قوله تعالى : { يدبر الأمر } أي : يحكم الأمر وينزل القضاء والقدر ، { من السماء إلى الأرض } وقيل : ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض ، { ثم يعرج } يصعد ، { إليه } جبريل بالأمر ، { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } أي : في يوم واحد من أيام الدنيا وقدر مسيرة ألف سنة ، خمسمائة نزوله ، وخمسمائة صعوده ، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام ، يقول : لو سار فيه أحد بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة ، والملائكة يقطعونه في يوم واحد ، هذا في وصف عروج الملك من الأرض إلى السماء ، وأما قوله : { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } أراد مدة المسافة بين الأرض إلى السماء إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل ، يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا . هذا كله معنى قول مجاهد والضحاك ، وقوله : إليه أي : إلى الله . وقيل : على هذا التأويل إلى مكان الملك الذي أمره الله عز وجل أن يعرج إليه . وقال بعضهم : ألف سنة وخمسون ألف سنة كلها في القيامة ، يكون على بعضهم أطول ، وعلى بعضهم أقصر ، معناه : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ، ثم يعرج أي : يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا ، وانقطاع أمر الأمراء وحكم الحكام في يوم كان مقداره ألف سنة ، وهو يوم القيامة ، وأما قوله : { خمسين ألف سنة } فإنه أراد على الكافر يجعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة ، وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث : أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا . وقال إبراهيم التيمي : لا يكون على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر . ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدته وهوله ومشقته . وقال ابن أبي مليكة : دخلت أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان على ابن عباس وسأله ابن فيروز عن هذه الآية وعن قوله خمسين ألف سنة فقال له ابن عباس : أيام سماها الله لا أدري ما هي وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم .
{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } القدري والأمر الشرعي ، الجميع هو المتفرد بتدبيره ، نازلة تلك التدابير من عند المليك القدير { مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ } فَيُسْعِدُ بها ويُشْقِي ، ويُغْنِي ويُفْقِرُ ، ويُعِزُّ ، ويُذِلُّ ، ويُكرِمُ ، ويُهِينُ ، ويرفع أقوامًا ، ويضع آخرين ، ويُنزِّل الأرزاق .
{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي : الأمر ينزل من عنده ، ويعرج إليه { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } وهو يعرج إليه ، ويصله في لحظة .
ومع الخلق والاستعلاء . . التدبير والتقدير . . في الدنيا والآخرة . . فكل أمر يدبر في السماوات والأرض وما بينهما يرفع إليه سبحانه في يوم القيامة ، ويرجع إليه مآله في ذلك اليوم الطويل :
( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض . ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) . .
والتعبير يرسم مجال التدبير منظورا واسعا شاملا : ( من السماء إلى الأرض )ليلقي على الحس البشري الظلال التي يطيقها ويملك تصورها ويخشع لها . وإلا فمجال تدبير الله أوسع وأشمل من السماء إلى الأرض . ولكن الحس البشري حسبه الوقوف أمام هذا المجال الفسيح ، ومتابعة التدبير شاملا لهذه الرقعة الهائلة التي لا يعرف حتى الأرقام التي تحدد مداها !
ثم يرتفع كل تدبير وكل تقدير بمآله ونتائجه وعواقبه . يرتفع إليه سبحانه في علاه في اليوم الذي قدره لعرض مآلات الأعمال والأقوال ، والأشياء والأحياء ( في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ) . . وليس شيء من هذا كله متروكا سدى ولا مخلوقا عبثا ، إنما يدبر بأمر الله إلى أجل مرسوم . . يرتفع . فكل شيء وكل أمر وكل تدبير وكل مآل هو دون مقام الله ذي الجلال ، فهو يرتفع إليه أو يرفع بإذنه حين يشاء .
وقوله : { يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي : يتنزل{[23058]} أمره من أعلى السموات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة ، كما قال الله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [ الطلاق : 12 ] .
وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ، ومسافة ما بينها وبين الأرض [ مسيرة ] {[23059]} خمسمائة سنة ، وسمك السماء خمسمائة سنة .
وقال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك : النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام ، وصعوده في مسيرة خمسمائة عام ، ولكنه يقطعها في طرفة عين ؛ولهذا قال تعالى : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } .
{ الأمر } اسم جنس لجميع الأمور ، والمعنى ينفذ الله تعالى قضاءه بجميع ما يشاؤه ، { ثم يعرج إليه } خبر ذلك { في يوم } من أيام الدنيا { مقداره } أن لو سير فيه السير المعروف من البشر { ألف سنة } لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة هذا أحد الأقوال ، وهو قو لمجاهد وابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك ، وقال مجاهد أيضاً : إن المعنى أن الضمير في { مقداره } عائد على «التدبير » ، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبرها البشر ، وقال مجاهد أيضاً المعنى أن الله تعالى يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا وهو اليوم عنده فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها ، فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدة ثم تصير إليه آخراً لأن عاقبة الأمور إليه ، وقيل المعنى { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض } في مدة الدنيا { ثم يعرج إليه } يوم القيامة ويوم القيامة { مقداره ألف سنة } من عندنا وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة لهوله وشنعته حسبما في سورة «سأل سائل »{[9403]} وسنذكر هنالك ما فيه من الأقوال والتأويل إن شاء الله ، وحكى الطبري في هذه الآية عن بعضهم أنه قال قوله { في يوم } إلى آخر الآية متعلق بقوله قبل هذا { في ستة أيام } [ السجدة : 4 ] ومتصل به أي أن تلك الستة كل واحد منها من ألف سنة{[9404]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول ضعيف مكرهة ألفاظ هذه الآية عليه رادة له الأحاديث التي بينت أيام خلق الله تعالى المخلوقات ، وحكي{[9405]} أيضاً عن ابن زيد عن بعض أهل العلم أن الضمير في { مقداره } عائد على العروج ، والعروج الصعود ، والمعارج الأدراج التي يصعد عليها ، وقالت فرقة معنى الآية يدبر أمر الشمس في أنها تصعد وتنزل في يوم وذلك قدر ألف سنة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا أيضاً ضعيف وظاهر عود الضمير في { إليه } على اسم الله تعالى كما قال { ذاهب إلى ربي }{[9406]} [ الصافات : 99 ] ، وكما قال «مهاجر إلى ربي »{[9407]} ، وهذا كله بريء من التحيز ، وقيل إن الضمير يعود على { السماء } لأنها قد تذكر ، وقرأ جمهور الناس «تعدون » بالتاء ، وقرأ الأعمش والحسن بخلاف عنه «يعدون » بالياء من تحت .
جملة { يدبر الأمر } في موضع الحال من اسم الجلالة في قوله تعالى { الله الذي خلق السماوات والأرض } [ السجدة : 4 ] ، أي : خلق تلك الخلائق مدبِّراً أمرها . ويجوز أن تكون الجملة استئنافاً ، وقوله { من السماء } متعلق ب { يدبر } أو صفة للأمر أو حال منه ، و { من } ابتدائية . والمقصود من حرفي الابتداء والانتهاء شمول تدبير الله تعالى الأمور كلها في العالمين العلوي والسفلي تدبيراً شاملاً لها من السماء إلى الأرض ، فأفاد حرف الانتهاء شمول التدبير لأمورِ كل ما في السماوات والأرض وفيما بينهما .
والتدبير : حقيقته التفكير في إصدار فعل متقن أوله وآخره وهو مشتق من دُبُر الأمر ، أي : آخره لأن التدبير النظر في استقامة الفعل ابتداء ونهاية . وهو إذا وصف به الله تعالى كنايةٌ عن لازم حقيقته وهو تمام الإتقان ، وتقدم شيء من هذا في أول سورة يونس وأول سورة الرعد .
و { الأمر } : الشأن للأشياء ونظامُها وما به تقوُّمها . والتعريف فيه للجنس وهو مفيد لاستغراق الأمور كلها لا يخرج عن تصرفه شيء منها ، فجميع ما نقل عن سلف المفسرين في تفسير الأمر يرجع إلى بعض هذا العموم .
