المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

108- لا تسبوا - أيها المؤمنون - أصنام المشركين التي يعبدونها من دون الله ، فيحملهم الغضب لها على إغاظتكم بسب الله تعدياً وسفهاً . مثل ما زينا لهؤلاء حب أصنامهم يكون لكل أمة عملها حسب استعدادها ، ثم يكون مصير الجميع إلى الله - وحده - يوم القيامة ، فيخبرهم بأعمالهم ويجازيهم عليها .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

قوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } الآية ، قال ابن عباس : لما نزلت { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء :98 ] قال المشركون : يا محمد ، لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم . وقال قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك ، لئلا يسبوا الله فإنهم قوم جهلة . وقال السدي : لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعه عمه ، فلما مات قتلوه ، فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن أبي البختري إلى أبي طالب ، فقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمداً قد آذانا وآلهتنا ، فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندعنه وإلهه ، فدعاه فقال : يا محمد هؤلاء قومك يقولون نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك ، وقد أنصفك قومك فاقبل منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم ؟ فقال أبو جهل : نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها ، فما هي ؟ قال : ( قولوا لا إله إلا الله ، فأبوا وتفرقوا ) ، فقال أبو طالب : قل غيرها يابن أخي . فقال : يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ، فقالوا له : لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك ، فأنزل الله عز وجل : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } ، يعني الأوثان .

قوله تعالى : { فيسبوا الله عدواً } ، أي : اعتداء وظلماً .

قوله تعالى : { بغير علم } . وقرأ يعقوب { عدواً } بضم العين والدال وتشديد الواو ، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( لا تسبوا ربكم ، فأمسك المسلمون عن سب آلهتهم ) .

وظاهر الآية ، وإن كان نهياً عن سب الأصنام ، فحقيقته النهي عن سب الله تعالى ، لأنه سبب لذلك .

قوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة عملهم } ، أي : كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام ، وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان ، كذلك زينا لكل أمة عملهم من الخير والشر ، والطاعة والمعصية .

قوله تعالى : { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم } ، ويجازيهم .

قوله تعالى : { بما كانوا يعملون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

{ 108 } { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

ينهى الله المؤمنين عن أمر كان جائزا ، بل مشروعا في الأصل ، وهو سب آلهة المشركين ، التي اتخذت أوثانا وآلهة مع الله ، التي يتقرب إلى الله بإهانتها وسبها .

ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين ، الذي يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب ، وآفة ، وسب ، وقدح -نهى الله عن سب آلهة المشركين ، لأنهم يحمون لدينهم ، ويتعصبون له . لأن كل أمة ، زين الله لهم عملهم ، فرأوه حسنا ، وذبوا عنه ، ودافعوا بكل طريق ، حتى إنهم ، ليسبون الله رب العالمين ، الذي رسخت عظمته في قلوب الأبرار والفجار ، إذا سب المسلمون آلهتهم .

ولكن الخلق كلهم ، مرجعهم ومآلهم ، إلى الله يوم القيامة ، يعرضون عليه ، وتعرض أعمالهم ، فينبئهم بما كانوا يعملون ، من خير وشر .

وفي هذه الآية الكريمة ، دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر بالأمور التي توصل إليها ، وأن وسائل المحرم ، ولو كانت جائزة تكون محرمة ، إذا كانت تفضي إلى الشر .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

95

ومع أمر الرسول [ ص ] بالإعراض عن المشركين ، فقد وجه المؤمنين إلى أن يكون هذا الإعراض في أدب ، وفي وقار ، وفي ترفع ، يليق بالمؤمنين . . لقد أمروا ألا يسبوا آلهة المشركين مخافة أن يحمل هذا أولئك المشركين على سب الله سبحانه - وهم لا يعلمون جلال قدره وعظيم مقامه - فيكون سب المؤمنين لآلهتهم المهينة الحقيرة ذريعة لسب الله الجليل العظيم :

( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم . كذلك زينا لكل أمة عملهم . ثم إلى ربهم مرجعهم ، فينبئهم بما كانوا يعملون ) .

