قوله تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } . هذا حث لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد والصبر على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أحد ، يقول الله تعالى : ( ولا تهنوا ) أي لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح ، وكان قد قتل يومئذ خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ، وقتل من الأنصار سبعون رجلاً ، ( ولا تحزنوا ) : أي على ما فاتكم .
قوله تعالى : { وأنتم الأعلون } . بأن يكون لكم العاقبة بالنصرة والظفر على أعدائكم .
قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } . يعني إذ كنتم أي لأنكم مؤمنين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب ، فأقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا يعلوه علينا ، اللهم لا قوة لنا إلا بك " . وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله تعالى ( وأنتم الأعلون ) . وقال الكلبي : نزلت هذه الآية بعد يوم أحد حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم بعد ما أصابهم من الجراح ، فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ، دليله قوله تعالى ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم ) .
{ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }
يقول تعالى مشجعا لعباده المؤمنين ، ومقويا لعزائمهم ومنهضا لهممهم : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } أي : ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم ، ولا تحزنوا في قلوبكم ، عندما أصابتكم المصيبة ، وابتليتم بهذه البلوى ، فإن الحزن في القلوب ، والوهن على الأبدان ، زيادة مصيبة عليكم ، وعون لعدوكم عليكم ، بل شجعوا قلوبكم وصبروها ، وادفعوا عنها الحزن وتصلبوا على قتال عدوكم ، وذكر تعالى أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن ، وهم الأعلون في الإيمان ، ورجاء نصر الله وثوابه ، فالمؤمن المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والأخروي لا ينبغي منه ذلك ، ولهذا قال [ تعالى ] : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }
وبعد هذا البيان العريض يتجه إلى المسلمين بالتقوية والتأسية والتثبيت
( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون . إن كنتم مؤمنين ) . .
لا تهنوا - من الوهن والضعف - ولا تحزنوا - لما أصابكم ولما فاتكم - وأنتم الأعلون . . عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده ، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه ! ومنهجكم أعلى . فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله ، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله ! ودوركم أعلى . فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها ، الهداة لهذه البشرية كلها ، وهم شاردون عن النهج ، ضالون عن الطريق . ومكانكم في الأرض أعلى ، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها ، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون . . فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون . وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا . فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا ، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص :
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا } : تسلية لهم عما أصابهم يوم أحد ، والمعنى لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم ولا تحزنوا على من قتل منكم . { وأنتم الأعلون } : وحالكم إنكم أعلى منهم شأنا ، فإنكم على الحق وقتالكم لله وقتلاكم في الجنة ، وإنهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار ، أو لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم ، أو وأنتم الأعلون في العاقبة فيكون بشارة لهم بالنصر والغلبة . { إن كنتم مؤمنين } : متعلق بالنهي أي لا تهنوا إن صح إيمانكم ، فإنه يقتضي قوة القلب بالوثوق على الله أو بالأعلون .
ثم نهى عز وجل المؤمنين عن الوهن لما أصابهم بأحد ، والحزن على من فقد ، وعلى مذمة الهزيمة ، وآنسهم بأنهم { الأعلون } أصحاب العاقبة ، والوهن : الضعف ، واللين والبلى ، ومنه : { وهن العظم مني } [ مريم : 4 ] ومنه قول زهير : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْها واهِناً خلقَا{[3554]}
ومن كرم الخلق ألا يهن الإنسان في حربه وخصامه ، ولا يلين إذا كان محقاً ، وأن يتقصى جميع قدرته ولا يضرع ولو مات ، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «المؤمن هين لين ، والمؤمنون هينون لينون »{[3555]} ومنه قول الشاعر{[3556]} : [ المنخل الهذلي ] : [ المتقارب ] .
