قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } الآية ، قال الضحاك و أبو عبيدة : نجس : قذر . وقيل : خبيث . وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى والتثنية والجمع ، فأما النجس : بكسر النون وسكون الجيم ، فلا يقال على الانفراد ، إنما يقال : رجس نجس ، فإذا أفرد قيل : نجس ، بفتح النون وكسر الجيم ، وأراد به : نجاسة الحكم لا نجاسة العين ، سموا نجسا على الذم . وقال قتادة : سماهم نجسا لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضئون .
قوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام } ، أراد منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام ، وأراد به الحرم هذا كما قال الله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام } [ الإسراء-1 ] ، وأراد به الحرم لأنه أسرى به من بيت أم هانئ . قال الشيخ الإمام الأجل : وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلاثة أقسام : أحدها : الحرم ، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال ، ذميا كان أو مستأمنا ، لظاهر هذه الآية ، وإذا جاء رسول من بلاد الكفار إلى الإمام والإمام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم ، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم . وجوز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم . والقسم الثاني من بلاد الشام : الحجاز ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن ولكن لا يقيم فيها أكثر من مقام السفر وهو ثلاثة أيام ، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لئن عشت إن شاء الله تعالى لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما " . فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى فقال : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " ، فلم يتفرغ لذلك أبو بكر رضي الله عنه ، وأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته ، وأجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا . وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وأما العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام . والقسم الثالث : سائر بلاد الإسلام ، فيجوز للكافر أن يقيم فيها بذمة وأمان ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم .
قوله تعالى : { بعد عامهم هذا } ، يعنى : العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه بالناس ، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة ، وهو سنة تسع من الهجرة .
قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } ، وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يأتون مكة بالطعام ويتجرون ، فلما منعوا من دخول الحرم خافوا الفقر ، وضيق العيش ، وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { وإن خفتم عيلة } فقرا وفاقة . يقال : عال يعيل علية إذا افتقر .
قوله تعالى : { فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم } ، قال عكرمة : فأغناهم الله عز وجل بأن أنزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم . وقال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وجريش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون . وقال الضحاك وقتادة : عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها وذلك قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } .
{ 28 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ } باللّه الذين عبدوا معه غيره { نَجَسٌ } أي : خبثاء في عقائدهم وأعمالهم ، وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة لا تنفع ولا تضر ، ولا تغني عنه شيئا ؟ " .
وأعمالهم ما بين محاربة للّه ، وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل ، ورد للحق ، وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح ، فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم .
{ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } وهو سنة تسع من الهجرة ، حين حج بالناس أبو بكر الصديق ، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمه عليا ، أن يؤذن يوم الحج الأكبر ب { براءة } فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .
وليس المراد هنا ، نجاسة البدن ، فإن الكافر كغيره طاهر البدن ، بدليل أن اللّه تعالى أباح وطء الكتابية ومباشرتها ، ولم يأمر بغسل ما أصاب{[366]} منها .
والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفار ، ولم ينقل عنهم أنهم تقذروا منها ، تَقَذُّرَهْم من النجاسات ، وإنما المراد كما تقدم نجاستهم المعنوية ، بالشرك ، فكما أن التوحيد والإيمان ، طهارة ، فالشرك نجاسة .
وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ } أيها المسلمون { عَيْلَةً } أي : فقرا وحاجة ، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام ، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية ، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فليس الرزق مقصورا على باب واحد ، ومحل واحد ، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة ، فإن فضل اللّه واسع ، وجوده عظيم ، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم ، فإن اللّه أكرم الأكرمين .
وقد أنجز اللّه وعده ، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله ، وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك .
وقوله : { إِنْ شَاءَ } تعليق للإغناء بالمشيئة ، لأن الغنى في الدنيا ، ليس من لوازم الإيمان ، ولا يدل على محبة اللّه ، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة .
فإن اللّه يعطي الدنيا ، من يحب ، ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان والدين ، إلا من يحب .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : علمه
واسع ، يعلم من يليق به الغنى ، ومن لا يليق ، ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها .
وتدل الآية الكريمة ، وهي قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } أن المشركين بعد ما كانوا ، هم الملوك والرؤساء بالبيت ، ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين ، مع إقامتهم في البيت ، ومكة المكرمة ، ثم نزلت هذه الآية .
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجلوا من الحجاز ، فلا يبقى فيها دينان ، وكل هذا لأجل بُعْدِ كل كافر عن المسجد الحرام ، فيدخل في قوله { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }
عندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع ، ويلمس وجدان المسلمين بالذكرى القريبة من التاريخ ، ينهي القول في شأن المشركين . ويلقي الكلمة الباقية فيهم إلى يوم الدين :
( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ؛ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء . إن الله عليم حكيم ) . .
إنما المشركون نجس . يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم . فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس ، يستقذره الحس ، ويتطهر منه المتطهرون ! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة ، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها . إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم .
( نجس . فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) . .
وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام ، حتى لينصب النهي على مجرد القرب منه ، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور !
ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة ؛ والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة ؛ ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة . . . أنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج ؛ وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة . . .
نعم ! ولكنها العقيدة . والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة !
وبعد ذلك ، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة :
( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) . .
وحين يشاء الله يستبدل أسبابا بأسباب ؛ وحين يشاء يغلق بابا ويفتح الأبواب . .
يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة ، وعن تقدير وحساب . .
لقد كان المنهج القرآني يعمل ، في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح ؛ والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد . .
وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات . فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات . ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد .
إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها ، هي قمة التجرد لله ، والخلوص لدينه . وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة . وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيدا لله وحده ، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أربابا بعضهم لبعض . . وهما منهجان لا يلتقيان . . ولا يتعايشان . .
وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته ، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها ؛ لا يملك إنسان أن يقوم الأحكام الإسلامية ، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات .
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين ، الذين هم نَجَس دينًا ، عن المسجد
الحرام ، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية . وكان نزولها في سنة تسع ؛ ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر ، رضي الله عنهما ، عامئذ ، وأمره أن ينادي في المشركين : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف{[13357]} بالبيت عريان . فأتم الله ذلك ، وحكم به شرعا وقدرا .
وقال عبد الرازق : أخبرنا ابن جُرَيْج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } إلا أن يكون عبدًا ، أو أحدا من أهل الذمة{[13358]}
وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال الإمام أحمد : حدثنا حُسَين{[13359]} حدثنا شريك ، عن الأشعث - يعني : ابن سَوَّار - عن الحسن ، عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك ، إلا أهل العهد وخدمهم{[13360]} {[13361]}
تفرد به أحمد مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا .
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : كتب عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه : أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }
وقال عطاء : الحرم كله مسجد ، لقوله تعالى : { فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } .
ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت [ على طهارة المؤمن ، ولما ]{[13362]} ورد في [ الحديث ]{[13363]} الصحيح : " المؤمن لا ينجس " {[13364]} وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم .
وقال أشعث ، عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ . رواه ابن جرير .
وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } قال ابن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا : لتنقطعن عنا الأسواق ، ولتهلكن{[13365]} التجارة وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فنزلت{[13366]} { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } من وجه غير ذلك - { إِنْ شَاءَ } إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : إن هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب ، من الجزية .
وهكذا رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة والضحاك ، وغيرهم .
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ } أي : بما يصلحكم ، { حَكِيم } أي : فيما يأمر به وينهى عنه ؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله ، العادل في خلقه وأمره ، تبارك وتعالى ؛ ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة . فقال : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
{ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجَسٌ } خبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن الأنجاس ، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالبا . وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب . وقرئ " نجْسٌ " بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما جاء تابعا لرجس . { فلا يقربوا المسجد الحرام } لنجاستهم ، وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم . وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع . { بعد عامهم هذا } يعني سنة " براءة " وهي التاسعة . وقيل سنة حجة الوداع . { وإن خفتم عيلةً } فقراً بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب والأرفاق . { فسوف يغنيكم الله من فضله } من عطائه أو تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم ، ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض . وقرئ " عائلة " على أنها مصدر كالعافية أو حال . { إن شاء } قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولينبه على أنه تعالى متفضل في ذلك وأن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام . { إن الله عليم } بأحوالكم . { حكيم } فيما يعطي ويمنع .
{ يا أيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا }
استئناف ابتدائي للرجوع إلى غرض إقصاء المشركين عن المسجد الحرام المفاد بقوله : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } [ التوبة : 17 ] الآية ، جيء به لتأكيد الأمر بإبعادهم عن المسجد الحرام مع تعليله بعلّة أخرى تقتضي إبعادهم عنه : وهي أنّهم نجس ، فقد علّل فيما مضى بأنّهم شاهدون على أنفسهم بالكُفر ، فليسوا أهلاً لتعمير المسجد المبني للتوحيد ، وعلّل هنا بأنّهم نجس فلا يعمروا المسجد لطهارته .
و { نجس } صفة مشبهة ، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له ، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك ، فعلمنا أنّها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية .
والنجاسة المعنوية : هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقّراً متجنَّباً من الناس فلا يكون أهلاً لفضل ما دام متلبّساً بالصفة التي جعلته كذلك ، فالمشرك نجَس لأجل عقيدة إشراكه ، وقد يكون جسده نظيفاً مطيّباً لا يستقذر ، وقد يكون مع ذلك مستقذرَ الجسد ملطخاً بالنجاسات لأنّ دينه لا يطلب منه التطهّر ، ولكن تنظّفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم . والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخير ، ولا شكّ أنّ خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات ، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم انخلاعاً عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسّيّة لإزالة خباثة نفسه ، وإنّ طهارة الحدث لقريب من هذا .
وقد فرّع على نجاستهم بالشرك المنع من أن يقربوا المسجد الحرام ، أي المنع من حضور موسم الحجّ بعد عامهم هذا .
والإشارة إلى العام الذي نزلت فيه الآية وهو عام تسعة من الهجرة ، فقد حضر المشركون موسم الحجّ فيه وأعلن لهم فيه أنّهم لا يعودون إلى الحجّ بعد ذلك العام ، وإنّما أمهلوا إلى بقية العام لأنّهم قد حصَلوا في الموسم ، والرجوع إلى آفاقهم متفاوت « فأريد من العام موسم الحجّ ، وإلاّ فإنّ نهاية العام بانسلاخ ذي الحجّة وهم قد أمهلوا إلى نهاية المحرم بقوله تعالى : { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } [ التوبة : 2 ] .
وإضافة ( العام ) إلى ضمير ( هم ) لمزيد اختصاصهم بحكم هائل في ذلك العام كقول أبي الطيب :
فإن كان أعجبكم عامكم *** فعودوا إلى مصر في القابل
وصيغة الحصر في قوله : { إنما المشركون نجس } لإفادة نفي التردّد في اعتبارهم نجساً ، فهو للمبالغة في اتّصافهم بالنجاسة حتّى كأنّهم لا وصف لهم إلاّ النجسية .
ووصف ( العام ) باسم الإشارة لزيادة تمييزه وبيانه .
وقوله : { فلا يقربوا المسجد } ظاهره نهي للمشركين عن القرب من المسجد الحرام . ومواجهةُ المؤمنين بذلك تقتضي نهي المسلمين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام . جعل النهي عن صورة نهي المشركين عن ذلك مبالغة في نهي المؤمنين حين جُعلوا مكلّفين بانكفاف المشركين عن الاقتراب من المسجد الحرام من باب قول العرب : « لا أرينّك ههنا » فليس النهي للمشركين على ظاهره .
والمقصود من النهي عن اقترابهم من المسجد الحرام النهي عن حضورهم الحج لأنّ مناسك الحجّ كلّها تتقدّمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها كذلك ، ولذلك لمّا نزلت « براءة » أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينادَى في الموسم أن لا يحجّ بعد العام مشرك وقرينة ذلك توقيت ابتداء النهي بما بعد عامهم الحاضر . فدلّ على أنّ النهي منظور فيه إلى عمل يكمل مع اقتراب اكتمال العام وذلك هو الحجّ . ولولا إرادة ذلك لما كان في توقيت النهي عن اقتراب المسجد بانتهاء العام حكمة ولكان النهي على الفور .
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
عطف على جملة النهي . والمقصود من هذه الجملة : وعد المؤمنين بأن يغنيهم الله عن المنافع التي تأتيهم من المشركين حين كانوا يفدون إلى الحجّ فينفقون ويهدُون الهدايا فتعود منهم منافع على أهل مكة وما حولها ، وقد أصبح أهلها مسلمين فلا جرم أن ما يرد إليها من رزق يعود على المؤمنين .
والعَيْلة : الاحتياج والفقر أي إنْ خطر في نفوسكم خوف الفقر من انقطاع الإمداد عنكم بمنع قبائِل كثيرة من الحجّ فإنّ الله سيغنيكم عن ذلك . وقد أغناهم الله بأن هَدى للإسلام أهل تَبَالَة وجُرَش من بلاد اليمن ، فأسلموا عقب ذلك ، وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكّة الطعام والمِيرة ، وأسلم أيضاً أهل جُدَّة وبلدهم مرفأ ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها ، فحملوا الطعام إلى مكة ، وأسلم أهل صنعاء من اليمن ، وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها .
وقوله : { إن شاء } يفتح لهم باب الرجاء مع التضرّع إلى الله في تحقيق وعده لأنّه يفعل ما يشاء .
وقوله : { إن الله عليم حكيم } تعليل لقوله : { وإن خفتم عيلة } أي أنّ الله يغنيكم لأنّه يعلم ما لكم من المنافع من وفادة القبائِل ، فلمّا منعكم من تمكينهم من الحجّ لم يكن تاركاً منفعتكم فقَدر غناكم عنهم بوسائل أخرى عَلِمَها وأحكم تدبيرها .