إن الطبيعة التي خلق الله الناس بها ، أن كل من عمل عملا ، فإنه يستحسنه ، ويدافع عنه ! فإن كان يعمل الصالحات استحسنها ودافع عنها . وإن كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها . وإن كان على الهدى رآه حسنا ، وإن كان على الضلال رآه حسنا كذلك ! فهذه طبيعة في الإنسان . . وهؤلاء يدعون من دون الله شركاء . . مع علمهم وتسليمهم بأن الله هو الخالق الرازق . . ولكن إذا سب المسلمون آلهتهم هؤلاء اندفعوا وعدوا عما يعتقدونه من ألوهية الله ، دفاعا عما زين لهم من عبادتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وتقاليدهم ! . .

فليدعهم المؤمنون لما هم فيه :

( ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) . .

وهو أدب يليق بالمؤمن ، المطمئن لدينه ، الواثق من الحق الذي هو عليه . الهادىء القلب ، الذي لا يدخل فيما لا طائل وراءه من الأمور . فإن سب آلهتهم لا يؤدي بهم إلى الهدى ولا يزيدهم إلا عنادا . فما للمؤمنين وهذا الذي لا جدوى وراءه . وإنما قد يجرهم إلى سماع ما يكرهون . من سب المشركين لربهم الجليل العظيم ؟ !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح . { فيسبوا الله عدوا } تجاوزا عن الحق إلى الباطل . { بغير علم } على جهالة بالله سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به . وقرأ يعقوب { عدوا } يقال عدا فلان عدوا وعدوا وعداء وعدوانا . روي : أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك ، فنزلت . وقيل كان المسملون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سبا لسب الله سبحانه وتعالى ، وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر . { كذلك زينا لكل أمة عملهم } من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا وتخذيلا ، ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم ، والمشبه به تزيين سب الله لهم . { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون } بالمحاسبة والمجازاة عليهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

وقوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } الآية ، مخاطبة للمؤمنين والنبي عليه السلام ، وقال ابن عباس وسببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب : إما أن ينتهي محمد وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما نسب إلهه ونهجوه فنزلت الآية ، وحكمها على كل حال باق في الأمة ، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل فلا يحل للمسلم أن يسب دينهم ولا صلبانهم ولا يتعرض ما يؤدي إلى ذلك أو نحوه{[5048]} ، وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل ب { الذين } وذلك على معتقد الكفرة فيها ، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة .

وقرأ جمهور الناس «عَدْواً » بفتح العين وسكون الدال نصب على المصدر ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة ويعقوب وسلام وعبد الله بن زيد «عُدُوّاً » بضم العين والدال وتشديد الواو ، وهذا أيضاً نصب على المصدر وهو من الاعتداء ، وقرأ بعض الكوفيين «عَدُواً » بفتح العين وضم الدال نصب على الحال أي في حال عداوة لله ، وهو لفظ مفرد يدل على الجمع{[5049]} ، وقوله { بغير علم } بيان لمعنى الاعتداء المتقدم ، وقوله تعالى : { كذلك زينا لكل أمة } إشارة إلى ما زين الله لهؤلاء عبدة الأصنام من التمسك بأصنامهم والذب عنها وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير والشر والاتباع لطرقه ، وتزيين الشيطان هو بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء ، وقوله { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم } يتضمن وعداً جميلاً للمحسنين ووعيداً ثقيلاً للمسيئين .


[5048]:- العلماء: لأن ذلك بمنزلة البعث على المعصية والتوجيه إلى فعلها.
[5049]:- ومثله في ذلك قوله تعالى: [وهم العدو]، وقوله سبحانه: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٖۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (108)

عطف على قوله : { وأعرض عن المشركين } [ الأنعام : 106 ] يزيد معنى الإعراض المأمور به بياناً ، ويحقّق ما قلناه أن ليس المقصود من الإعراض ترك الدّعوة بل المقصود الإغضاء عن سبابهم وبذيء أقوالهم مع الدّوام على متابعة الدّعوة بالقرآن ، فإنّ النّهي عن سبّ أصنامهم يؤذن بالاسترسال على دعوتهم وإبطال معتقداتهم مع تجنّب المسلمين سبّ ما يدعونهم من دون الله .