لَعَمْرُكَ مَا إنْ أَبُو مالِكِ . . . بِوَاهٍ ولا بِضَعِيفٍ قواه
إذا سُدْتَه سُدْتَه مِطْواعَةً . . . وَمَهْما وَكلْتَ إلَيْهِ كَفَاه
وفي هذا الأسلوب الذي ذكرته يجري قول النابغة :
ومن عصاك فعاقبه معاقبة تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
إلاّ لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ سبق الجواد إذا استولى على الأمد{[3557]}
وفيه يجري قول العرب : إذا لم تغلب فاخلب{[3558]} ، على من تأوله من المخلب ، أي حارب ولو بالأظافر ، وهذا هو فعل عبد الله بن طارق{[3559]} وهو من أصحاب عاصم بن عدي{[3560]} حين نزع يده من القرآن{[3561]} وقاتل حتى قتل ، وفعل المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح{[3562]} في يوم بئر معونة ، ومن رآه من معنى الخلب والخلابة الذي هو الخديعة والمكر ، فهو رأي دهاة العرب ، وليس برأي جمهورها ، ومنه فعل عمر بن سعيد الأشدق{[3563]} مع عبد الملك بن مروان عند قتله إياه ، والأمثلة في ذلك كثيرة ، وأيضاً فليس المكر والخديعة بذل محض ، ولذلك رآه بعضهم ، وأما قولهم إذا عز أخوك فهن{[3564]} ، فالرواية الصحيحة المعنى فيه بكسر الهاء بمعنى : لن واضعف ضعف المطواع ، وأما الرواية بضم الهاء فهي أمر بالهوان ، وما أعرف ذلك في شيء من مقاطع العرب ، وأما الشرع فقد قال النبي عليه السلام :< لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه>{[3565]} ، ورأيت لعاصم أن المثل على ضم الهاء إنما هو من الهون الذي هو الرفق ، وليس من الهوان ، قال منذر بن سعيد : يجب بهذه الآية أن لا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة ، فإن كانوا في قطر ما على غير ذلك فينظر الإمام لهم بالأصلح ، وقوله تعالى : { وأنتم الأعلوْن } إخبار بعلو كلمة الإسلام .
هذا قول الجمهور وظاهر اللفظ ، وقاله ابن إسحاق : وروي عن ابن عباس وابن جريج : إنما قال الله لهم ذلك بسبب علوهم في الجبل ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انحاز في نفر يسير من أصحابه إلى الجبل ، فبينما هو كذلك إذ علا خالد بن الوليد عليهم الجبل فقال رسول الله عليه السلام : ( اللهم لا يعلوننا ) {[3566]} ، ثم قام وقام من معه فقاتل أصحابه وقاتل حينئذ عمر بن الخطاب حتى أزالوا المشركين عن رأس الجبل ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيه ، فأنزل الله تعالى عليه ، { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } وقوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } يحتمل أن يتعلق الشرط بقوله { ولا تهنوا ولا تحزنوا } فيكون المقصد هز النفوس وإقامتها ، ويحتمل أن يتعلق بقوله { وأنتم الأعلون } فيكون الشرط على بابه دون تجوز ، ويترتب من ذلك الطعن على من نجم نفاقه في ذلك اليوم ، وعلى من تأود{[3567]} إيمانه واضطرب يقينه ، ألا لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان ، فالزموه .
ثم قال تعالى ، تسلية للمؤمنين : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } والأسوة مسلاة للبشر ، ومنه قول الخنساء : [ الوافر ]
ولَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلي . . . عَلَى إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخي ولكنْ . . . أعزّي النَّفْسَ عَنْهُ بالتأَسِّي{[3568]}
والسلو بالتأسي هو النفع الذي يجره إلى نفسه الشاهد المحدود ، فلذلك ردت شهادته فيما حد فيه وإن تاب وحسنت حاله ، و «القرح » : القتل والجراح ، قاله مجاهد والحسن والربيع وقتادة وغيرهم ، والمعنى : إن مسكم في أحد فقد مس كفار قريش ببدر بأيديكم ، وقرا نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص : «قَرْح » بفتح القاف ، وقرأ حمزة الكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : «قُرْح » بضم القاف ، وكلهم سكن الراء ، قال أبو علي : هما لغتان كالضَّعف والضُّعف والكَره والكُره ، والفتح أولى لأنها لغة أهل الحجاز والأخذ بها أوجب لأن القرآن عليها نزل .
