174- هذا وقد كان من العالمِين بما أنزل الله فريقٌ يُخفى بَعْضَ الوحي لقاء عَرَضٍ من أعراض الدنيا ، فإن اليهود كتموا كثيراً مما جاء في التوراة من نعت الرسول خشيةَ أن يُسْلِم أهل ملتهم فيزول أمرهم وتضيع مكاسبهم ولذيذ مطاعمهم ، وإن مطاعمهم من هذا السبيل لهي كالنار يأكلونها ، لأنها ستقودهم إلى النار ، وسيعرض الله عنهم يوم القيامة ، ولا يطهرهم من دنسهم ، وأمامهم عذاب شديد موجع .
قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } . نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم ، كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمآكل ، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم ، ولما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلهم وزوال رياستهم ، فعمدوا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم ، فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفاً لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته فلم يتبعوه ، فأنزل الله تعالى ( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ) يعني صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته .
قوله تعالى : { ويشترون به } . أي بالمكتوم .
قوله تعالى : { ثمناً قليلاً } . أي عوضاً يسيراً يعني المآكل التي يصيبونها من سفلتهم .
قوله تعالى : { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } . يعني إلا ما يؤديهم إلى النار وهو الرشوة والحرام وثمن الدين ، فلما كان يفضي ذلك بهم إلى النار فكأنهم أكلوا النار وقيل معناه أنه يصير ناراً في بطونهم .
قوله تعالى : { ولا يكلمهم الله يوم القيامة } . أي لا يكلمهم بالرحمة وبما يسرهم إنما يكلمهم بالتوبيخ . وقيل : أراد به أن يكون عليهم غضبان ، كما يقال : فلان لا يكلم فلاناً إذا كان عليه غضبان . { ولا يزكيهم } . أي لا يطهرهم من دنس الذنوب . { ولهم عذاب أليم } .
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }
هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله ، من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله ، أن يبينوه للناس ولا يكتموه ، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي ، ونبذ أمر الله ، فأولئك : { مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ } لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه ، إنما حصل لهم بأقبح المكاسب ، وأعظم المحرمات ، فكان جزاؤهم من جنس عملهم ، { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم ، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار ، { وَلَا يُزَكِّيهِمْ } أي : لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة ، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها ، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله ، والاهتداء به ، والدعوة إليه .
ولقد جادل اليهود جدالا كثيرا حول ما أحله القرآن وما حرمه . فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) بينما كانت هذه مباحة للمسلمين . ولعلهم جادلوا في هذا الحل . وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة . . وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله .
ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب :
( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ، ويشترون به ثمنا قليلا ، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم . أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة . فما أصبرهم على النار ! ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق ، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) .
والتنديد بكتمان ما أنزل الله من الكتاب كان المقصود به أولا أهل الكتاب . ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة ، يكتمون الحق الذي يعلمونه ، ويشترون به ثمنا قليلا . إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق ، والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان ، ويخشون عليها من البيان . وإما هو الدنيا كلها - وهي ثمن قليل حين تقاس إلى ما يخسرونه من رضى الله ، ومن ثواب الآخرة .
وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل ، يقول القرآن عن هؤلاء :
( ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) . .
تنسيقا للمشهد في السياق . وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم ! وكأنما هم يأكلون النار ! وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة ، فإذا هي لهم لباس ، وإذا هي لهم طعام !
وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة ، ويدعهم في مهانة وازدراء والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله :
( لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ) . .
لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم . . لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب}: يعني التوراة أنزلت في رءوس اليهود، منهم: كعب بن الأشرف، وابن صوريا، كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة.
{ويشترون به ثمنا قليلا}: يعني عرضا من الدنيا، ويختارون على الكفر بمحمد ثمنا قليلا، يعني عرضا من الدنيا يسيرا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل كل عام، ولو تابعوا محمدا لحبست عنهم تلك المآكل.
فقال الله تعالى ذكره: {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم}، يقول: ولا يزكي لهم أعمالهم.
{ولهم عذاب أليم}: يعني وجيع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {إنّ الّذِينَ يَكْتُمُون مَا أنْزَلَ الله مِنَ الكِتابِ} أحبار اليهود الذين كتموا الناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة بِرشا كانوا أعطوها على ذلك...
{ويَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً} يعني: يبتاعون به. والهاء التي في «به» من ذكر الكتمان، فمعناه: ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوّته ثمنا قليلاً. وذلك أن الذي كانوا يُعطون على تحريفهم كتاب الله وتأويلهموه على غير وجهه وكتمانهم الحق في ذلك، اليسيرُ من عرض الدنيا...:
{أُولَئِكَ ما يأكُلُونَ فِي بُطونِهِمْ إلاّ النارَ وَلا يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ وَلا يُزَكّيهِمْ وَلهُم عَذَابٌ ألِيم}: أُولَئِكَ هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرشوة يعُطوْنها، فيحرّفون لذلك آيات الله ويغيرون معانيها. ما يأكُلُونَ فِي بُطُونِهِم بأكلهم ما أكلوا من الرشا على ذلك والجعالة وما أخذوا عليه من الأجر إلاّ النّارِ، يعني إلا ما يوردهم النار ويصليهموها، كما قال تعالى ذكره: {إنّ الّذِينَ يَأكُلُونَ أمْوَالَ الَيتامَى ظُلْما إنّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نارا وَسَيَصْلوْنَ سَعِيرا} معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر النار وفهم السامعين معنى الكلام عن ذكر ما يوردهم أو يدخلهم...
فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال: ما يأكلون في بطونهم؟ قيل: قد تقول العرب جعت في غير بطني، وشبعت في غير بطني، فقيل في بطونهم لذلك كما يقال: فعل فلان هذا نفسه...
{وَلا يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ القِيامَةِ}: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون، فأما بما يسوؤهم ويكرهون فإنه سيكلمهم لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم إذا قالوا:"رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُون" قال: اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُون الآيتين.
{وَلا يُزَكّيهِمْ}: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم،
{وَلهُمْ عَذَابٌ ألِيم}: يعني موجع...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل هذا وجهين: يحتمل: أن كتموا ما في كتبهم من بعث محمد صلى الله عليه [وعلى آله] وصفته، ويحتمل ما كتموا من الأحكام والشرائع من نحو الحدود والرجم وغير ذلك من الأحكام...
وقوله: {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} يحتمل وجهين:
يحتمل {ما يأكلون} في دنياهم إلا أوجب ذلك لهم في الآخرة أكل النار؛
ويحتمل (ما يأكلون) في دنياهم إلا أكلوا في الآخرة عين النار...
وقيل: (ولا يكلمهم) غضبا عليهم؛ يقال: فلان لا يكلم فلانا لما غضب عليه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنَاً قَلِيلاً}... سماه قليلاً لانقطاع مدته وسوء عاقبته. وقيل: لأن ما كانوا يأخذون من الرُشا كان قليلاً...
{وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} فيه قولان:
أحدهما: يعني لا يصلح أعمالهم الخبيثة.
ومن لا يثني الله عليه فهو معذب.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله:"ويشترون به ثمنا قليلا" ليس المراد به أنهم إذا اشتروا به ثمنا كثيرا كان جائزا، وإنما المقصد كل ما يأخذونه في مقابلته من حطام الدنيا، فهو قليل، كما قال "ويقتلون النبيين بغير حق "وكما قال "ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به" وإنما أراد أن قتل النبيين لا يكون إلا بغير حق، وأن من ادعى مع الله إلها آخر لا يقوم له عليه برهان.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك لسبب دنيا يصيبها...
المسألة الثالثة: اختلفوا في كيفية الكتمان، فالمروى عن ابن عباس: أنهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل، وعند المتكلمين هذا ممتنع، لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما، بل كانوا يكتمون التأويل، لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد عليه السلام، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة، ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمد عليه السلام، فهذا هو المراد من الكتمان، فيصير المعنى: إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب...
المسألة الرابعة: من الناس من قال: كان غرضهم من ذلك الكتمان أخذ الأموال من عوامهم وأتباعهم، وقال آخرون: بل كان غرضهم من ذلك أخذهم الأموال من كبرائهم وأغنيائهم الذين كانوا ناصرين لذلك المذهب، وليس في الظاهر أكثر من اشترائهم بذلك الكتمان الثمن القليل، وليس فيه بيان من طمعوا فيه وأخذوا منه، فالكلام مجمل وإنما يتوجه الطمع في ذلك إلى من يجتمع إليه الجهل، وقلة المعرفة المتمكن من المال والشح على المألوف في الدين فينزل عليه ما يلتمس منه فهذا هو معلوم بالعادة...
{ولهم عذاب أليم}... واعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل:...
المسألة الأولى: أن علماء الأصول قالوا: العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة فقوله: {ولا يكلمهم الله ولا يزكيهم} إشارة إلى الإهانة والاستخفاف، وقوله:
{ولهم عذاب أليم} إشارة إلى المضرة، وقدّم الإهانة على المضرة تنبيها على أن الإهانة أشق وأصعب...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
وقوله تعالى: {ما يأكلون في بطونهم إلا النار} فيه المجاز من وجوه:
أحدها: أن الأكل إنما يكون في الفم، فجعله في البطن دليل على أنه ضمن معنى يحشون في بطونهم". والتضمن هو الجمع في اللفظ بين مسماه الحقيقي والمجازي. أو يكون استعمل مجازا صرفا ولم يرد مسمى اللفظ. مع أن التضمين أيضا مجاز لأن اللفظ لم يوضع للمجموع، لكنه نوع خاص من المجاز.
ثانيها: أنه عبر بهذا المعنى عن غلظ طباعهم وبعدهم عن الآدمية وهنا شبههم للبهائم التي لا همة لها إلا في بطنها، وأنهم شهوة بلا عقل، عكس الملائكة عقل بلا شهوة.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
... ينبغي لأهل العلْمِ التنزُّه عن أخْذ شيء من المتعلِّمين على تعليم العلْم، بل يلتمسُونَ الأجر من اللَّه عزَّ وجلَّ، وقد قال تعالى لنبيِّه -عليه السلام -: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً...} [الأنعام: 90]، وفي سنن أبي دَاوُدَ، عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قال: "عَلَّمْتُ نَاساً مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ، وأهدى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْساً، فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلأسْأَلَنَّهُ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ أهدى إِلَيَّ قَوْساً مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقاً مِنْ نَارٍ فاقبلها، وَفِي روايةٍ: "فَقُلْتُ مَا ترى فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهُ؟ قَالَ: جَمْرَةٌ بَيْنَ كَتِفَيْكَ تَقَلَّدْتَهَا أَوْ تَعَلَّقْتَهَا، "انتهى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من الكتم ما يكون لقصد خير، فكم من كلمة حق أريد بها باطل! قيده بقوله: {ويشترون به ثمناً}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات متصلة بما قبلها على كلا الوجهين السابقين: فإذا كان الكلام لا يزال في محاجة اليهود وأمثالهم فالأمر ظاهر، وإذا قلنا إن الكلام قد دخل في سرد الأحكام، وتكون مقررة لحكم منها وهو ظاهر أيضا، فقد تقدم أن قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض} (البقرة: 168) تقرير لحكم في الأكل على خلاف ما عليه أهل الملل، وبينا ما كان عليه أهل الكتاب والمشركين في الأكل، ونقض القرآن لما وضعوه لأنفسهم من أوهاق الأحكام وإباحته الطيبات للناس بشرط أن يشكروه عليها، وعلى هذا تكون هذه الآيات جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرم الله ويشرعون لهم ما لم يشرعه، من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع ما لم يأذن به الله وإظهار خلافه، سواء [أكان] ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، [أم] الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك،
قال تعالى: {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا} (الأنعام: 91) وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم ويكتم بعضه لمنفعته، لا لإظهار الحق وتأييده، وهذا هو ما عبر عنه بقوله: {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا} أي الذين يخفون شيئا مما أنزل الله من كتابه فلا يبلغونه للناس مهما يكن موضوعه، أو يخفون معناه عنهم بتأويله أو تحريفه أو وضع غيره في موضعه برأيهم واجتهادهم، ويستبدلون بما يكتمونه ثمنا قليلا من متاع الدنيا الفاني كالرشوة والجعل على الفتاوى الباطلة أو قضاء الحاجات عند الله تعالى وغير ذلك من المنافع المؤقتة إذ اتخذوا الدين تجارة. والثمن القليل منه ما قاله المفسر من استفادة الرؤساء من المرؤوسين ومنه عكسه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد جادل اليهود جدالا كثيرا حول ما أحله القرآن وما حرمه. فقد كانت هناك محرمات على اليهود خاصة وردت في سورة أخرى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} بينما كانت هذه مباحة للمسلمين. ولعلهم جادلوا في هذا الحل. وكذلك روي أنهم جادلوا في المحرمات المذكورة هنا مع أنها محرمة عليهم في التوراة... وكان الهدف دائما هو التشكيك في صحة الأوامر القرآنية وصدق الوحي بها من الله. ومن ثم نجد هنا حملة قوية على الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب:...
وفي جو الطعام ما حرم منه وما حلل، يقول القرآن عن هؤلاء: (ما يأكلون في بطونهم إلا النار)... تنسيقا للمشهد في السياق. وكأنما هذا الذي يأكلونه من ثمن الكتمان والبهتان نار في بطونهم! وكأنما هم يأكلون النار! وإنها لحقيقة حين يصيرون إلى النار في الآخرة، فإذا هي لهم لباس، وإذا هي لهم طعام! وجزاء ما كتموا من آيات الله أن يهملهم الله يوم القيامة، ويدعهم في مهانة وازدراء
والتعبير القرآني عن هذا الإهمال وهذه المهانة وهذا الازدراء هو قوله: {لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم}.. لتجسيم الإهمال في صورة قريبة لحس البشر وإدراكهم... لا كلام ولا اهتمام ولا تطهير ولا غفران...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
حكم الله تعالى عليهم بأربعة أحكام:
أولها أنهم ما يأكلون من الثمن الذي أخذوه إلا النار تلهب بطونهم، وقوله {ما يأكلون في بطونهم إلا النار} مجاز فيه عبر عن حالهم بالمآل الذين يؤولون إليه، فعبر سبحانه عن حالهم في الثمن الذي أخذوه شرها، طمعا وإيثارا للباطل، وتركا للحق بأنهم أكلوا نارا، نزلت في بطونهم وألهبتها ومزقت لحومهم، واختار التعبير بكون النار في بطونهم، لأن المال الباطل يطلب لأجل شهوة البطن وملذاتها والتعبير عن الجزء وإرادة الكل إذ المراد أن النار تعمهم، وتشمل كل أجزائهم، ولكن عبر بالجزء، لأن ذلك الجزء له مزيد من الاختصاص، لأن شهوتهم وشرههم هو الذي جعلهم يختارون ذلك الثمن الحقير وإن كان كبيرا فإن الذي تركوه من الحق أكبر وأعظم وهو الحق الذي كتموه...
والعقاب الثاني: أنهم ينالهم غضب الله تعالى، وغضب الله الواحد القهار فيه إيلام لأهل الضمائر وإنذار شديد لأهل الشر، لأنه غضب المقتص الجبار الذي لا يفلت منه أثيم، ولا تنفع عنده شفاعة الشافعين، ولا يغني أمامه سبحانه وتعالى شيء في الوجود مهما يكن ومهما تكن صلته، {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو... 67} [الزخرف].
والعقاب الثالث: أن الله تعالى لا يزكيهم أي لا يطهرهم من ذنوبهم فإنهم في كون الجزاء، لا يخفف عنهم ولا يرجعون، يتمنون أن يعودوا إلى الدنيا، ولكن لا يعودون، ولا يخرجون من النار التي تحيط بهم.
والعقاب الرابع: أن لهم عذابا أليما أي مؤلما، نتيجة لغضب الله تعالى، وعبر سبحانه وتعالى عن غضبه عليهم بأنه لا يكلمهم، وكأنه يقول لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون.
وإن الآية كما يقولون نزلت في اليهود أو النصارى كذلك، فإن اللفظ أعم وأشمل فهو يشمل اليهود الذين كتموا الحق غرورا واستعلاء وكبرياء وطلبا للدنيا وما فيها من سيطرة وسلطة ويشمل كل من يكتم الحق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشمل الذين تقاصروا عن الدعوة إلى الإسلام، وهم عليها قادرون، وتركوها استرخاء، وتقاصروا في الهمم وتركا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويشمل الوصف الذين لا يدركون ما أحل الله تعالى وما حرم، تهاونا وكسلا، أو لينالوا مأربا من مآرب الدنيا، وهو الثمن البخس الذي تركوا الواجب لأجله. ويشمل الذين تركوا الأمر المعروف والنهي عن المنكر تخاذلا عن الحق، ورضا بالباطل، ويشمل الذين يمالئون الحكام، ويخطون على هواهم، ويقررون من الأحكام ما يخالف النقل والعقل، كأولئك الذين يستبيحون الربا، والذين يدعون إلى قتل النسل، لإرضاء الحاكمين وتقربا وازدلافا إليهم، ويشمل الذين يفتون الناس على حسب أهوائهم بأجر معلوم، أو رجاء معونة عند الحكام الذين ليس للدين حريجة في قلوبهم، وكل أولئك نراه في عصرنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وقد كان لهذه الآيات بما تضمنته من وعيد وإنذار، أبلغ أثر في دفع علماء الإسلام من السلف والخلف إلى نشر العلم وروايته، مهما كلف من المشاق والمتاعب، وإلى الجهر بالحق ونصرته مهما اقتضى من التضحيات والمكاره، وبآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَنَا مِنَ البَيَّنَاتِ وَالهُدى}. استشهد عثمان بن عفان عندما قال: (لأحدثنكم حديثا لولا آية من كتاب الله عز وجل ما حدثتكموه) وإليها استند أبو هريرة إذ قال: (إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ووالله لولا آية في كتاب الله ما حدثت شيئا)...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
ويكون {الذين يكتمون} يشمل اليهود، والنصارى، وغيرهما؛ وهذا أرجح لعمومه...
- وجوب نشر العلم؛ لقوله تعالى: {إن الذين يكتمون}؛ ويتأكد وجوب نشره إذا دعت الحاجة إليه بالسؤال عنه؛ إما بلسان الحال؛ وإما بلسان المقال...
- أن هذا الوعيد على من جمع بين الأمرين: {يكتمون}، و {يشترون}؛ فأما من كتم بدون اشتراء؛ أو اشترى بدون كتم فإن الحكم فيه يختلف؛ إذا كتم بدون اشتراء فقد قال الله سبحانه وتعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}
[البقرة: 159]؛ وهذا يدل على أن كتمان ما أنزل الله من كبائر الذنوب؛ ولكن لا يستحق ما ذُكر في الآية التي نحن بصدد تفسيرها؛ وأما الذين يشترون بما أنزل الله من الكتاب ثمناً قليلاً بدون كتمان فقد قال الله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 15، 16].
فالناس في كتمان ما أنزل الله ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يكتم العلم بخلاً به، ومنعاً لانتفاع الناس به.
والقسم الثاني: من يكتم العلم، ولا يبينه إلا لغرض دنيوي من مال، أو جاه، أو رئاسة، أو غير ذلك.
والقسم الثالث: من يكتم العلم بخلاً به، ولا يبينه إلا لغرض دنيوي؛ فيجمع بين الأمرين؛ وهذا شر الأقسام؛ وهو المذكور في الآية التي نحن بصدد تفسيرها...
أما من أظهر العلم لله، وتعلم لله، فهذا هو خير الأقسام؛ وهو القسم الرابع الذي يبين بلسانه، وحاله، وقلمه، ما أنزل الله عز وجل؛ والذي يكتم خوفاً إذا كان سيبين في موضع آخر فلا بأس؛ أما الذي يكتم مطلقاً فهذا لا يجوز؛ فيجب أن يبين ولو قُتل إذا كان يتوقف بيان الحق على ذلك، كما جرى لبعض أهل السنة الذين صبروا على القتل في بيانها لتعينه عليهم...
- أن يوم القيامة يُزَكى فيه الإنسان؛ وذلك بالثناء القولي، والفعلي؛
فإن الله يقول لعبده المؤمن حين يقرره بذنوبه: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم؛ وأما الفعلي فإن علامة الثناء أنه يعطى كتابه بيمينه، ويَشهد الناسُ كلهم على أنه من المؤمنين؛ وهذه تزكية بلا شك...
- ومنها: غلظ عقوبة هؤلاء بأن الله تعالى لا يكلمهم يوم القيامة، ولا يزكيهم؛ والمراد كلام الرضا؛ وأما كلام الغضب فإن الله تعالى يكلم أهل النار، كما قال تعالى: {اخسئوا فيها ولا تكلمون}...