والعروج : الصعود . وضمير { يَعْرُجُ } عائد على { الأَمْرَ } ، وتعديته بحرف الانتهاء مفيدة أن تلك الأمور المدبَّرة تصعد إلى الله تعالى ؛ فالعروج هنا مستعار للمصير إلى تصرف الخالق دون شائبة تأثير من غيره ولو في الصورة كما في أحوال الدنيا من تأثير الأسباب . ولما كان الجلال يشبَّه بالرفعة في مستعمل الكلام شبه المصير إلى ذي الجلال بانتقال الذوات إلى المكان المرتفع وهو المعبر عنه في اللغة بالعُروج ، كما قال تعالى : { إليه يصعَد الكَلِم الطّيب والعملُ الصالحُ يرفعُه } [ فاطر : 10 ] ، أي : يرفعه إليه .
و { ثم } للتراخي الرتبي لأن مرجع الأشياء إلى تصرفه بعد صدورها من لدنه أعظم وأعجب .
وقد أفاد التركيب أن تدبير الأمور من السماء إلى الأرض من وقت خلقهما وخلق ما بينهما يستقر على ما دبر عليه كلٌّ بحسب ما يقتضيه حال تدبيره من استقراره ، ويزول بعضه ويبقى بعضه ما دامت السماوات والأرض ، ثم يجمع ذلك كله فيصير إلى الله مصيراً مناسباً لحقائقه ؛ فالذوات تصير مصير الذوات والأعراض والأعمال تصير مصير أمثالها ، أي : يصير وصفها ووصف أصحابها إلى علم الله وتقدير الجزاء ، فذلك المصير هو المعبر عنه بالعروج إلى الله فيكون الحساب على جميع المخلوقات يومئذ .
واليوم من قوله { في يوم كان مقداره ألف سنة } هو اليوم الذي جاء ذكره في آية سورة الحج ( 47 ) بقوله : { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون } ومعنى تقديره بألف سنة : أنه تحصل فيه من تصرفات الله في كائنات السماء والأرض ما لو كان من عمل الناس لكان حصول مثله في ألف سنة ، فلك أن تقدر ذلك بكثرة التصرفات ، أو بقطع المسافات ، وقد فُرضت في ذلك عدة احتمالات .
والمقصود : التنبيه على عظم القدرة وسعة ملكوت الله وتدبيره . ويظهر أن هذا اليوم هو يوم الساعة ، أي ساعة اضمحلال العالم الدنيوي ، وليس اليوم المذكور هنا هو يوم القيامة المذكور في سورة المعارج قاله ابن عباس . ولم يُعيِّن واحداً منهما ، وليس من غرض القرّاء تعيين أحد اليومين ولكن حصول العبرة بأهوالهما .
وقوله { في يوم } يتنازعه كل من فعلي { يُدبر } و { يعرج } أي يحصل الأمران في يوم .
و { ألف } عند العرب منتهى أسماءِ العدد وما زاد على ذلك من المعدودات يعبر عنه بأعداد أخرى مع عدد الألف كما يقولون خمسة آلاف ، ومائة ألف ، وألف ألف .
وألف يجوز أن يستعمل كناية عن الكثرة الشديدة كما يقال : زرتُك ألفَ مرة ، وقوله تعالى : { يود أحدهم لو يُعَمَّر ألف سنة } [ البقرة : 96 ] ، وهو هنا بتقدير كاف التشبيه أو كلمة نَحْوَ ، أي كان مقداره كألف سنة أو نحو ألف سنة كما في قوله : { وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تَعُدُّون } [ الحج : 47 ] . ويجوز أن يكون { ألف } مستعملاً في صريح معناه . وقوله : { مما تعدون } ، أي : مما تحسبُون في أعدادكم ، و { ما } مصدرية أو موصولية وهو وصف ل { ألف سنة . وهذا الوصف لا يقتضي كون اسم ألف مستعملاً في صريح معناه لأنه يجوز أن يكون إيضاحاً للتشبيه فهو قريب من ذكر وجه الشبه مع التشبيه ، وقد يترجح أن هذا الوصف لما كان في معنى الموصوف صار بمنزلة التأكيد اللفظي لمدلوله فكان رافعاً لاحتمال المجاز في العدد .