قال القاضي أبو محمد : هذه القراءات لا يظن إلا أنها مروية عن النبي عليه السلام : وبجميعها عارض جبريل عليه السلام مع طول السنين توسعة على هذه الأمة ، وتكملة للسبعة الأحرف حسب ما بيناه في صدر هذا التعليق ، وعلى هذا لا يقال : هذه أولى من جهة نزول القرآن بها ، وإن رجحت قراءة فبوجه غير وجه النزول ، قال أبو الحسن الأخفش : «القَرح » و «القُرح » مصدران بمعنى واحد ، ومن قال القَرح بالفتح الجراحات بأعيانها ، والقُرح بضم القاف ألم الجراحات قبل منه إذا أتى برواية ، لأن هذا مما لا يعلم بقياس ، وقال بهذا التفسير الطبري ، وقرأ الأعمش «إن تمسسكم » : بالتاء من فوق ، «قروح » بالجمع ، «فقد مس القوم قرح مثله » ، وقرأ محمد بن السميفع اليماني «قَرَح » بفتح القاف والراء ، قال أبو الفتح{[3569]} : هي لغة في القرح كالشل والشلل والطرد والطرد . هذا مذهب البصريين ، وليس هذا عندهم من تأثير حرف الحلق ، وأنا أميل في هذا إلى قول أصحابنا البغداديين ، في أن لحرف الحلق في مثل هذا أثراً معتمداً ، وقد سمعت بعض بني عقيل يقول : نحوه بفتح الحاء ، يريد نحوه ، ولو كانت الكلمة مبنية على فتح الحاء لأعلت الواو كعصاة وقناة ، وسمعت غيره يقول : أنا محموم بفتح الحاء قال ابن جني : ولا قرابة بيني وبين البصريين ولكنها بيني وبين الحق ، والحمد الله .
قوله : { ولا تهنوا ولا تحزنوا } نهي للمسلمين عن أسباب الفشل . والوهن : الضعف ، وأصله ضعف الذات : كالجسم في قوله تعالى : { ربِّ إنِّي وهَن العظم منِّي } [ مريم : 4 ] ، والحبْل في قول زهير :
وهو هنا مجاز في خور العزيمة وضعف الإرادة وانقلاب الرجاء يأساً ، والشَّجاعة جبناً ، واليقين شكّاً ، ولذلك نهوا عنه . وأمَّا الحزن فهو شدّة الأسف البالغة حدّ الكآبة والانكسار . والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة . فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد ، كما يُنهى عن النسيان ، وكما يُنهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرَيَنّ فلاناً في موضع كذا أي لا تَتْركْه يحلّ فيه ، ولذلك قدّم على هذا النَّهي قوله : { قد خلت من قبلكم سنن } [ آل عمران : 137 ] إلخ . . . وعقب بقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } .
وقوله : { وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } ، الواو للعطف وهذه بشارة لهم بالنَّصر المستقبل ، فالعلوّ هنا علوّ مجازيّ وهو علوّ المنزلة .
والتَّعليق بالشرط في قوله : { إن كنتم مؤمنين } قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علِم الله أنَّهم مؤمنون ولكنَّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة ، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم : إن علمتم من أنفسكم الإيمان ، وجيء بإن الشرطية الَّتي من شأنها عدم تحقيق شرطها ، إتماماً لِهذا المقصد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تهنوا} ولا تضعفوا عن عدوكم {ولا تحزنوا} على ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد {وأنتم الأعلون}، يعني العالين {إن كنتم مؤمنين}، يعني إن كنتم مصدقين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا من الله تعالى ذكره تعزية لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أصابهم من الجراح والقتل بأُحد، قال: ولا تهنوا ولا تحزنوا يا أصحاب محمد، يعني ولا تضعفوا بالذي نالكم من عدوّكم بأُحد من القتل والقروح، عن جهاد عدوكم وحربهم، من قول القائل: وهن فلان في هذا الأمر فهو يهن وهنا: {وَلا تَحْزَنُوا}: ولا تأسوا فتجزعوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ، فإنكم أنتم الأعلون، يعني الظاهرون عليهم، ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم، يقول: إن كنتم مؤمنين، يقول: إن كنتم مصدّقي في نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يعدكم، وفيما ينبئكم من الخبر عما يؤول إليه أمركم وأمرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله عز وجل: {ولا تهنوا} في الحرب وأنتم تعملون لله فلا تضعفون فيها، وهم يعملون للشياطين، وقوله تعالى: {ولا تحزنوا} على ما فاتكم من إخوانكم الذين قتلوا. ويحتمل ما أصابكم من القروح أي تلك القروح والجراحات لا تمنعكم عن قتال العدو ولكم الأجر والشهادة.
