قوله تعالى { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي [ سَوْءَةَ أَخِيهِ ]{[11534]} } .
هذه " اللامُ " يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها متعلِّقة ب " يبحث " ، أي : يَنْبُشُ ويُثِيرُ التُّراب للإراءة .
الثاني : أنها متعلِّقة ب " بَعَثَ " ، والمعنى : لِيُريَه الله ، أو ليريه الغراب ، و " كَيْفَ " معمُولة ل " يُوارِي " ، وجملة الاستفهام معلقة للرُّؤْية البَصَرية ، فهي في محلِّ المَفْعُول الثَّانِي سادةٌ مسدَّه ؛ لأن " رأى " البصرية قبل تعدِّيها بالهَمْزة مُتَعَدِّية لواحد ، فاكتسبت بالهمزة آخر ، وتقدَّم نَظِيرُها في قوله تعالى : { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } [ البقرة : 260 ] ومعنى : " يَبْحَثُ " أي : يُفَتِّش في التُّرَاب بمنقارِه ويثيره{[11535]} ، ومنه سُمِّيت سورة " بَراءَة " البحوث ؛ لأنها فَتَّشَت على المُنَافقين ، والسَّوْءَةُ المراد بها : ما لا يجُوز أن يَنْكَشِفَ من جَسَده ، وهي الفضيحة أيضاً ، قال : [ الخفيف ]
. . . *** يَا لَقَوْمِي لِلسَّوْءَة السَّوآءِ{[11536]}
ويجوز تخفيفها بإلقاء حَرَكَة الهَمْزة على الواو ، وهي قراءة{[11537]} الزُّهري ، وحينئذٍ لا يجوزُ قَلْبُ هذه الواو ألِفاً ، وإن صدق عليها أنَّها حرْف علّةٍ متحرك مُنْفَتِحٌ ما قبله ؛ لأنَّ حركتها عَارِضة ، ومثلُها " جَيَل " و " توم " مُخَفَّفَيْ " جَيْألَ " و " تَوْءَم " ، ويجوزُ أيضاً قلبُ هذه الهمزة واواً ، وإدغامُ ما قبلها فيها تَشبيهاً للأصلي بالزَّائِد [ وهي لُغة ]{[11538]} يَقُولون في " شَيْء " و " ضَوْء " : شَيّ وضوّ ، قال الشَّاعر : [ البسيط ]
وإنْ يَرَوْا سَيَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحاً *** مِنِّي ومَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا{[11539]}
وبهذا قرأ أبُو جعفر{[11540]} .
قوله تعالى : " يَا ويْلَتَا " قلب يَاء المُتَكلم ألِفاً ، وهي لغة فاشيةٌ في المُنَادى المضاف إليها ، وهي إحدى اللُّغات السِّت ، وقد تقدم ذكرُها .
وقُرِئ{[11541]} كذلك على الأصْلِ وهي قِرَاءة الحسن البَصْرِيِّ .
والنِّدَاء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإقْبَالُ وهم العقلاءُ ، إلا أنَّ العرب تتجوَّز فتُنَادِي ما لا يَعْقِلُ . وهذه كلمة تُسْتَعمل عند وُقُوعِ الدَّاهِيَة العظيمة ولفظُهَا لفظ النِّداء ، كأن الوَيْل غير حَاضِر عِنْده ، والمعنى يا وَيْلَتَى احضُري ، فهذا أوانُ حُضُورك ، ومثله : { يَحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } [ يس : 30 ] ، { يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ }
[ الزمر : 56 ] ، وأمال{[11542]} حمزة ، والكسائي ، وأبُو عمرو في رواية الدَّوْري{[11543]} ألف " حَسْرَتَا " ، والجمهور قرأ " أعَجَزْتَ " بفتح الجيم ، وهي اللُّغة الفَصِيحَة ، يقال : " عَجَزْت " بالفتح في الماضي ، " أعْجِزُ " بِكَسْرها في المُضَارع .
وقرأ الحسن ، وابن عبَّاس ، وابنُ مسعُود ، وطلحة{[11544]} بكسرها وهي لغة شاذَّة ، وإنَّما المشهور أن يُقَال : " عَجِزت المرأة " بالكَسْر أي كَبُرت عَجِيزتُهَا ، و " أن أكون " على إسْقَاط الخَافِض ، أي : عَنْ أنْ أكونَ ، فلما حُذِف جَرَى فيها الخلاف المَشْهُور .
قرأ الجمهورُ بنصب الياء ، وفيها تَخْرِيجان :
أصحهما : أنه عطف على " أكون " المنصوبة ب " أنْ " منتظماً في سِلْكِهِ ، أي : أعجَزْت عن كوني مُشْبِهاً للغُرَاب فَمُوَارياً{[11545]} .
والثاني : قاله الزمخْشَريُّ{[11546]} ، ولم يذكر غيره أنَّه منْصوب على جواب الاستفهام في قوله : " أعجَزْتُ " ، يعني : فَيَكونُ من باب قوله : { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [ الأعراف : 53 ] .
ورده أبو البقاء{[11547]} بعد أن حَكَاهُ عن قَوْمٍ ، قال : وذكر بعضهم : أنه يجُوزُ أن يَنتصب على جواب الاستفهام ؛ وليس بِشَيء ، إذ ليس المَعْنى : أيكون منِّي عجز فَمُواراة ، ألا ترى أن قولك : " أين بَيْتُكَ فأزُوركَ " معناه : لو عَرَفْتُ لزرتُ ليس المَعْنَى هنا " لو عَجَزت لوَاريت " .
قال شهاب الدين{[11548]} : وهذا الرَّدُ على ظاهره صَحِيحٌ .
وبَسْطُ عبارة أبي البَقَاء : أنَّ النُّحاة يَشْتَرِطون في جواز نَصْب الفعْلِ بإضمار " أنْ " بعد الأشياء الثمانية - غير النَّفْي - أن يَنحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجَزَاء فإن انعقد منه شَرْط وجزاء صَحَّ النَّصْبُ ، وإلاَّ امتنعَ ، ومنه " أيْن بيتُك فأزُورَك [ أي ] إن عَرّفتني بَيْتَك أزُورَك " .
وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجَزَاء لفسد المعنى ؛ إذ يصير التَّقْدِيرُ : إنْ عَجَزْت وارَيْت{[11549]} ، وهذا ليس بِصَحِيح ؛ لأنه إذا عَجز كيف يُوَارِي .
وردَّ أبو حيَّان على الزَّمخشريِّ بما تقدَّم ، وجعله غَلَطاً فاحِشاً وهو مَسْبُوقٌ إليه كما رأيت ، فأساءَ عليه الأدبَ بشيء نَقَلَهُ عن غيره الله أعلمُ بصحَّتِهِ .
وقد قرأ الفَيَّاض بن غَزْوَان ، وطلحة بن مصرف{[11550]} " بسكون الياء " ، وخرَّجها الزمخشري{[11551]} على أحد وجهين :
إمَّا القَطْع ، أي : فأنا أوَاري ، وإمَّا على التَّسْكِين في موضع النصب تخفيفاً .
وقال ابنُ عطيَّة{[11552]} : " هي لغة{[11553]} لتوالي الحركات " .
قال أبو حيَّان{[11554]} : " ولا يصلح أن تعلَّلَ القِرَاءة بهذا ما وُجِد عنه مندُوحَةٌ ؛ إذ التَّسْكينُ في الفَتْحَة لا يجُوز إلاَّ ضرورة ، وأيضاً فلم تتوالَ حركات " .
وقوله " فَأَصْبَحَ " بمعنى " صَارَ " .
قال ابن عطيَّة{[11555]} : قوله : " أصْبَح " عبارة عن جميع أوْقَاتِه قيم بَعْض الزَّمان مكان كله ، وخُصَّ الصَّباحُ بذلك [ لأنه ]{[11556]} بَدْءُ النهار ، والانبعاث إلى الأمُور ، ومَظَنَّةُ النَّشَاط ، ومنه قولُ الرَّبِيع : [ المنسرح ]
أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا *** . . . {[11557]}
وقول سعد بن أبي وقَّاص : ثم أصَبْحَت بنو [ أسد تعزرني على ]{[11558]} الإسلام إلى غير ذلك .
قال أبو حيَّان : وهذا التَّعْليل الذي ذكره ؛ لكون " أصْبَح " عبارة عن جميع أوْقاته ، وإنما خصَّ الصَّبَاح لكونه بَدْءُ النَّهَار ليس بِجَيّد ؛ لأن العرب اسْتَعْمَلَت " أضْحَى " و " بَاتَ " و " أمْسَى " بمعنى " صَار " ، وليس شيء منها بَدْء النَّهَار .
قال شهاب الدين{[11559]} : وكيف يُحْسِن أن يردَّ على أبي محمد بِمِثْل هذا ، وهُوَ لم يَقُل : إنها لمَّا أُقِيمَت مقام أوْقَاته للعلَّةِ الَّتي ذكرها تكونُ بمعنى " صَار " ، حتَّى يلزمَ بأخواتها نَاقِصة عليه ، وسيأتي الكلام على ذلك في " الحُجُرَات " عند قوله تعالى
{ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [ الآية : 6 ] - إن شاء الله تعالى - .
فإن قيل : فِعْل الغُرَابِ صار سنَّة في دفن الخَلْقِ فَرْضاً على جميع النَّاس على الكِفَاية .
فالجواب : قال بعض المُفَسِّرين : لمَّا قتله ولم يدر ما يَصْنَع به بَعَثَ اللَّه غرابين فاقْتَتَلا ، فقتل أحدُهما الآخر فحفَر له بِمِنْقَاره ورجليه ، ثمَّ ألقاه في الحُفْرَة فتعلَّم قابيل ذلك ، وعَلِمَ أن الغُرَاب أكثر عِلْماً منه{[11560]} ، وعلم أنَّه إنما أقدم على قَتْل أخيه [ بسبب ]{[11561]} جهله وقلَّة معرفته فَنَدِم وتلهف . وقال الأصمُّ{[11562]} : لما قتله وتركه فَبَعَث اللَّه غُرَاباً يحثو التَّراب على المقْتُول ، فلما رأى القَاتِل أنَّ المقتول كيف يُكرمُهُ اللَّه بعد موته نَدِم وقال : يا وَيْلَتا ، وقال أبو مُسْلم{[11563]} : عادة الغُرَاب دفن الأشْيَاء فجاء غرابٌ ودفن شيئاً ؛ فتعلَّم ذلك منه .
