الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (5)

{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ } أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض { ثُمَّ يَعْرُجُ } يصعد { إِلَيْهِ } جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيّام الدُّنيا ، وَقَدْرُ مسيرِهِ ألف سنة ، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض ، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء . وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول : لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلاّ في ألف سنة ، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد ، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء ، ونزولهم من السماء إلى الأرض ، وأمّا قوله :

{ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فإنّه أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل( عليه السلام ) .

يقول : يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامهِ مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيّام الدنيا ، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة والضحّاك ، وأمّا معنى قوله : { إِلَيْهِ } على هذا التأويل فإنّه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أنْ يعرج إليه ، كقول إبراهيم ( عليه السلام )

{ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } [ الصافات : 99 ] وإنّما أراد أرض الشام . وقال : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ } أي إلى المدينة ، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام .

أخبرني ابن فنجويه ، عن هارون بن محمد بن هارون ، عن حازم بن يحيى الحلواني ، عن محمد بن المتوكل ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبد الله عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتاني ملك برسالة من الله عزّ وجلّ ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السماء ، والاُخرى في الأرض لم يرفعها " . وقال بعضهم معناه : يُدَّبِرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرض مدّة أيّام الدنيا ، ثمّ يَعْرُجُ إليه الأمر والتدبير ، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } وهو يوم القيامة .

وأمّا قوله :

{ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فإنّه أراد على الكافر ، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة ، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا . ويجوز أن يكون ليوم القيامة أوّل وليس له آخر وفيه أوقات شتّى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة . ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدّتهِ وهوله ومشقّته لاِنّ العرب تصف أيّام المكروه بالطّول وأيّام السرور بالقصر ، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسِّرين .

وروى عبد الرزاق عن ابن جريح قال : أخبرني ابن أبي مليكة قال : دخلت أنا وعبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان على ابن عبّاس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية ، فقال له ابن عبّاس : مَنْ أنت ؟ قال : أنا عبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان ، فقال عبدالله بن عبّاس : أيّام سمّاها الله لا أدري ما هي ، وأكره أنْ أقول في كتاب الله ما لا أعلم . قال ابن أبي مليكة : فضرب الدهر حتّى دخلتُ على سعيد بن المسيّب فسئل عنها فلم يدر ما يقول ، فقلت له : ألا أخبرك ما حضرتُ مِن ابن عبّاس ، فأخبرته ، فقال ابن المسيب للسائل : هذا ابن عبّاس قد اتّقى أنْ يقول فيها وهو أعلم منّي .