وقوله تعالى: {وأنتم الأعلون} قيل فيه بوجوه: قيل: {وأنتم الأعلون} المحقون بالحجج، وقيل: {وأنتم الأعلون} في النصر أي ترجع عاقبة الأمر إليكم ويحتمل أن النصر لكم إن لم تضعفوا في الحرب ولم تعصوا الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحتمل {أنتم الأعلون} لكم الشهادة إذا قتلتم، وأحياء عند الله وهم أموات. وقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} ليس على الشرط ولكن على الخبر كقوله عز وجل: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله} (البقرة 228) أي إذ كن يومن بالله، وإذ كنتم مؤمنين بالوعد والخبر...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قيل: (ولا تهنوا) لما نالكم من الهزيمة، (ولا تحزنوا) على ما فاتكم من الغنيمة (إن كنتم مؤمنين) بقضاء الله ووعده.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما قال:"إن كنتم مؤمنين" مع أنهم كانوا مؤمنين، للبيان عن أن الأيمان يوجب تلك الحال، وتقديره: إن من كان مؤمنا يجب عليه ألا يهن ولا يحزن، لثقته بالله...
وقوله: "وأنتم الاعلون "جملة في موضع الحال، كأنه قال لا تحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم، ويحتمل أن لا يكون لها موضع من الاعراب، لأنها اعتراض بوعد مؤكد، وتقديره "ولا تهنوا ولا تحزنوا" "إن كنتم مؤمنين" "وأنتم" مع ذلك "الأعلون"...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ}: وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب، لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
من كرم الخُلُق ألا يهن الإنسان في حربه وخصامه، ولا يلين إذا كان محقاً، وأن يتقصى جميع قدرته ولا يضرع ولو مات، وإنما يحسن اللين في السلم والرضى... وقوله تعالى: {وأنتم الأعلوْن} إخبار بعلو كلمة الإسلام. هذا قول الجمهور وظاهر اللفظ...
وقوله تعالى: {إن كنتم مؤمنين} يحتمل أن يتعلق الشرط بقوله {ولا تهنوا ولا تحزنوا} فيكون المقصد هز النفوس وإقامتها، ويحتمل أن يتعلق بقوله {وأنتم الأعلون} فيكون الشرط على بابه دون تجوز، ويترتب من ذلك الطعن على من نجم نفاقه في ذلك اليوم، وعلى من تأود إيمانه واضطرب يقينه، ألا لا يتحصل الوعد إلا بالإيمان، فالزموه...
اعلم أن الذي قدمه من قوله: {قد خلت من قبلكم سنن} وقوله: {هذا بيان للناس} [آل عمران: 138] كالمقدمة لقوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور، وصارت دولة أهل الحق عالية، وصولة أهل الباطل مندرسة، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سببا لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم، بل يجب أن يقوى قلبكم فان الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة إليكم... وقوله: {وأنتم الأعلون}... وأنتم الأعلون من حيث إنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله، لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين إلى ما يفيدهم قوة في القلب، وفرحا في النفس، فبشرهم الله تعالى بذلك...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة؛ لأنه خاطبهم بما خاطب به أنبياءه؛ لأنه قال لموسى:"إنك أنت الأعلى" [طه: 68] وقال لهذه الأمة: "وأنتم الأعلون". وهذه اللفظة مشتقة من اسمه الأعلى فهو سبحانه العلي، وقال للمؤمنين:"وأنتم الأعلون".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمرهم بالمسارعة وأتبعها علتها ونتيجتها نهاهم عما يعوق عنها من قبل الوهن الذي عرض لهم عند رؤيتهم الموت فقال -ويجوز أن يعطف على ما تقديره: فتبينوا واهتدوا واتعظوا إن كنتم متقين، وانظروا أخذنا لمن كان قبلكم من أهل الباطل وإن كان لهم دول وصولات ومكر وحيل -: {ولا تهنوا} أي في جهاد أعدائكم الذين هم أعداء الله، فالله معكم عليهم، وإن ظهروا يوم أحد نوع ظهور فسترون إلى من يؤول الأمر، {ولا تحزنوا}: أي على ما أصابكم منهم ولا على غيره مما عساه ينوبكم {و} الحال أنكم {أنتم الأعلون}: أي في الدارين {إن كنتم مؤمنين}: أي إن كان الإيمان- وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله -لكم صفة راسخة، فإنهم لا يهنون؛ لأنكم بين إحدى الحسنيين- كما لم يهن من سيقص عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنبياء قبلكم لعلوكم عدوكم، أما في الدنيا فلأن دينكم حق ودينهم باطل، ومولاكم العزيز الحكيم الذي قد وعدكم الحق الملكَ الكبير لمن قتل، والنصر و التوزر لمن بقي، وهو حي قيوم، ولا يخفى عليه شيء من أحوالكم، فهو ناصركم وخاذلكم، وأما في الآخرة فلأنكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وهم في النار عند ملائكة العذاب الغلاظ الشداد أبداً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أي لا تضعفوا عن القتال وما يلزمه من التدبير بما أصابكم من الجرح والفشل في أحد، ولا تحزنوا على من قتل منكم في ذلك اليوم. ويصح أن يكون هذا النهي إنشاء بمعنى الخبر، أي إن ما أصابكم من القرح في أحد ليس مما ينبغي أن يكون موهنا لأمركم ومضعفا لكم في عملكم ولا موجبا لحزنكم وانكسار قلوبكم، فإنه لم يكن نصرا تاما للمشركين عليكم وإنما هو تربية لكم على ما وقع منكم من مخالفة قائدكم صلى الله عليه وسلم في تدبيره الحربي المحكم وفشلكم وتنازعكم في الأمر، وذلك خروج عن سنة الله في أسباب الظفر، وبهذه التربية تكونوا أحقاء بأن لا تعودوا إلى مثل تلك الذنوب فتكون التربية خيرا لكم من عدمها، بل يجب أن تزيدكم المصائب قوة وثباتا بما تربيكم على اتباع سنن الله في الحزم والبصيرة وإحكام العزيمة واستيفاء الأسباب في القتال وغيره، وأن تعلموا أن الذين قتلوا منكم شهداء، وذلك ما كنتم تتمنونه كما سيأتي، فتذكرُه مما يذهب بالحزن من نفس المؤمن. (وهاتان العلتان قد ذكرتا في الآية التي بعد هذه) وكيف تهنون وتحزنون وأنتم الأعلون بمقتضى سنن الله تعالى في جعل العاقبة للمتقين، الذين يتقون الحيدان عن سننه، وفي نصر من ينصره ويتبع سننه بإحقاق الحق وإقامة العدل، والمؤمنون أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو الطمع فيما في أيدي الناس، فهمة الكافرين تكون على قدر ما يرمون إليه من الغرض الخسيس. وما يطلبونه من العرض القريب، فهي لا تكون كهمة المؤمن الذي غرضه إقامة الحق والعدل في الدنيا، والسعادة الباقية في الآخرة. أي إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسننه في نظام الاجتماع بحيث صار هذا الإيمان وصفا ثابتا لكم حاكما في ضمائركم وأعمالكم، فأنتم الأعلون وإن أصابكم ما أصابكم. وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن ما أصابكم يعدكم للتقوى، فتستحقون تلك العاقبة وهي علو السيادة عليهم وقيل "إن كنتم مؤمنين "متعلق بالنهي، وجملة "وأنتم الأعلون" حال معترضة، أي فلا تضعفوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين لأن من مقتضى الإيمان الصبر والثبات والرغبة في إحدى الحسنيين- الظفر أو الشهادة- على أن مجموع الأمة موعود بالحسنيين جميعا. وإنما يطلب إحداهما الأفراد. وقال الأستاذ الإمام ما معناه: إن الحزن إنما يكون على ما فات الإنسان وخسره مما يحبه، وسببه أنه يشعر أنه قد فاته بفوته شيء من،، وفقد بفقده شيئا من عزيمته أو أعضائه. ذلك بأن صلة الإنسان بمحبوباته من المال والمتاع والناس كالأصدقاء وذي القربى تكسبه قوة وتعطيه غبطة وسرورا فإذا هو فقد شيئا منها بلا عوض فإنه يعرض لنفسه ألم الحزن الذي يشبه الظلمة ويسمونه كدرا، كأن النفس كانت صافية رائقة فجاء ذلك الانفعال فكدرها بما أزال من صفوها. وقد يقال هنا: لماذا نهاهم عن الوهن بما عرض لهم والحزن على ما فقدوا في "أحد"، وكل من الوهن والحزن كان قد وقع وهو أمر طبيعي في مثل الحال التي كانوا عليها؟ والجواب: أن المراد بالنهي ما يمكن أن يتعلق به الكسب من معالجة وجدان النفس بالعمل ولو تكلفا، كأنه يقول: انظروا في سنن من قبلكم تجدوا أنه ما اجتمع قوم على حق واحكموا أمرهم وأخذوا أهبهم وأعدوا لكل أمر عدته، ولم يظلموا أنفسهم في العمل لنصرته، إلا وظفروا بما طلبوا، وعوضوا مما خسروا، فحولوا وجوههم عن جهة ما خسرتم، وولوها جهة ما يستقبلكم، وانهضوا به بالعزيمة والحزم، مع التوكل على الله عز وجل، والحزن إنما يكون على فقد ما لا عوض منه. وإن لكم خير عوض مما فقدتم، وأنتم الأعلون برجحانكم عليهم في مجموع الوقعتين – بدر وأحد –...