والسبّ : كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرّة ، بالباطل أو بالحقّ ، وهو مرادف الشّتم . وليس من السبّ النسبةُ إلى خطإ في الرّأي أو العملِ ، ولا النّسبة إلى ضلال في الدّين إن كان صدر من مخالف في الدّين .

والمخاطب بهذا النّهي المسلمون لا الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّ الرّسول لم يكن فحّاشاً ولا سبّاباً لأنّ خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك ، ولأنّه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الّذي ينزله ، وإنّما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربّما تجاوزوا الحدّ ففرطت منهم فرطات سبّوا فيها أصنام المشركين .

روى الطّبري عن قتادة قال « كان المسلمون يسبّون أوثان الكفّار فيردّون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستَسبّوا لربّهم » . وهذا أصحّ ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفَقُه بنظم الآية . وأمّا ما روى الطّبري عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى : { إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم } [ الأنبياء : 98 ] قال المشركون : لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا وشتمها لنهجُوَنّ إلهك ، فنزلت هذه الآية في ذلك ، فهو ضعيف لأنّ عليّ بن أبي طلحة ضعيف وله منكرات ولم يلق ابن عبّاس . ومن البعيد أن يكون ذلك المراد من النّهي في هذه الآية ، لأنّ ذلك واقع في القرآن فلا يناسب أن ينهى عنه بلفظ { ولا تسُبّوا } وكان أن يقال : ولا تجهروا بسبّ الّذين يَدْعون من دون الله مثلاً . كما قال في الآية الأخرى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } [ الإسراء : 110 ] . وكذا ما رواه عن السديّ أنّه لمّا قربت وفاة أبي طالب قالت قريش : ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابنَ أخيه عنّا فإنّا نستحيي أن نقتله بعد موته ، فانطلق نفر من سادتهم إلى أبي طالب وقالوا : أنت سيّدنا ، وخاطبوه بما راموا ، فدعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له : هؤلاء قومك وبنو عمّك يريدون أن تدَعهم وآلهتَهم ويدَعوك وإلَهَك ، وقالوا : لتكُفّن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنّك ولنشتمنّ من يأمُرك . ولم يقل السدّي أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية ولكنّه جعله تفسيراً للآية ، ويرد عليه ما أوردناه على ما روي عن عليّ بن أبي طلحة .

قال الفخر : ههنا إشكالان هما : أنّ النّاس اتَّفقوا على أنّ سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة فكيف يصحّ أن يقال : إنّ سبب نزول هذه الآية كذا ، وأنّ الكفّار كانوا مقرّين بالله تعالى وكانوا يقولون : عبدنا الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله فكيف يعقل إقدامُ الكفّار على شتم الله تعالى اهـ .

وأقول : يدفع الإشكال الأوّل أنّ سبب النّزول ليس يلزم أن يكون مقارناً للنّزول فإنّ السّبب قد يتقدّم زمانه ثمّ يشار إليه في الآية النّازلة فتكون الآية جواباً عن أقوالهم . وقد أجاب الفخر بمثل هذا عند قوله تعالى : { ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة } [ الأنعام : 111 ] الآية . ويدفع الإشكال الثّاني أنّ المشركين قالوا لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا لنهجونّ إلهك ، ومعناه أنّهم ينكرون أنّ الله هو إلهه ولذلك أنكروا الرّحمان { وإذا قيل لهم اسجدوا للرّحمان قالوا وما الرّحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } [ الفرقان : 60 ] . فهم ينكرون أنّ الله أمره بذمّ آلهتهم لأنّهم يزعمون أنّ آلهتهم مقرّبون عند الله ، وإنّما يزعمون أنّ شيطاناً يأمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بسبّ الأصنام ، ألا ترى إلى قول امرأة منهم لمّا فتَر الوحي في ابتداء البعثة : ما أرى شيطانه إلاّ ودّعه ، وكان ذلك سبب نزول سورة الضّحى .

وجواب الفخر عنه بأنّ بعضهم كان لا يثبت وجود الله وهم الدهريون ، أو أنّ المراد أنّهم يشتمون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام فأجرى الله شتم الرّسول مجرى شتم الله كما في قوله تعالى : { إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] اهـ . فإنّ في هذا التّأويل بُعداً لا داعي إليه .

والوجه في تفسير الآية أنّه ليس المراد بالسبّ المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم ممّا يدلّ على انتفاء إلهيتها ، كقوله تعالى : { أولئك كالأنعام بل هم أضلّ } في سورة الأعراف ( 179 ) . وأمّا ما عداه من نحو قوله تعالى : { ألهم أرجل يمشون بها } [ الأعراف : 195 ] فليس من الشّتم ولا من السبّ لأنّ ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصدّياً للشّتم ، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذمّ والتّعبير لآلهة المشركين ، كما روي في « السيرة » أنّ عُروة بن مسعود الثّقفي جاء رسولاً من أهل مكّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الحديبيّة فكان من جملة ما قاله : " وأيم الله لكأنّي بهؤلاء ( يعني المسلمين ) قد انكشفوا عنك " ، وكان أبو بكر الصدّيق حاضراً ، فقال له أبو بكر « امصُصْ بَظْر اللاّت » إلى آخر الخبر .

ووجه النّهي عن سبّ أصنامهم هو أنّ السبّ لا تترتَّب عليه مصلحة دينيّة لأنّ المقصود من الدّعوة هو الاستدلال على إبطال الشّرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى ، فذلك هو الّذي يتميّز به الحقّ عن الباطل ، وينهض به المحقُّ ولا يستطيعه المبطل ، فأمّا السبّ فإنّه مقدور للمحقّ وللمبطل فيظهر بمظهر التّساوي بينهما .

وربّما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحقّ ، فيلوح للنّاس أنّه تغلّب على المحقّ . على أنّ سبّ آلهتهم لمّا كان يُحمي غيظهم ويزيد تصلّبهم قد عادَ مُنافياً لمراد الله من الدّعوة ، فقد قال لرسوله عليه الصّلاة والسّلام " وجادلهم بالّتي هي أحسن " ، وقال لموسى وهارون عليهما السّلام « فقولا له قولاً ليّناً » ، فصار السبّ عائقاً من المقصود من البعثة ، فتمحّض هذا السبّ للمفسدة ولم يكن مشوباً بمصلحة . وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة لأنّ تغيير المنكر مصلحة بالذّات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعَرض . وذلك مَجال تتردّد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوّة وضعفاً ، وتحقّقاً واحتمالاً . وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلّها .

وحكم هذه الآية محكم غير منسوخ . قال القرطبي : قال العلماء : حكمها باق في هذه الأمّة على كلّ حال ، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أنّه إنْ سبّ المسلمون أصنامه أو أمور شريعَته أن يَسُبّ هو الإسلام أو النّبيء عليه الصّلاة والسّلام أو اللّهَ عزّ وجلّ لم يحلّ للمسلم أن يسبّ صُلبانهم ولا كنائسهم لأنّه بمنزلة البعث على المعصيّة اهـ ، أي على زيادة الكفر . وليس من السبّ إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة ولكنّ السبّ أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك ، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذّمة من سبّ الله تعالى أو سبّ النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّهم إن صدر منهم ما هو من أصول كفرهم فلا يعدّ سَبّاً وإن تجاوزوا ذلك عدّ سبّاً ، ويعبّر عنها الفقهاء بقولهم : « مَا به كَفر وغير ما به كفر » .

