6- ألم يعلموا أننا أهلكنا أُمماً كثيرة قبلهم ، أعطيناهم من أسباب القوة والبقاء في الأرض ما لم نعطكم إياه - أيها الكافرون - ووسعنا عليهم في الرزق والنعيم ، فأنزلنا عليهم الأمطار غزيرة ينتفعون بها في حياتهم ، وجعلنا مياه الأنهار تجري من تحت قصورهم ، فلم يشكروا هذه النعم . فأهلكناهم بسبب شركهم وكثرة ذنوبهم ، وأوجدنا - من بعد - أناساً غيرهم خيراً منهم .
قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } ، يعني الأمم الماضية ، والقرن : الجماعة من الناس ، وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال : ثمانون سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر المازني : إنك تعيش قرناً فعاش مائة سنة ، فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل القرن .
قوله تعالى : { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } . أي : أعطيناهم ما لم نعطكم ، وقال ابن عباس : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح ، وعاد ، وثمود . يقال : مكنته ومكنت له . قوله تعالى : { وأرسلنا السماء عليهم مدراراً } يعني : المطر ، مفعال ، من الدر . قال ابن عباس : مدراراً أي : متتابعاً في أوقات الحاجات ، وقوله : " ما لم نمكن لكم " من خطاب التلوين ، رجع من الخبر من قوله : { ألم يروا } إلى خطاب ، كقوله : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس :22 ] . وقال هل البصرة : أخبر عنهم بقوله : { ألم يروا } وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خاطبهم معهم ، والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه ؟ وقلت ، لعبد الله ما أكرمك ؟
قوله تعالى : { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا } خلقنا وابتدأنا .
ثم أمرهم أن يعتبروا بالأمم السالفة فقال : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : كم تتابع إهلاكنا للأمم المكذبين ، وأمهلناهم قبل ذلك الإهلاك ، بأن { مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ } لهؤلاء من الأموال والبنين والرفاهية .
{ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } فينبت لهم بذلك ما شاء الله ، من زروع وثمار ، يتمتعون بها ، ويتناولون منها ما يشتهون ، فلم يشكروا الله على نعمه ، بل أقبلوا على الشهوات ، وألهتهم أنواع اللذات ، فجاءتهم رسلهم بالبينات ، فلم يصدقوها ، بل ردوها وكذبوها فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأ { مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ }
فهذه سنة الله ودأبه ، في الأمم السابقين واللاحقين ، فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم .
وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم - وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر ، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال ، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث - فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب .
( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا ، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم . فأهلكناهم بذنوبهم ، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ) .
ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة . وقد مكنهم الله في الأرض ، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة ؛ وأرسل المطر عليهم متتابعا ينشىء في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق . . ثم ماذا ؟ ثم عصوا ربهم ، فأخذهم الله بذنوبهم ، وأنشأ من بعدهم جيلا آخر ، ورث الأرض من بعدهم ؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض ! فقد ورثها قوم آخرون ! فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر َ ! ما أهونهم على الله ؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضا ! لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء ؛ إنما عمرها جيل آخر ؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان ؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء !
وهي حقيقة ينساها البشر حين يمكن الله لهم في الأرض . ينسون أن هذا التمكين إنما تم بمشيئة الله ، ليبلوهم فيه : أيقومون عليه بعهد الله وشرطه ، من العبودية له وحده ، والتلقي منه وحده - بما أنه هو صاحب الملك وهم مستخلفون فيه - أم يجعلون من أنفسهم طواغيت ، تدعي حقوق الألوهية وخصائصها ؛ ويتصرفون فيما استخلفوا فيه تصرف المالك لا المستخلف .
إنها حقيقة ينساها البشر - إلا من عصم الله - وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف ؛ ويمضون على غير سنة الله ؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف ، ويقع الفساد رويدا رويدا وهم ينزلقون ولا يشعرون . . حتى يستوفي الكتاب أجله ؛ ويحق وعد الله . . ثم تختلف أشكال النهاية : مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال - بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام - ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام - ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض ؛ فيعذب بعضهم بعضا ، ويدمر بعضهم بعضا ، ويؤذي بعضهم بعضا ، ولا يعود بعضهم يأمن بعضا ؛ فتضعف شوكتهم في النهاية ؛ ويسلط الله عليهم عبادا له - طائعين أو عصاة - يخضدون شوكتهم ، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه ؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم . . وهكذا تمضي دورة السنة . . السعيد من وعى أنها السنة ، ومن وعى أنه الابتلاء ؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه . والشقي من غفل عن هذه الحقيقة ، وظن أنه أوتيها بعلمه ، أو أوتيها بحيلته ، أو أوتيها جزافا بلا تدبير !
وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي ، أو المستهتر الفاسد ، أو الملحد الكافر ، ممكنا له في الأرض ، غير مأخوذ من الله . . ولكن الناس إنما يستعجلون . . إنهم يرون أول الطريق أو وسطه ؛ ولا يرون نهاية الطريق . . ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء ! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث . . والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون - في حياتهم الفردية القصيرة - نهاية الطريق ؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق !
إن هذا النص في القرآن : ( فأهلكناهم بذنوبهم ) . . وما يماثله ، وهو يتكرر كثيرا في القرآن الكريم . . إنما يقرر حقيقة ، ويقرر سنة ، ويقرر طرفا من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ . .
إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها ، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم ؛ وأن هذه سنة ماضية - ولو لم يرها فرد في عمره القصير ، أو جيل في أجله المحدود - ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب ؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب . . كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ : فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال ؛ من عوامله ، فعل الذنوب في جسم الأمم ؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار ؛ إما بقارعة من الله عاجلة - كما كان يحدث في التاريخ القديم - وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي ، الذي يسري في كيان الأمم - مع الزمن - وهي توغل في متاهة الذنوب !
وأمامنا في التاريخ القريب - نسبيا - الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي ، والدعارة الفاشية ، واتخاذ المرأة فتنة وزينة ، والترف والرخاوة ، والتلهي بالنعيم . . أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان - وقد أصبحوا أحاديث - وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله ، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة ، كفرنسا وانجلترا كذلك - على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض .
إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفا باتا من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة ، واستعباد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها . . ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلا على أساس القاعدة الاعتقادية .
والتفسير الإسلامي - بشمولة وجديته وصدقه وواقعيته - لا يغفل أثر العناصر المادية - التي يجعلها التفسير . المادي هي كل شيء - ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة ؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى التي لا ينكرها إلا أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود . . يبرز قدر الله من وراء كل شيء ؛ ويبرز التغير الداخلي في الضمائر والمشاعر والعقائد والتصورات ؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي . .
ولا يغفل عاملا واحدا من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة . .
{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } أي من أهل زمان ، والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة . وقيل ثمانون . وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم . قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت . { مكناهم في الأرض } جعلنا لهم فيها مكانا وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها . { ما لم نمكن لكم } ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب . { وأرسلنا السماء عليهم } أي المطر أو السحاب ، أو المظلة إن مبدأ المطر منها . { مدرارا } أي مغزارا . { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار . { فأهلكناهم بذنوبهم } أي لم يغن ذلك عنهم شيئا . { وأنشأنا } وأحدثنا . { من بعدهم قرنا آخرين } بدلا منهم ، والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم يعمر به بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم .