يَرَاوسَيَّةً طاروا بها فَرحاً *** مني وما سَمِعُوا من صالحٍ دفَنُوا

وبهذا الوجهِ قرأ أبو جعفر .

قوله : { يَاوَيْلَتَا } قلب ياءَ المتكلم ألفاً وهي لغةٌ فاشية في المنادى المضافِ إليها ، وهي إحدى اللغاتِ الست ، وقد تقدَّم ذكرها ، وقُرئ كذلك على الأصل ، وهي قراءةُ الحسن البصري . والنداء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإِقبالُ وهم العقلاءُ ، إلا أن العرب تتجَوَّز فتنادي ما لا يعقل ، والمعنى : يا ويلتي احْضُري فهذا أوانُ حضورك ، ومثله : { يحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } [ يس : 30 ]/ ، و { يحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ }

[ الزمر : 56 ] . وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية الدوري ألف " حسرتا " والجمهورُ قرأ " أعَجْزْتَ " بفتح الجميم وهي اللغة الفصحية يقال : " عَجَزت " - بالفتح في الماضي - " أعجِزُ " بكسرِها في المضارع . وقرأ الحسن والفياض وابن مسعود وطلحة بكسرها وهي لُغَيَّةٌ شاذة ، وإنما المشهور أن يقال : " عَجِزت المرأة " بالكسر ، أي كَبُرت عجيزتُها . و " أن أكون " على اسقاطِ الخافضِ أي عَنْ أكونَ ، فلمَّا حُذِف جَرَى فيه الخلافُ المشهور .

قوله : { فَأُوَارِيَ } قرأ الجمهورُ بنصب الياء ، وفيها تخريجان أصحُّهما : أنه عطفٌ على " أكونَ " المنصوبةِ " ب " أَنْ " منتظماً في سلكه أي : أعجَزْت عن كوني مشبهاً للغراب فموارياً . والثاني :- ولم يذكر الزمخشري غيره - أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام في قوله : " أعجَزْتُ يعني فيكونُ من باب قوله : { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [ الأعراف : 53 ] وهذا الذي ذكره أبو القاسم رَدَّه أبو البقاء بعد أن حكاه عن قوم ، قال : " وذَكَر بعضُهم أنه يجوزُ أن ينتصِبَ على جواب الاستفهام وليس بشيء ، إذ ليس المعنى : أيكونُ مني عجزٌ فمواراةٌ ، ألا تَرى أنَّ قولَك : " أين بيتُك فأزورَك " معناه : لو عَرَفْتُ لزرتُ ، وليس المعنى هنا لو عَجَزت لَوارَيْتَ " قلت : وهذا الردُّ على ظاهرِه صحيحٌ ، وبَسْطُ عبارةِ أبي البقاء أنَّ النحاةَ يشترطون في جوازِ نَصْبِ الفعلِ بإضمار " أنْ " بعد الأشياء الثمانية - غير النفي - أن ينحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجزاء ، فإنْ انعقدَ منه شرطٌ وجزاءٌ صَحَّ النصبُ ، وإلاَّ امتنعَ ، ومنه : " أين بيتك فأزورَك " [ أي : ] إن عَرَّفْتَني بيتك أزرُك ، وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجزاء لفسدَ المعنى ، إذ يصير التقديرُ : إنْ عَجَزْت وارَيْتَ ، وهذا ليس بصحيح ، لأنه إذا عَجَز كيف يواري .

*** وردَّ الشيخ على أبي القاسم بما تقدَّم ، وجعله غلطاً فاحِشاً ، وهو مسبوقٌ إليه كما رأيت ، فأساءَ عليه الأدبَ بشيءٍ نقله عن غيرِه ، اللَّهُ أعلمُ بصحتِه .

وقرأ الفياضُ بن غزوان وطلحة بن مصرف بسكون الياء ، وخَرَّجَها الزمخشري على أحدِ وجهين : إمَّا القطعِ ، أي : فأنا أواري ، وإمَّا على التسكين في موضعِ النصب تخفيفاً . وقال ابن عطية : " هي لُغَيَّةٌ لتوالي الحركاتِ " قال الشيخ : " ولا يَصِحُّ أَنْ تعلل القراءة بهذا ما وُجِد عنه مندوحةٌ ، إذ التسكينُ في الفتحة لا يجوزُ إلا ضرورةً ، وأيضاً فلم تتوالَ حركاتٌ " .

وقوله : { فَأَصْبَحَ } بمعنى صار ، قال ابنُ عطية : " قوله : " فأصبح " عبارةٌ عن جميعِ أوقاته أٌقيم بعضُ الزمانِ مُقامَ كله ، وخُصَّ الصباحُ بذلك لأنه بَدْءُ النهارِ والانبعاثِ إلى الأمور ومَظَنَّةُ النشاط ، ومنه قولُ الربيع :

أصبحتُ لا أحملُ السلاح ولا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقولُ سعد بن أبي وقاص : " ثم أَصْبحت بنو أسد تعذرني على الإِسلام " إلى غير ذلك " . قال الشيخ : " وهذا التعليلُ الذي ذكره لكونِ " أصبح " عبارةً عن جميعِ أوقاته وإنما خُصَّ الصباحُ لكونِه بدءَ النهار ليس بجيدٍ ، لأنَّ العربَ استعملت أضحى وبات وأمْسى بمعنى صار ، وليس شيءٌ منها بدءَ النهار " وكيف يَحْسُنُ أَنْ يرُدَّ على أبي محمد بمثل هذا ؟ وهو لم يَقُلْ إنها لَمَّا أُقيمت مُقامَ أوقاتِه للعلةِ التي ذَكَرها تكونُ بمعنى صار حتى يلزمَ بأخواتِها ما نقضه عليه .