وقد احتجّ علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكيّة ، وهو الملقّب بمسألة سَدّ الذّرائع . قال ابن العربي : « منع الله في كتابه أحداً أن يفعل فعلاً جائزاً يؤدّي إلى محظور ولأجل هذا تعلّق علماؤنا بهذه الآية في سدّ الذّرائع وهو كلّ عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور » . وقال في تفسير سورة الأعراف ( 163 ) عند قوله تعالى : { واسْألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذْ يعدون في السّبت } قال علماؤنا : هذه الآية أصل من أصول إثبات الذّرائع الّتي انفرد بها مالك رضي الله عنه وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشّافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما مع تبحّرهما في الشّريعة ، وهو كلّ عمل ظاهر الجواز يتوصّل به إلى محظور اهـ . وفَسَّر المازري في باب بيوع الآجال من شرحه سَدّ الذّريعة بأنّه منع ما يجوز لئلاّ يتَطرّق به إلى ما لا يجوز اه . والمراد : سدّ ذرائع الفساد ، كما أفصح عنه القرافي في « تنقيح الفصول » وفي « الفرق الثّامن والخمسين » فقال : الذّريعة : الوسيلة إلى الشّيء .

ومعنى سدّ الذّرائع حسم مادّة وسائل الفساد .

وأجمعت الأمّة على أنّ الذّرائع ثلاثة أقسام : أحدها : معتبر إجماعاً كحفر الآبار في طرق المسلمين وإلقاءِ السمّ في أطعمتهم وسبّ الأصنام عند من يُعلم من حاله أنّه يسبّ الله تعالى حينئذٍ . وثانيها : مُلغًى إجماعاً كزراعة العنب فإنّها لا تمنع لخشيَة الخمر ، وكالشركة في سكنى الدّور خشية الزّنا . وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال ، فاعتبر مالك رضي الله عنه الذّريعة فيها وخالفه غيره اهـ . وعَنَى بالمخالف الشّافعي وأبا حنيفة رضي الله عنهما .

وهذه القاعدة تندرج تحت قاعدة الوسائل والمقاصد ، فهذه القاعدة شعبة من قاعدة إعطاء الوسيلة حكم المقصد خاصّة بوسائل حصول المفسدة . ولا يختلف الفقهاء في اعتبار معنى سدّ الذّرائع في القسم الّذي حكى القرافي الإجماع على اعتبار سدّ الذّريعة فيه . وليس لهذه القاعدة عنوان في أصول الحنفيّة والشّافعيّة ، ولا تعرّضوا لها بإثبات ولا نفي ، ولم يذكرها الغزالي في « المستصفى » في عداد الأصول الموهومة في خاتمة القطب الثّاني في أدلّة الأحكام .

و { عَدْواً } بفتح العين وسكون الدّال وتخفيف الواو في قراءة الجمهور ، وهو مصدر بمعنى العدوان والظلم ، وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة ل« يسبّوا » لأنّ العدو هنا صفة للسبّ ، فصحّ أن يحلّ محلّه في المفعوليّة المطلقة بياناً لنوعه . وقرأ يعقوب { عُدُوّاً } بضمّ العين والدّال وتشديد الواو وهو مصدر كالعَدْو .

ووصفُ سبِّهم بأنّه عَدْو تعريض بأنّ سبّ المسلمين أصنامَ المشركين ليس من الاعتداء ، وجعل ذلك السبّ عدواً سواء كان مراداً به الله أم كان مراداً به من يأمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بما جاء به لأنّ الّذي أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بما جاء به هو في نفس الأمر اللّهُ تعالى فصادفوا الاعتداء على جلاله .

وقوله : { بغير علم } حال من ضمير { يسبّوا } ، أي عن جهالة ، فهم لجهلهم بالله لا يزعهم وازع عن سبّه ، ويسبّونه غير عالمين بأنّهم يسبّون الله لأنّهم يسبّون مَن أمر محمّداً صلى الله عليه وسلم بما جاء به فيصادف سبّهم سبّ الله تعالى لأنّه الّذي أمره بما جاء به .

ويجوز أن يكون { بغير علم } صفة ل { عَدْواً } كاشفة ، لأنّ ذلك العدو لا يكون إلاّ عن غير علم بعظم الجرم الّذي اقترفوه ، أو عن علم بذلك لكن حالة إقدامهم عليه تشبه حالة عدم العلم بوخامة عاقبته .

