قوله تعالى : { والخيل } ، يعني : وخلق الخيل ، وهي اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء ، { والبغال والحمير لتركبوها وزينة } ، يعني وجعلها زينة لكم مع المنافع التي فيها . وأحتج بهذه الآية من حرم لحوم الخيل ، وهو قول ابن عباس ، وتلا هذه الآية ، فقال : هذه للركوب والية ذهب الحكم ، ومالك ، وأبو حنيفة . وذهب جماعة إلى إباحة لحوم الخيل ، وهو قول الحسن و شريح وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . ومن أباحها قال : ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم بل المراد منه تعريف الله عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته ، واحتجوا بما : أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا احمد بن عبد الله ألنعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد عن عمرو- هو ابن دينار-عن محمد بن علي عن جابر رضي الله عنه قال : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ورخص في لحوم الخيل " .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أنبأنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أنبأنا أبو احمد عبد الله بن عدي الحافظ حدثنا الحسن بن الفرج ، حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا عبد الله بن عبد الكريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن جابر أنهم كانوا يأكلون لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عن أكل لحوم البغال والحمير .
روى عن المقدام بن معد يكرب عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير وإسناده ضعيف . { ويخلق ما لا تعلمون } ، قيل : يعني ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها ، مما لم تره عين ولم تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر . وقال قتادة يعني : السوس في النبات والدود في الفواكه .
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ } سخرناها لكم { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } أي : تارة تستعملونها للضرورة في الركوب وتارة لأجل الجمال والزينة ، ولم يذكر الأكل لأن البغال والحمر محرم أكلها ، والخيل لا تستعمل -في الغالب- للأكل ، بل ينهى عن ذبحها لأجل الأكل خوفا من انقطاعها وإلا فقد ثبت في الصحيحين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في لحوم الخيل .
{ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء ، التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو ، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم ، فإنه لم يذكرها بأعيانها ، لأن الله تعالى لا يذكر في كتابه إلا ما يعرفه العباد ، أو يعرفون نظيره ، وأما ما ليس له نظير في زمانهم فإنه لو ذكر لم يعرفوه ولم يفهموا المراد منه ، فيذكر أصلا جامعا يدخل فيه ما يعلمون وما لا يعلمون ، كما ذكر نعيم الجنة وسمى منه ما نعلم ونشاهد نظيره ، كالنخل والأعناب والرمان ، وأجمل ما لا نعرف له نظيرا في قوله : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَان } فكذلك هنا ذكر ما نعرفه من المراكب كالخيل والبغال والحمير والإبل والسفن ، وأجمل الباقي في قوله : { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
( ويخلق ما لا تعلمون ) . . يعقب بها على خلق الأنعام للأكل والحمل والجمال ، وخلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة . . ليظل المجال مفتوحا في التصور البشري لتقبل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة ، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة ، وخارج حدود الزمان الذي يظلهم . فوراء الموجود في كل مكان وزمان صور أخرى ، يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم ، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد أو حين تكشف فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها والانتفاع بها . ولا يقولوا : إنما استخدم آباؤنا الأنعام والخيل والبغال والحمير فلا نستخدم سواها . وإنما نص القرآن على هذه الأصناف فلا نستخدم ما عداها ! .
إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلها ، ومقدرات الحياة كلها ومن ثم يهيء القرآن الأذهان والقلوب لاستقبال كل ما تتمخض عنه القدرة ، ويتمخض عنه العلم ، ويتمخض عنه المستقبل . استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعد لتلقي كل جديد في عجائب الخلق والعلم والحياة .
ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان . وستجد وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان . والقرآن يهييء لها القلوب والأذهان ، بلا جمود ولا تحجر ( ويخلق ما لا تعلمون ) . .
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده ، يمتن به عليهم ، وهو : الخيل والبغال والحمير ، التي جعلها للركوب والزينة بها ، وذلك أكبر المقاصد منها ، ولما فَصَلها من الأنعام وأفردها بالذكر استدل من استدل من العلماء - ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل - بذلك على ما ذهب إليه فيها ، كالإمام أبي حنيفة ، رحمه الله{[16323]} ومن وافقه من الفقهاء{[16324]} ؛ لأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير ، وهي حرام ، كما ثبتت به السنة النبوية ، وذهب إليه أكثر العلماء .
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أنبأنا هشام الدَّسْتُوَائي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن مولى نافع بن علقمة ، أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله : { وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فهذه للأكل ، { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } فهذه للركوب{[16325]} .
وكذا روي من طريق سعيد بن جُبَير وغيره ، عن ابن عباس ، بمثله . وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة{[16326]} رضي الله عنه{[16327]} أيضا ، واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده :
حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب ، عن أبيه ، عن جده ، عن خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل ، والبغال ، والحمير .
وأخرجه أبو داود والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث صالح بن يحيى بن المقدام - - وفيه كلام - به{[16328]} .
ورواه أحمد أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال :
حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا سليمان بن سليم ، عن صالح بن يحيى بن المقدام ، عن جده المقدام بن معد يكرب قال : غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة ، فقَرِم{[16329]} أصحابنا إلى اللحم ، فسألوني رَمَكة ، فدفعتها إليهم فَحبَلوها وقلت{[16330]} : مكانكم حتى آتي خالدًا فأسأله . فأتيته فسألته ، فقال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر ، فأسرع الناس في حظائر يهود ، فأمرني أن أنادي : " الصلاة جامعة ، ولا يدخل الجنة إلا مسلم " ثم قال : " أيها الناس ، إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود ، ألا لا تحل{[16331]} أموال المعاهدين إلا بحقها ، وحرام عليكم لحوم الأتن{[16332]} الأهلية وخيلها وبغالها ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير " {[16333]} .
والرمكة : هي الحِجْرَة . وقوله : حَبَلوها ، أي : أوثقوها في الحبل ليذبحوها . والحظائر : البساتين القريبة من العمران .
وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر ، والله أعلم .
فلو صحّ هذا الحديث لكان نصًا في تحريم لحوم الخيل ، ولكن لا يقاوِمُ ما ثبت في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل{[16334]} .
ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين ، كل منهما على شرط مسلم ، عن جابر قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ، ولم ينهنا عن الخيل{[16335]} .
وفي صحيح مسلم ، عن أسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما ، قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة{[16336]} .
فهذه أدل وأقوى وأثبت ، وإلى ذلك صار جمهورُ العلماء : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم ، وأكثر السلف والخلف ، والله أعلم .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشية ، فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم ، عليهما السلام .
وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته : أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب ، والله{[16337]} أعلم .
فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ، ومنها البغال . وقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة ، فكان يركبها ، مع أنه قد نَهَى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل .
قال الإمام أحمد : حدثني محمد بن عبيد ، حدثنا عمر من آل حذيفة ، عن الشعبي ، عن دحْية الكلبي قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أحمل لك حمارًا على فرس ، فتنتج لك بغلا فتركبها ؟ قال : " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " {[16338]} .
{ والخيل والبغال والحمير } عطف على { الأنعام } . { لتركبوها وزينة } أي لتركبوها وتتزينوا بها زينة . وقيل هي معطوفة على محل { لتركبوها } وتغيير النظم لأن الزينة بفعل الخالق والركوب ليس بفعله ، ولأن المقصود من خلقها الركوب وأما التزين بها فحاصل بالعرض . وقرئ بغير واو وعلى هذا يحتمل أن يكون علة { لتركبوها } أو مصدرا في موضع الحال من أحد الضميرين أي : متزينين أو متزينا بها ، واستدل به على حرمة لحومها ولا دليل فيه إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا ، ويدل على أن الآية مكية وعامة المفسرين والمحدثين على أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر . { ويخلق ما لا تعلمون } لما فصل الحيوانات التي يحتاج إليها غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري أجمل غيرها ، ويجوز أن يكون إخبارا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به ، وأن يراد به ما خلق في الجنة والنار مما لم يخطر على قلب بشر .
وقوله تعالى : { والخيل } عطف أي وخلق الخيل ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «والخيلُ والبغالُ والحميرُ » بالرفع في كلها ، وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في المشية ، أفهمه أعرابي لأبي عمرو بن العلاء ، وقوله { وزينة } نصب بإضمار فعل ، قيل تقديره وجعلنا زينة ، وقرأ ابن عياض «لتركبوها زينة » دون واو ، والنصب حينئذ على الحال من الهاء في { تركبوها }{[7255]} وقوله { ويخلق ما لا تعلمون } عبرة منصوبة على العموم ، أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر ، بل ما يخفى عنه أثر مما يعلمه ، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان منها في البر أربعمائة ، وبثها بأعيانها في البحر ، وزاد في مائتين ليست في البر .
قال القاضي أبو محمد :وكل من خصص في تفسير هذه الآية شيئاً ، كقول من قال : سوس الثياب وغير ذلك فإنما هو على جهة المثال ، لا أن ما ذكره هو المقصود في نفسه . قال الطبري { ما لا تعلمون } هو ما أعد الله في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر ، واحتج بهذه الآية مالك رحمه الله ومن ذهب مذهبه في كراهة لحوم الخيل والبغال والحمير أو تحريمها بحسب الاختلاف في ذلك ، وذكر الطبري عن ابن عباس ، قال ابن جبير : سئل ابن عباس عن لحوم الخيل والبغال والحمير ، فكرهها فاحتج بهذه الآية ، وقال : جعل الله الأنعام للأكل ، وهذه للركوب ، وكان الحكم بن عتبة يقول : الخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله ويحتج بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الحجة غير لازمة عند جماعة من العلماء ، قالوا إنما ذكر الله عز وجل عظم منافع الأنعام ، وذكر عظم منافع هذه وأهم ما فيها ، وليس يقضي ذلك بأن ما ذكر لهذه لا تدخل هذه فيها ، قال الطبري وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل ، دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، ولحوم الخيل عند كثير من العلماء حلال ، وفي جواز أكلها حديث أسماء بنت أبي بكر ، وحديث جابر بن عبد الله : كنا نأكل الخيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم{[7256]} .
قال القاضي أبو محمد : والبغال والحمير مكروهة عند الجمهور ، وهو تحقيق مذهب مالك ، ومن حجة من ألحق الخيل بالبغال والحمير في الكراهية القياس ، إذ قد تشابهت وفارقت الأنعام في أنها لا تجتر ، وأنها ذوات حوافر ، وأنها لا أكراش لها ، وأنها متداخلة في النسل ، إذ البغال بين الحمير والخيل فهذا من جهة النظر ، وأما من جهة الشرع بأن قرنت في هذه الآية وأسقطت فيها الزكاة .
{ والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة }
والخيل معطوف على { والأنعام خلقها } [ سورة النحل : 5 ] . فالتقدير : وخلق الخيل .
والقول في مناط الاستدلال وما بعده من الامتنان والعبرة في كلّ كالقول فيما تقدّم من قوله تعالى : و{ الأنعام خلقها لكم فيها دفء } الآيةً .
والفعل المحذوف يتعلق به { لتركبوها وزينة } ، أي خلقها الله لتكون مراكب للبشر ، ولولا ذلك لم تكن في وجودها فائدة لعمران العالم .
وعطف { وزينة } بالنصب عطفاً على شبه الجملة في { لتركبوها } ، فجُنّب قرنه بلام التعليل من أجل توفر شرط انتصابه على المفعولية لأجله ، لأن فاعله وفاعلَ عامله واحد ، فإن عامله فعلُ { خلق } في قوله تعالى : { والأنعام خلقها } إلى قوله تعالى : { والخيل والبغال } فذلك كله مفعول به لفعل { خلقها } .
ولا مرية في أن فاعل جَعْلها زينة هو الله تعالى ، لأن المقصود أنها في ذاتها زينة ، أي خلقها تزين الأرض ، أو زين بها الأرض ، كقوله تعالى : { ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح } [ سورة الملك : 5 ] .
وهذا النصب أوضح دليل على أن المفعول لأجله منصوب على تقدير لام التعليل .
وهذا واقع موقع الامتنان فكان مقتصراً على ما ينتفع به المخاطبون الأولون في عادتهم .
وقد اقتصر على منّة الركوب على الخيل والبغال والحمير والزينة ، ولم يذكر الحمل عليها كما قال في شأن الأنعام { وتحمل أثقالكم } [ سورة النحل : 7 ] ، لأنهم لم تكن من عادتهم الحمل على الخيل والبغال والحمير ، فإن الخيل كانت تركب للغزو وللصيد ، والبغال تركب للمشي والغزو . والحمير تركب للتنقل في القرى وشبهها .
وفي حديث البخاري عن ابن عباس في حجّة الوداع أنه قال جئت على حمار أتان ورسول الله يصلي بالناس الحديث .
وكان أبو سَيارة يجيز بالناس من عرفة في الجاهلية على حمار وقال فيه :
خلوا السبيل عن أبي سياره *** وعن مواليه بني فزاره
حتى يجيز راكباً حماره *** مستقبل الكعبة يدعو جاره
فلا يتعلق الامتنان بنعمة غير مستعملة عند المنعم عليهم ، وإن كان الشيء المنعم به قد تكون له منافع لا يقصدها المخاطبون مثل الحَرث بالإبل والخيل والبغال والحمير ، وهو مما يفعله المسلمون ولا يعرف منكر عليهم .
أو منافع لم يتفطن لها المخاطبون مثل ما ظهر من منافع الأدوية في الحيوان مما لم يكن معروفاً للناس من قبلُ ، فيدخل كل ذلك في عموم قوله تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } في سورة البقرة ( 29 ) ، فإنه عموم في الذوات يستلزم عموم الأحوال عدا ما خصّصه الدليل مما في آية الأنعام ( 145 ) { قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه } الآية .
وبهذا يعلم أن لا دليل في هذه الآية على تحريم أكل لحوم الخيل والبغال والحمير لأن أكلها نادر الخطور بالبال لقلّته ، وكيف وقد أكل المسلمون لحوم الحمر في غزوة خيبر بدون أن يستأذنوا النبي كانوا في حالة اضطرار ، وآية سورة النحل يومئذٍ مقروءة منذ سنين كثيرة فلم ينكر عليهم أحد ولا أنكره النبي .
كما جاء في الصحيح : أنه أتي فقيل له : أُكِلت الحمر ، فسكت ، ثم أتي فقيل : أكلت الحمر فسكت . ثم أتي فقيل : أفنيت الحمر فنادى منادي النبي أن الله ورسوله ينهيانكم عن أكل لحوم الحمر . فأهرقت القدور .
وأن الخيل والبغال والحمير سواء في أن الآية لا تشمل حكم أكلها . فالمصير في جواز أكلها ومنعه إلى أدلّة أخرى .
فأما الخيل والبغال ففي جواز أكلها خلاف قوي بين أهل العلم ، وجمهورهم أباحوا أكلها . وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والظاهري ، وروي عن ابن مسعود وأسماء بنت أبي بكر وعطاء والزهري والنخعي وابن جبير .
وقال مالك وأبو حنيفة : يحرم أكل لحوم الخيل ، وروي عن ابن عباس . واحتجّ بقوله تعالى : { لتركبوها وزينة } ، ولو كانت مباحة الأكل لامتنّ بأكلها كما امتنّ في الأنعام بقوله : { ومنها تأكلون } [ سورة النحل : 5 ] . وهو دليل لا ينهض بمفرده . فيجاب عنه بما قرّرنا من جريان الكلام على مراعاة عادة المخاطبين به . وقد ثبتت أحاديث كثيرة أن المسلمين أكلوا لحوم الخيل في زمن رسول الله وعلمه . ولكنه كان نادراً في عادتهم .
وعن مالك رضي الله عنه رواية بكراهة لحوم الخيل واختار ذلك القرطبي .
وأما الحمير فقد ثبت أكل المسلمين لحومها يوم خيبر . ثم نُهوا عن ذلك كما في الحديث المتقدم . واختلف في محمل ذلك ، فحملهُ الجمهور على التحريم لذات الحمير . وحملهُ بعضهم على تأويل أنها كانت حمولتهم يومئذٍ فلو استرسلوا على أكلها لانقطعوا بذلك المكان فآبوا رجالاً ولم يستطيعوا حمل أمتعتهم . وهذا رأي فريق من السلف . وأخذ فريق من السّلف بظاهر النهي فقالوا بتحريم أكل لحوم الحمر الإنسية لأنها مورد النهي وأبقوا الوحشية على الإباحة الأصلية . وهو قول جمهور الأيمة مالك وأبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهم وغيرهم .
وفي هذا إثبات حكم تعبدي في التفرقة وهو مما لا ينبغي المصير إليه في الاجتهاد إلا بنصّ لا يقبل التأويل كما بيّناه في كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية .
على أنه لا يعرف في الشريعة أن يحرّم صنف إنسي لنوع من الحيوان دون وحشيه .
وأما البغال فالجمهور على تحريمها . فأما من قال بِحرمة أكل الخيل فلأن البغال صنف مركّب من نوين محرمين ، فتعين أن يكون أكله حراماً . ومن قال بإباحة أكل الخيل فلتغليب تحريم أحد النوعين المركب منهما وهو الحمير على تحليل النوع الآخر وهو الخيل . وعن عطاء أنه رآها حلالاً .
والخيل : اسم جمع لا واحد له من لفظه على الأصح . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { والخيل المسومة } في سورة آل عمران ( 14 ) .
{ والبغال } : جمع بَغل . وهو اسم للذكر والأنثى من نوععٍ أمّه من الخيل وأبوه من الحمير .
وهو من الأنواع النادرة والمتولدة من نوعين . وعكسه البرذون ، ومن خصائص البغال عُقم أنثاها بحيث لا تلد .
و { الحمير } : جمع تكسير حمارٍ وقد يجمع على أحمرة وعلى حُمُر . وهو غالب للذكر من النوع ، وأما الأنثى فأتان . وقد روعي في الجمع التغليب .
اعتراض في آخر الكلام أو في وسطه على ما سيأتي .
و { يخلق } مضارع مراد به زمن الحال لا الاستقبال ، أي هو الآن يخلق ما لا تعلمون أيها الناس مما هو مخلوق لنفعهم وهم لا يشعرون به ، فكما خلق لهم الأنعام والكراع خلق لهم ويخلق لهم خلائق أخرى لا يعلمونها الآن ، فيدخل في ذلك ما هو غير معهود أو غير معلوم للمخاطبين وهو معلوم عند أمم أخرى كالفيل عند الحبشة والهنود ، وما هو غير معلوم لأحد ثم يعلمه الناس من بعد مثل دواب الجهات القطبية كالفقمة والدُب الأبيض ، ودواب القارة الأمريكية التي كانت مجهولة للناس في وقت نزول القرآن ، فيكون المضارع مستعملاً في الحال للتجديد ، أي هو خالق ويخلق .
ويدخل فيه كما قيل ما يخلقه الله من المخلوقات في الجنة ، غير أن ذلك خاصّ بالمؤمنين ، فالظاهر أنه غير مقصود من سياق الامتنان العام للناس المتوسّل به إلى إقامة الحجّة على كافري النعمة .
فالذي يظهر لي أن هذه الآية من معجزات القرآن الغيبية العلمية ، وأنها إيماء إلى أن الله سيلهم البشر اختراع مراكب هي أجدى عليهم من الخيل والبغال والحمير ، وتلك العجلات التي يركبها الواحد ويحركها برجليه وتسمى ( بسكلات ) ، وأرتال السكك الحديدية ، والسيارات المسيّرة بمصفّى النفط وتسمى ( أطوموبيل ) ، ثم الطائرات التي تسير بالنفط المصفّى في الهواء . فكل هذه مخلوقات نشأت في عصور متتابعة لم يكن يعلمها من كانوا قبل عصر وجود كل منها .
وإلهام الله الناس لاختراعها هو ملحق بخلق الله ، فالله هو الذي ألهم المخترعين من البشر بما فطرهم عليه من الذكاء والعلم وبما تدرجوا في سلّم الحضارة واقتباس بعضهم من بعض إلى اختراعها ، فهي بذلك مخلوقة لله تعالى لأن الكلّ من نعمته .