وقيل : إنَّه كان عالماً بكيْفِيَّة الدَّفن ، وأنه يبعد في الإنْسَان العَاقِل ألاَّ يُهْدَى إلى هذا القدر من العمل ، إلاَّ أنه لما قَتَلَهُ تركه بالعَرَاء ، فلما رَأى الغُرابَ يدفن الغُرابَ رقَّ قلبه ، وقال : إن هذا الغُراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قَتَلَهُ أخْفَاه تحت الأرْض ، أفأكون أقلَّ شَفَقَة من هذا الغُراب ؟ ! فجاء وحَثَى التُّراب على المَقْتُول ، فلما رأى أنَّ الله تعالى أكرمه حال حياته بقبول قُرْبَانه ، وأكرمه بعد مماته بأن بعث الغُراب ليدفنه تَحْتَ الأرْض ، علم أنَّه عظيم الدَّرجة عند الله تعالى ؛ فتلهَّف على فِعْله ، وعَلِمَ أن لا قدرة له على التَّقَرُّب إلى أخيه إلاَّ بأن يَدْفِنَه في الأرض فلا جرم قال : { يا وَيلتَا أعجَزْتُ أن أَكُون مثْل هذا الغُراب } . فإن قيل : لفظ النَّدَم وضع للزُوم ، ومنه سُمِّي النَّدِيم نَدِيماً لأنه يُلازِمُ المَجْلس .
فالجواب أنَّه - عليه الصلاة والسلام - قال : " النَّدم تَوْبَة " {[11564]} وأجابوا عنه بوجوه :
أحدها : أنه لما تعلَّم الدَّفن من الغُرَاب صار من [ النَّادِمين على كونه حَمَلَهُ على ظهره سنة .
وثانيها : أنه صار من النَّادمين ]{[11565]} ؛ لأنَّه لم ينتفع بقتله ، وسخطَ عليه بسببه أبواه وإخوته ، وكان نَدمُه لهذه الأسْباب لا لِكَونِهِ مَعْصِية .
وثالثها : أنَّ ندمه كان لأجْل تركه بالعَرَاء استِخْفافاً به بعد قَتْله ، لأنَّ الغُرَاب لما قتل الغُرَاب ودفنه ، نَدِم على قساوة قَلْبه ، وقال : هذا أخِي وشقيقي ومَنْ لحمه مختلط بِدَمي ، فإذا ظهرت الشَّفَقَة من الغُرَاب ولم تظهر منِّي على أخِي ، كنت دون الغراب في الرَّحْمَة والشَّفَقة والأخْلاق الحميدة ، فكان نَدَمُه لهذه{[11566]} الأسْبَاب ، لا للخوف من الله - تعالى - ، فلذلك لَمْ يَنْفَعه النَّدم .
قال المُطَّلِب بن عَبْد اللَّه بن حِنْطَب : لمَّا قتل ابن آدَم أخَاهُ ، وجفَّت الأرض سَبْعَة أيَّام بما عليها ، ثمَّ شَرِبت الأرْضُ دَمَهُ كما تشرب الماء ، فنادَاه [ آدم ]{[11567]} : أين أخُوكَ هَابِيلُ ؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رَقِيباً . فقال آدم : إن دم أخيك ليُنَادِيني من الأرْضِ . فلم قَتَلْتَ أخاكَ ؟ قال : فأيْنَ دَمُه إن كنت قتلته ؟ فحرّم اللَّه - عزَّ وجل - على الأرْض أن تَشْرَب بعده [ دماً ]{[11568]} أبداً ، وقيل لقابيل : اذْهَب طَرِيداً شريداً فزعاً مَرْعُوباً لا تأمَن من تراه ، فأخَذَ بيد أخته " إقْلِيما " وهَرَب بها إلى اليَمَن ، فأتاه إبليس فقال له : إنَّما أكَلَت النَّار قربان أخيك هَابيل ؛ لأنَّه كان يعبُد النَّار فانْصِبْ أنت أيضاً ناراً ، وهو أوَّل من عَبَد النَّار قال مُجَاهد{[11569]} : فعلقت إحدى رِجْلَيْ قَابِيل إلى فخذهَا وسَاقِهَا ، وعلقت من يَوْمئذٍ إلى يومِ القِيَامة ، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه ، في الصَّيْف حَظِيرةٌ من نار ، وفي الشِّتَاء حظيرةٌ من ثَلْج{[11570]} ، واتَّخَذَ أولاد قَابِيل آلات اللَّهْو ، وانهمكوا في اللَّهْو وشُرْبِ الخَمْر وعِبَادة النار والزِّنا والفَواحِش ، حتَّى غرقهم اللَّه بالطُّوفان أيَّام نوح - عليه السلام - وبقي نَسْلُ شِيث .