وقوله : { كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عمَلهم } معناه كتزييننا لهؤلاء سُوءِ عملهم زَيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم ، فالمشار إليه هو ما حكاه الله عنهم بقوله : { وجعلوا لله شركاء الجنّ } إلى قوله { فيسبّوا الله عدواً بغير علم } [ الأنعام : 100 108 ] . فإنّ اجتراءهم على هذه الجرائم وعماهم عن النّظر في سوء عواقبها نشأ عن تزيينها في نفوسهم وحسبانهم أنّها طرائق نفع لهم ونجاة وفوز في الدّنيا بعناية أصنامهم .

فعلى هذه السنّة وبمماثل هذا التّزيين زيّن الله أعمال الأمم الخالية مع الرّسل الّذين بُعثوا فيهم فكانوا يُشاكسونهم ويعصون نصحهم ويجترئون على ربّهم الّذي بعثهم إليهم ، فلمّا شبّه بالمشار إليه تزيينا عَلِم السّامع أنّ ما وقعت إليه الإشارة هو من قبيل التّزيين . وقد جرى اسم الإشارة هنا على غير الطّريقة الّتي في قوله : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطا } [ البقرة : 143 ] ونظائره ، لأنّ ما بعده يتعلّق بأحوال غير المتحدّث عنهم بل بأحوال أعمّ من أحوالهم . وفي هذا الكلام تعريض بالتوعّد بأن سيحلّ بمشركي العرب من العذاب مثلُ ما حلّ بأولئك في الدّنيا .

وحقيقة تزيين الله لهم ذلك أنّه خلَقهم بعقول يَحْسُن لديها مثلُ ذلك الفعل ، على نحو ما تقدّم في قوله تعالى : { ولو شاء الله ما أشركوا } [ الأنعام : 108 ] . وذلك هو القانون في نظائره .

والتّزيين تفعيل من الزّيْن ، وهو الحُسن ؛ أو من الزّينة ، وهي ما يتحسّن به الشّيء . فالتّزيين جعل الشّيء ذا زينة أو إظهاره زيْناً أو نسبته إلى الزّين . وهو هنا بمعنى إظهاره في صورة الزّين وإن لم يكن كذلك ، فالتّفعيل فيه للنّسبة مثل التّفسيق . وفي قوله : { ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وَزَيَّنه في قلوبكم } [ الحجرات : 7 ] بمعنى جعله زيناً ، فالتّفعيل للجعل لأنّه حَسَن في ذاته .

ولما في قوله : { كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عملهم } من التّعريض بالوعيد بعذاب الأمم عقّب الكلام ب { ثُمّ } المفيدة التّرتيب الرتبي في قوله : { ثمّ إلى ربّهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون } ، لأنّ ما تضمّنته الجملة المعطوفة ب { ثُمّ } أعظم ممّا تضمّنته المعطوفُ عليها ، لأنّ الوعيد الّذي عُطفت جملته ب { ثمّ } أشدّ وأنكى فإنّ عذاب الدّنيا زائل غير مؤيّد . والمعنى أعظم من ذلك أنّهم إلى الله مرجعهم فيحاسبهم . والعدول عن اسم الجلالة إلى لفظ { ربّهم } لقصد تهويل الوعيد وتعليل استحقاقه بأنّهم يرجعون إلى مالكهم الذي خلقهم فكفروا نعمه وأشركوا به فكانوا كالعبيد الآبقين يطوِّفون ما يطوفوّن ثمّ يقعون في يد مالكهم .

والإنباء : الإعلام ، وهو توقيفهم على سوء أعمالهم . وقد استعمل هنا في لازم معناه ، وهو التّوبيخ والعقاب ، لأنّ العقاب هو العاقبة المقصودة من إعلام المجرم بجرمه . والفاء للتّفريع عن المَرْجِع مؤذنة بسرعة العقاب إثر الرّجوع إليه .