السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ثُمَّ يَعۡرُجُ إِلَيۡهِ فِي يَوۡمٖ كَانَ مِقۡدَارُهُۥٓ أَلۡفَ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (5)

ولما نفى أن يكون له وزيرٌ أو شريكٌ في الخلق ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء : { يدبر الأمر } أي : كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه ، كما نظر في إقباله لأحكام فواتحه وعوازمه ، لا يكل شيئاً منه إلى أحد من خلقه . قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهاره القدرة ، والعرش مظهر التدبير لا مقر لمدبر .

ولما كان المقصود للقرب إنما هو تدبير ما يمكن مشاهدتهم له من العالم قال تعالى مفرداً : { من السماء } أي : فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في إدبار ما يعمله { إلى الأرض } أي : غير متعرض إلى ما فوق ذلك ، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم العلوي ، والأرض تشمل كل ما سفل فيشمل ذلك العالم السفلي .

تنبيه : ههنا همزتان مكسورتان ، فقالون وابن كثير يسهل الأولى كالياء مع المد والقصر ، وورش وقنبل يسهل الثانية ، ولهما إبدالهما من غير مدٍّ ، وأسقط أبو عمرو الأولى مع المد والقصر والباقون بتحقيقهما .

ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد فكان بذلك مستبعداً ؛ أشار إلى ذلك بقوله تعالى : { ثم يعرج } أي : يصعد { إليه } أي : بصعود الملك إلى الله تعالى أي : إلى الموضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى { إني ذاهب إلى ربي } ( الصافات : 99 ) { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } ( النساء : 100 ) ونحو ذلك ، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير إلى السماء كأنه صاعد في معارج ، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم في أسرع من لمح البصر { في يوم } أي : من أيام الدنيا { كان مقداره } لو كان الصاعد واحداً منكم على ما تعهدون { ألف سنة مما تعدون } من سنيكم التي تعهدون ، قال البقاعي : والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ ، أما اللفظ فالتعبير بكان مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك ، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً ، فإذا فرغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل ، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءا ، أو لا يبعد هذا وهو خلق محتاج ، فما ظنّك بمن خلق الخلق في ستة أيام ولو شاء لخلقهم في لمحة ، وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء انتهى .

فنزول الأمر وعروج العمل في مسافة ألف سنة مما تعدون وهو ما بين السماء والأرض فإن مسافته خمسمائة سنة ، فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ، ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة كأنه تعالى يقول : لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة ، والملائكة يقطعونه في يوم واحد ، هذا في وصف عروج الملك من الأرض إلى السماء ، وأما قوله تعالى : { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } ( المعارج : 4 ) فأراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام ، فسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا . قاله مجاهد والضحاك ، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال : «بين السماء والأرض خمسمائة عام ثم قال : أتدرون ما الذي فوقها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : سماء أخرى أتدرون كم بينها وبينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : خمسمائة عام حتى عد سبع سماوات ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : العرش ثم قال : أتدرون ما بينه وبين السماء السابعة ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال مسيرة خمسمائة عام ، ثم قال : ما هذه تحتكم ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : أرض ، أتدرون ما تحتها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : أرض أخرى أتدرون كم بينها ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم قال : مسيرة سبعمائة عام ، حتى عد سبع أرضين ثم قال : وأيمُ الله لو دليتم بحبل لهبط على علم الله وقدرته » وروي : «مَثَلُ السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة ، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة » .

وقوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } ( البقرة : 255 ) يدل على أن الكرسي محيط بالكل . وقيل : مقدار ألف سنة وخمسين ألف سنة كلها في القيامة ، ومعناه حينئذ : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي : يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا في يوم كان مقداره ذلك ، وذلك اليوم يتفاوت ، فهو على الكافر كخمسين ألف سنة ، وعلى المؤمن دون ذلك . بل جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كمثل صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا .

وقيل : إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر ؛ وذلك لأن من نفد أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة ، فقوله : { في يوم كان مقداره ألف سنة } يعني : يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة ، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه ؟ وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله : { مقداره خمسين ألف سنة } لأن ذلك إذا كان إشارة إلى دوام نفاذ الأمر فسواء يعبر بألف سنة أو بخمسين ألف سنة لا يتفاوت ، إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر ، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى .