قوله تعالى : { قال } له ابنه { سآوي } ، سأصير وألتجئ ، { إلى جبل يعصمني من الماء } ، يمنعني من الغرق ، { قال } له نوح { لا عاصم اليوم من أمر الله } ، من عذاب الله ، { إلا من رحم } ، قيل : معصوم إلا من رحمه الله ، كقوله : { في عيشة راضية } [ الحاقة-21 ] أي : مرضية ، { وحال بينهما الموج فكان } ، فصار ، { من المغرقين } . وروي أن الماء علا رؤوس الجبال قدر أربعين ذراعا . وقيل : خمسة عشر ذراعا . وروي : أنه لما كثر الماء في السكك خشيت أم لصبي عليه ، وكانت تحبه حبا شديدا ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه ، فلما بلغها ذهبت حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بها الماء ، فلو رحم اله منهم أحدا لرحم أم الصبي .
ف { قَالَ } ابنه ، مكذبا لأبيه أنه لا ينجو إلا من ركب معه السفينة .
{ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } أي : سأرتقي جبلا ، أمتنع به من الماء ، ف { قَالَ } نوح : { لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ } فلا يعصم أحدا ، جبل ولا غيره ، ولو تسبب بغاية ما يمكنه من الأسباب ، لما نجا إن لم ينجه الله . { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ } الابن { مِنَ الْمُغْرَقِينَ }
ولكن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة ، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل :
( قال : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) . .
ثم ها هي ذي الأبوة المدركة لحقيقة الهول وحقيقة الأمر ترسل النداء الأخير :
( قال : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) .
لا جبال ولا مخابئ ولاحام ولا واق . إلا من رحم الله .
وفي لحظة تتغير صفحة المشهد . فها هو ذا الموج الغامر يبتلع كل شيء :
( وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) . .
وإننا بعد آلاف السنين ، لنمسك أنفاسنا - ونحن نتابع السياق - والهول يأخذنا كأننا نشهد المشهد . وهي تجري بهم في موج كالجبال ، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء . وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء ، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء ، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب !
وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية - بين الوالد والمولود - كما يقاس بمداه في الطبيعة ، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان . وإنهما لمتكافئان ، في الطبيعة الصامتة وفي نفس الإنسان . وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن .
{ قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } أن يغرقني { قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } إلا الراحم وهو الله تعالى أو الإمكان من رحمهم الله وهم المؤمنون ، رد بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللائذ به إلا معتصم المؤمنين وهو السفينة . وقيل لا عاصم بمعنى لا ذا عصمة كقوله : { في عيشة راضية } وقيل الاستثناء منقطع أي لكن من رحمه الله يعصمه . { وحال بينهما الموج } بين نوح وابنه أو بين ابنه والجبل . { فكان من المُغرقين } فصار من المهلكين بالماء .
ظن ابن نوح أن ذلك المطر والماء على العادة ، وقوله : { لا عاصم } قيل فيه : إنه على لفظة فاعل ؛ وقوله : { إلا مَنْ رحم } يريد إلا الله الراحم ، ف { مَنْ } كناية عن اسم الله تعالى ، المعنى : لا عاصم اليوم إلا الذي رحمنا ف { مَنْ } في موضع رفع ، وقيل : قوله : { إلا مَنْ رحم } استثناء منقطع كأنه قال : لا عاصم اليوم موجود ، لكن من رحم الله موجود{[6360]} ، وحسن هذا من جهة المعنى ، أن نفي العاصم يقتضي نفي المعصوم . فهو حاصل بالمعنى . وأما من جهة اللفظ ، ف { مَنْ } في موضع نصب على حد قول النابغة : إلا الأواري . . . . . . . {[6361]}
ولا يجوز أن تكون في موضع رفع على حد قول الشاعر : [ الرجز ] .
وبلدة ليس بها أنيس*** إلا اليعافير وإلا العيس{[6362]}
إذ هذان أنيس ذلك الموضع القفر ، والمعصوم هنا ليس بعاصم بوجه ، وقيل { عاصم } معناه ذو اعتصام ، ف { عاصم } على هذا في معنى معصوم ، ويجيء الاستثناء مستقيماً ، و { مَنْ } في موضع رفع ، و { اليوم } ظرف ، وهو متعلق بقوله : { من أمر الله } ، أو بالخير الذي تقديره : كائن اليوم ، ولا يصح تعلقه ب { عاصم } لأنه كان يجيء منوناً : لا عاصماً اليوم يرجع إلى أصل النصب لئلا يرجع ثلاثة أشياء واحداً ، وإنما القانون أن يكون الشيئان واحداً : { لا } وما عملت فيه ، ومثال النحويين في هذه المسألة : لا أمراً يوم الجمعة لك ، فإن أعلمت في يوم لك قلت : لا أمر{[6363]} .