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لا تهنوا -من الوهن والضعف- ولا تحزنوا -لما أصابكم ولما فاتكم- وأنتم الأعلون.. عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى. فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى. فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق. ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون.. فإن كنتم مؤمنين حقا فأنتم الأعلون. وإن كنتم مؤمنين حقا فلا تهنوا ولا تحزنوا. فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} نهي للمسلمين عن أسباب الفشل... والوهنُ والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتّب عليهما الاستسلام وترك المقاومة. فالنهي عن الوهن والحزن في الحقيقة نهي عن سببهما وهو الاعتقاد، كما يُنهى عن النسيان، وكما يُنهى أحد عن فعل غيره في نحو لا أرَيَنّ فلاناً في موضع كذا أي لا تَتْركْه يحلّ فيه، ولذلك قدّم على هذا النَّهي قوله: {قد خلت من قبلكم سنن} [آل عمران: 137] إلخ... وعقب بقوله: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}... والتَّعليق بالشرط في قوله: {إن كنتم مؤمنين} قصد به تهييج غيرتهم على الإيمان إذ قد علِم الله أنَّهم مؤمنون ولكنَّهم لمّا لاح عليهم الوهن والحزن من الغلبة، كانوا بمنزلة من ضعف يقينه فقيل لهم: إن علمتم من أنفسكم الإيمان، وجيء ب"إن" الشرطية الَّتي من شأنها عدم تحقيق شرطها، إتماماً لِهذا المقصد.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 137]
ومن هنا ينتقل كتاب الله إلى الحديث بالخصوص عن يوم أحد، وما جلبت فيه بعض المواقف من متاعب للمسلمين، خصوصا ما وقع فيه من أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين بالأخص أسباب الهزيمة في هذا اليوم، كما يبين قبل ذلك أسباب النصر في غزوة بدر. ويبتدئ الحديث في هذا الموضوع الخطير بتقرير مبدأ أساسي لا يختلف، هو أن لله سننا ثابتة في المجتمع تسير الحياة على مقتضاها مهما اختلفت القرون والأجيال. وفي طليعة هذه السنن والقوانين الثابتة سنن النصر وسنن الهزيمة، أي مختلف العوامل والأسباب التي تؤدي إلى كل منهما، ثم تقرير مبدأ آخر هو أن النصر غير مضمون ولا محتوم في كل معركة، كما أن الهزيمة غير لازمة ولا منتظرة في كل مناسبة، بل إن معركة الحياة سلسلة من الانتصارات والهزائم، والعاقبة والغلبة في النهاية إنما هي لأهل الحق...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون]، لأنَّ الوهن والحزن يعبّران عن انسحاقٍ داخلي أمام الهزيمة، في انطواءٍ روحيّ يسقط معه الشعور بالكرامة والإحساس بالعزّة. إنَّ اللّه يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة، فهو الأعلى بالمقياس الحقيقي للأشياء، لأنَّ ارتباطه باللّه يُشعره بالقوّة العليا، وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي له بالفكرة العليا، وتحرّكه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة... وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوّةٍ يدفعه إلى الاستعلاء على كلّ عوامل الضعف والخوف والحزن، ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الروحي بالألم والتضحية في طريق الجهاد. ولعلّ من الواضح أنَّ الآية الكريمة لا تريد أن توحي للمؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذات على الآخرين لتصبّ في مجرى الأنانية الذاتية، بل كلّ ما تريده في ما نستوحيه منها هو الاستعلاء الروحي والرسالي على قوى الكفر والظلم والطغيان، وذلك من خلال ما تُعطيه كلمة [إن كنتم مؤمنين] من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في الآية الأُولى من هذه الآيات حذر المسلمون من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، قال سبحانه: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).
أجل، لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الانتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم أو مخططاتهم، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص والوهن المذكور في الآية، هو كما في اللغة كلّ ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.
على أن عبارة (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) عبارة غنية بالمعاني حرية بالنظر والتأمل. إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية..