95- وإن الجهاد مع هذا الاحتراس فضله عظيم جداً ، فلا يستوي الذين يقعدون عن الجهاد في منازلهم والذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم ، فقد جعل اللَّه للمجاهدين درجة رفيعة فوق الذين قعدوا إلا إذا كان القاعدون من ذوى الأعذار التي تمنعهم من الخروج للقتال ، فإن عذرهم يرفع عنهم الملامة ومع أن المجاهدين لهم فضل ودرجة خاصة بهم ، فقد وعد اللَّه الفريقين المنزلة الحسنى والعاقبة الطيبة .
قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } الآية .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، ثنا عبد العزيز بن عبد الله ، ثنا إبراهيم بن سعد الزهري ، حدثني صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه انه قال : رأيت مروان بن الحكم جالساً في المسجد ، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت رضي الله عنه أخبره ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ) قال : فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها علي ، فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان رجلاً أعمى ، فأنزل الله تعالى عليه ، وفخذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله .
قوله تعالى : { غير أولي الضرر } . فهذه الآية في الجهاد والحث عليه ، فقال : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } عن الجهاد { غير أولي الضرر } ، قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب الراء ، أي : إلا أولي الضرر ، وقرا الآخرون برفع الراء ، على نعت القاعدين ، يريد : لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر ، أي : غير أولي الزمانة ، والضعف في البدن ، والبصر .
قوله تعالى : { والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم } ، أي ليس المؤمنون القاعدون عن الجهاد من غير عذر ، والمؤمنون والمجاهدون سواء غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، لأن العذر أقعدهم .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا عبد الرحيم بن منيب ، أنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حميد الطويل عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ، فدنا من المدينة قال : إن في المدينة لأقواماً ما سرتم من مسير ، ولا قطعتم من واد ، إلا كانوا معكم فيه ، قالوا : يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال : نعم . وهم بالمدينة حبسهم العذر .
وروى القاسم عن ابن عباس قال : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } عن بدر ، والخارجون إلى بدر .
قوله تعالى : { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } . أي : فضيلة . وقيل : أراد بالقاعدين هاهنا أولي الضرر ، فضل الله المجاهدين عليهم درجةً لأن المجاهد باشر الجهاد مع النية ، وأولو الضرر كانت لهم نية ، ولكنهم لم يباشروا ، فنزلوا عنهم بدرجة .
قوله تعالى : { وكلاً وعد الله الحسنى } يعني الجنة ، بإيمانهم . وقال مقاتل : يعني المجاهد والقاعد المعذور .
قوله تعالى : { وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً } ، يعني : على القاعدين من غير عذر .
{ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
أي : لا يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد ولم يقاتل أعداء الله ، ففيه الحث على الخروج للجهاد ، والترغيب في ذلك ، والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر .
وأما أهل الضرر كالمريض والأعمى والأعرج والذي لا يجد ما يتجهز به ، فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر ، فمن كان من أولي الضرر راضيًا بقعوده لا ينوي الخروج في سبيل الله لولا [ وجود ] المانع ، ولا يُحَدِّث نفسه بذلك ، فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر .
ومن كان عازمًا على الخروج في سبيل الله لولا وجود المانع يتمنى ذلك ويُحَدِّث به نفسه ، فإنه بمنزلة من خرج للجهاد ، لأن النية الجازمة إذا اقترن بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل .
ثم صرَّح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة ، أي : الرفعة ، وهذا تفضيل على وجه الإجمال ، ثم صرح بذلك على وجه التفصيل ، ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم ، والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير ، واندفاع كل شر .
والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في " الصحيحين " أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله .
وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد ، نظير الذي في سورة الصف في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } إلى آخر السورة .
وتأمل حسن هذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها ، فإنه نفى التسوية أولا بين المجاهد وغيره ، ثم صرَّح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة ، ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات .
وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح ، أو النزول من حالة إلى ما دونها ، عند القدح والذم - أحسن لفظا وأوقع في النفس .
وكذلك إذا فضَّل تعالى شيئا على شيء ، وكل منهما له فضل ، احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين لئلا يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }
وكما [ قال تعالى ] في الآيات المذكورة في الصف في قوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } وكما في قوله تعالى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أي : ممن لم يكن كذلك .
ثم قال : { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وكما قال تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الأشخاص والطوائف والأعمال أن يتفطن لهذه النكتة .
وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل بعضها على بعض ، لئلا يتوهم أن المفضَّل قد حصل له الكمال . كما إذا قيل : النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك : وكل منهما كافر .
والقتل أشنع من الزنا ، وكل منهما معصية كبيرة ، حرمها الله ورسوله وزجر عنها .
( لا يستوي القاعدون من المؤمنين - غير أولي الضرر - والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) . .
ولا يتركها هكذا مبهمة ، بل يوضحها ويقررها ، ويبين طبيعة عدم الاستواء بين الفريقين :
( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) . .
وهذه الدرجة يمثلها رسول الله [ ص ] في مقامهم في الجنة .
في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله [ ص ] قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله . وما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . .
وقال الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن أبى عبيدة ، عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله [ ص ] : " من رمى بسهم فله أجره درجة " . . فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال :
" أما إنها ليست بعتبة أمك . ما بين الدرجتين مائة عام " .
وهذه المسافات التي يمثل بها رسول الله [ ص ] ، نحسب أننا اليوم أقدر على تصورها ؛ بعد الذي عرفناه من بعض أبعاد الكون . حتى إن الضوء ليصل من نجم إلى كوكب في مئات السنين الضوئية وقد كان الذين يسمعون رسول الله [ ص ] يصدقونه بما يقول . ولكنا - كما قلت - ربما كنا أقدر - فوق الإيمان - على تصور هذه الأبعاد بما عرفناه من بعض أبعاد الكون العجيب !
ثم يعود السياق بعد تقرير هذا الفارق في المستوى بين القاعدين من المؤمنين - غير اولي الضرر - والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، فيقرر أن الله وعد جميعهم الحسنى :
فللإيمان وزنه وقيمته على كل حال ؛ مع تفاضل أهله في الدرجات وفق تفاضلهم في النهوض بتكاليف الإيمان ؛ فيما يتعلق بالجهاد بالأموال والأنفس . . وهذا الاستدراك هو الذي نفهم منه أن هؤلاء القاعدين ليسوا هم المنافقين المبطئين . إنما هم طائفة أخرى صالحة في الصف المسلم ومخلصة ؛ ولكنها قصرت في هذا الجانب ؛ والقرآن يستحثها لتلافي التقصير ؛ والخير مرجو فيها ، والأمل قائم في أن تستجيب .
فإذا انتهى من هذا الاستدراك عاد لتقرير القاعدة الأولى ؛ مؤكدا لها ، متوسعا في عرضها ؛ ممعنا في الترغيب فيما وراءها من أجر عظيم :
وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما . درجات منه ومغفرة ورحمة . وكان الله غفورا رحيمًا .
وهذا التوكيد . . وهذه الوعود . . وهذا التمجيد للمجاهدين . . والتفضيل على القاعدين . . والتلويح بكل ما تهفو له نفس المؤمن من درجات الأجر العظيم . ومن مغفرة الله ورحمته للذنوب والتقصير . .
الحقيقة الأولى : هي أن هذه النصوص كانت تواجه حالات قائمة في الجماعة المسلمة كما أسلفنا وتعالجها . وهذا كفيل بأن يجعلنا أكثر إدراكا لطبيعة النفس البشرية ، ولطبيعة الجماعات البشرية ، وأنها مهما بلغت في مجموعها من التفوق في الإيمان والتربية فهي دائما في حاجة إلى علاج ما يطرأ عليها من الضعف والحرص والشح والتقصير في مواجهة التكاليف ، وبخاصة تكاليف الجهاد بالأموال والأنفس ، مع خلوص النفس لله ، وفي سبيل الله . وظهور هذه الخصائص البشرية - من الضعف والحرص والشح والتقصير - لا يدعو لليأس من النفس أو الجماعة ، ولا إلى نفض اليد منها ، وازدرائها ؛ طالما أن عناصر الإخلاص والجد والتعلق بالصف والرغبة في التعامل مع الله موفورة فيها . . ولكن ليس معنى هذا هو إقرار النفس أو الجماعة على ما بدا منها من الضعف والحرص والشح والتقصير ؛ والهتاف لها بالانبطاح في السفح ، باعتبار أن هذا كله جزء من " واقعها " ! بل لا بد لها من الهتاف لتنهض من السفح والحداء لتسير في المرتقى الصاعد ، إلى القمة السامقة . بكل ألوان الهتاف والحداء . . كما نرى هنا في المنهج الرباني الحكيم .
والحقيقة الثانية : هي قيمة الجهاد بالأموال والأنفس في ميزان الله واعتبارات هذا الدين وأصالة هذا العنصر في طبيعة هذه العقيدة وهذا النظام . لما يعلمه الله - سبحانه - من طبيعة الطريق ؛ وطبيعة البشر ؛ وطبيعة المعسكرات المعادية للإسلام في كل حين .
إن " الجهاد " ليس ملابسة طارئة من ملابسات تلك الفترة . إنما هو ضرورة مصاحبة لركب هذه الدعوة ! وليست المسألة - كما توهم بعض المخلصين - أن الإسلام نشأ في عصر اللإمبراطوريات ؛ فاندس في تصوراتأهله - اقتباسا مما حولهم - أنه لا بد لهم من قوة قاهرة لحفظ التوازن !
هذه المقررات تشهد - على الأقل - بقلة ملابسة طبيعة الإسلام الأصلية لنفوس هؤلاء القائلين بهذه التكهنات والظنون .
لو كان الجهاد ملابسة طارئة في حياة الأمة المسلمة ما استغرق كل هذه الفصول من صلب كتاب الله ؛ في مثل هذا الأسلوب ! ولما استغرق كذلك كل هذه الفصول من سنة رسول الله [ ص ] وفي مثل هذا الأسلوب . .
لو كان الجهاد ملابسة طارئة ما قال رسول الله [ ص ] تلك الكلمة الشاملة لكل مسلم إلى قيام الساعة : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق " .
ولئن كان [ ص ] رد في حالات فردية بعض المجاهدين ، لظروف عائلية لهم خاصة ، كالذي جاء في الصحيح أن رجلا قال للنبي [ ص ] أجاهد . قال : " لك أبوان ؟ " قال : نعم . قال ، " ففيهما جاهد " . . لئن كان ذلك فإنما هي حالة فردية لا تنقض القاعدة العامة ؛ وفرد واحد لا ينقض المجاهدين الكثيرين . ولعله [ ص ] على عادته في معرفة كل ظروف جنوده فردا فردا ، كان يعلم من حال هذا الرجل وأبويه ، ما جعله يوجهه هذا التوجيه . .
فلا يقولن أحد - بسبب ذلك - إنما كان الجهاد ملابسة طارئة بسبب ظروف . وقد تغيرت هذه الظروف !
وليس ذلك لأن الإسلام يجب أن يشهر سيفه ويمشي به في الطريق يقطع به الروؤس ! ولكن لأن واقع حياة الناس وطبيعة طريق الدعوة تلزمه أن يمسك بهذا السيف ويأخذ حذره في كل حين !
إن الله - سبحانه - يعلم أن هذا أمر تكرهه الملوك ! ويعلم أن لا بد لأصحاب السلطان أن يقاوموه . لأنه طريق غير طريقهم ، ومنهج غير منهجهم . ليس بالأمس فقط . ولكن اليوم وغدا . وفي كل أرض ، وفي كل جيل !
وإن الله - سبحانه - يعلم أن الشر متبجح ، ولا يمكن أن يكون منصفا . ولا يمكن أن يدع الخير ينمو - مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة ! - فإن مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر . ومجرد وجود الحق يحمل الخطر على الباطل . ولا بد أن يجنح الشر : إلى العدوان ؛ ولا بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق وخنقه بالقوة !
هذه جبلة ! وليست ملابسة وقتية . . .
هذه فطرة ! وليست حالة طارئة . . .
ومن ثم لا بد من الجهاد . . لابد منه في كل صورة . . ولا بد أن يبدأ في عالم الضمير . ثم يظهر فيشمل عالم الحقيقة والواقع والشهود . ولا بد من مواجهة الشر المسلح بالخير المسلح . ولا بد من لقاء الباطل المتترس بالعدد بالحق المتوشح بالعدة . . وإلا كان الأمر انتحارا . أو كان هزلا لا يليق بالمؤمنين !
ولا بد من بذل الأموال والأنفس . كما طلب الله من المؤمنين . وكما اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . . فأما أن يقدر لهم الغلب ؛ أو يقدر لهم الاستشهاد ؛ فذلك شأنه - سبحانه - وذلك قدره المصحوب بحكمته . . أما هم فلهم إحدى الحسنيين عند ربهم . . والناس كلهم يموتون عندما يحين الأجل . . والشهداء وحدهمهم الذين يستشهدون . .
هناك نقط ارتكاز أصيلة في هذه العقيدة ، وفي منهجها الواقعي ، وفي خط سيرها المرسوم ، وفي طبيعة هذا الخط وحتمياته الفطرية ، التي لا علاقة لها بتغير الظروف .
وهذه النقط لا يجوز أن تتميع في حس المؤمنين - تحت أي ظرف من الظروف . ومن هذه النقط . . الجهاد . . الذي يتحدث عنه الله سبحانه هذا الحديث . . الجهاد في سبيل الله وحده . وتحت رايته وحدها . . وهذا هو الجهاد الذي يسمى من يقتلون فيه " شهداء " ويتلقاهم الملأ الأعلى بالتكريم . .
{ لاّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَىَ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غيرُ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ } : لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله ، المؤثرون الدعة والخفض والقعود في منازلهم على مقاساة حزونة الأسفار والسير في الأرض ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله وقتالهم في طاعة الله ، إلا أهل العذر منهم بذهاب أبصارهم ، وغير ذلك من العلل التي لا سبيل لأهلها للضرر الذي بهم إلى قتالهم وجهادهم في سبيل الله والمجاهدون في سبيل الله ، ومنهاج دينه ، لتكون كلمة الله هي العليا ، المستفرغون طاقتهم في قتال أعداء الله وأعداء دينهم بأموالهم ، إنفاقا لها فيما أوهن كيد أعداء أهل الإيمان بالله وبأنفسهم ، مباشرة بها قتالهم ، بما تكون به كلمة الله العالية ، وكلمة الذين كفروا السافلة .
واختلفت القراء في قراءة قوله : { غيرَ أُولي الضّرَرِ }¹ فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة ومكة والشام : «غيرَ أُولي الضّرَرِ } نصبا ، بمعنى : إلا أولي الضرر . وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل العراق والكوفة والبصرة : { غيرُ أُولي الضّرَرِ } برفع «غيرُ » على مذهب النعت للقاعدين .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا : «غيرَ أُولي الضّرَرِ » بنصب غيرَ ، لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » نزل بعد قوله : { لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ } استثناء من قوله : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ } . ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا نصر بن عليّ الجهضمي ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ائْتُونِي بالكَتِفِ وَاللّوْحِ » ! فَكَتبَ : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ } وعمرو بن أمّ مكتوم خلف ظهره ، فقال : هل لي من رخصة يا رسول الله ؟ فنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو كبر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } جاء ابن أمّ مكتوم وكان أعمى ، فقال : يا رسول الله كيف وأنا أعمى ؟ فما برح حتى نزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب في قوله : «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » قال : لما نزلت جاء عمرو بن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان ضرير البصر ، فقال : يا رسول الله ما تأمرني ، فإني ضرير البصر ؟ فأنزل الله هذه الاَية ، فقال : «ائتُونِي بالكَتفِ والدّوَاةِ ، أوِ اللّوْحِ وَالدّوَاةِ » .
حدثني محمد بن إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن المغيرة ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي إسحاق ، عن البراء أنه لما نزلت : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } كلمه ابن أمّ مكتوم ، فأنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبو إسحاق أنه سمع البراء يقول في هذه الاَية : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا ، فجاء بكتف فكتبها ، قال : فشكى إليه ابن أمّ مكتوم ضَرَارَتَهُ ، فنزلت : «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضّرَرِ » .
قال شعبة : وأخبرني سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن رجل ، عن زيد في هذه الاَية : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ } مثل حديث البراء .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي سنان الشيباني ، عن ابن إسحاق ، عن زيد بن أرقم ، قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } جاء ابن أمّ مكتوم ، فقال : يا رسول الله مالي رخصة ؟ قال : «لا »قال : ابن أمّ مكتوم : اللهمّ إني ضرير فرخّص ! فأنزل الله : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبها ، يعني الكاتب .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا بشر بن المفضل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، عن سهل بن سعد ، قال : رأيت مروان بن الحكم جالسا ، فجئت حتى جلست إليه ، فحدثنا عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمِجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } قال : فجاء ابن أمّ مكتوم وهو يمليها عليّ ، فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ! قال : فأنزل عليه وفخذه على فخذي ، فثقلت ، فظننت أن ترضّ فخذي ، ثم سُرّي عنه ، فقال : «غَيْرَ أُولي الضّرَرِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن قبيصة ابن ذؤيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «اكْتُبْ : لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ » ! فجاء عبد الله بن أمّ مكتوم ، فقال : يا رسول الله إني أحبّ الجهاد في سبل الله ، ولكن بي من الزمانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري . قال زيد : فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يرضها ، ثم قال : «اكْتُبْ : لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرِ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الكريم : أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره ، قال : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } عن بدر والخارجون إلى بدر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حسين ، قال : ثني حجاج ، قال : أخبرني عبد الكريم أنه سمع مقسما يحدّث عن ابن عباس أنه سمعه يقول : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } عن بدر والخارجون إلى بدر . لما نزلت غزوة بدر ، قال عبد الله بن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي : يا رسول الله ، إننا أعميان ، فهل لنا رخصة ؟ فنزلت : «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولي الضّرَرَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ فَضّل اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسهِمْ } فسمع بذلك عبد الله بن أمّ مكتوم الأعمى ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، قد أنزل الله في الجهاد ما قد علمت وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد ، فهل لي من رخصة عند الله إن قعدت ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أُمِرْتُ فِي شأْنِكَ بِشَيءٍ وَما أدْري هَلْ يَكُونُ لَكَ ولأصحَابِكَ مِنْ رُخْصَةٍ ! » فقال ابن أمّ مكتوم : اللهمّ إني أنشدك بصري ! فأنزل الله بعد ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولى الضّرَرِ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبِيل اللّهِ » . . . إلى قوله : { على القاعِدِينَ دَرَجَةً } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد ، قال : نزلت : { لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ } فقال رجل أعمى : يا نبيّ الله فأنا أحبّ الجهاد ولا أستطيع أن أجاهد ! فنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَرَ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عبد الله بن شداد ، قال : لما نزلت هذه الاَية في الجهاد : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ } قال عبد الله بن أمّ مكتوم : يا رسول الله إني ضرير كما ترى ! فنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر } عذر الله أهل العذر من الناس ، فقال : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » كان منهم ابن أمّ مكتوم ، { وَالمجاهِدُونَ فِي سَبِيل الله بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ } .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّي : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيرُ أُولي الضّرَر وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ } . . . إلى قوله : { وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى } لما ذكر فضل الجهاد ، قال ابن أمّ مكتوم : يا رسول الله إني أعمى ولا أطيق الجهاد ! فأنزل الله فيه : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » .
حدثني المثنى ، قثال : حدثنا محمد بن عبد اللهالنفيلي ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء ، قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «ادْعُ لي زَيْدا وَقُلْ لَهُ يَأْتِي أوْ يَجِيىءُ بالكَتِف والدّوَاة أو اللّوْح والدّواة ، الشكّ من زهير اكتب : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللّهِ } » فقال ابن أمّ مكتوم : يا رسول الله إن بعينيّ ضررا ! فنزلت قبل أن يبرح «غَيْرَ أُولي الضّرَر » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء البصري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بنحوه ، إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ادْعُ لي زَيْدا وَلْيَجِئْني مَعَهُ بِكَتفٍ وَدَوَاةٍ ، أو لَوْحٍ وَدَوَاةٍ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عبد الرحمن ، قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ } قال عمرو بن أمّ مكتوم : يا ربّ ابتليتني فكيف أصنع ؟ فنزلت : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » .
وكان ابن عباس يقول في معنى : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » نحوا مما قلنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قا : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : «غَيْرَ أُولي الضّرَر » قال : أهل الضرر .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً } فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة ، يعني فضيلة واحدة ، وذلك بفضل جهاد بنفسه ، فأما فيما سوى ذلك فهما مستويان . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك أنه سمع ابن جريج يقول في : { فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ على القاعِدِينَ دَرَجَةً } قال : على أهل الضرر .
القول في تأويل قوله : { وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعدِينَ أجْرا عَظيما } .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى } : وعد الله الكلّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، والقاعدين من أهل الضرر الحسنى . ويعني جلّ ثناؤه بالحسنى : الجنة¹ كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى } وهي الجنة ، والله يؤتي كلّ ذي فضل فضله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال : الحسنى : الجنة .
وأما قوله : { وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما } فإنه يعني : وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما . كما :
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَفَضّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجْرا عَظِيما دَرَجاتٍ مِنْه وَمَغْفِرَةً } قال : على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر .
في قوله : { لا يستوي } إبهام على السامع هو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين المجاهد والقاعد ، فالمتأمل يمشي مع فكرته ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما ، و { القاعدون } عبارة عن المتخلفين ، إذ القعود هيئة من لا يتحرك إلى الأمر المقعود عنه في الأغلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة ، «غيرُ أولي الضرر » برفع الراء من غير ، وقرأ الأعمش وأبو حيوة «غيرِ » بكسر الراء فمن رفع جعل غير صفة للقاعدين عند سيبويه ، كما هي عنده صفة في قوله تعالى : { غير المغضوب } [ الفاتحة : 7 ] بجر غير صفة ، ومثله قول لبيد : [ الرمل ]
وَإذَا جُوزِيتَ قِرْضاً فاجْزِهِ *** إنَّما يُجْزَى الْفَتى غَيْرَ الْجَمَلْ{[4219]}
قال المؤلف : كذا ذكره أبو علي ، ويروى ليس الجمل ، ومن قرأ بنصب الراء جعله استثناء من القاعدين ، قال أبو الحسن : ويقوي ذلك أنها نزلت بعدها على طريق الاستثناء والاستدراك .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وقد يتحصل الاستدراك بتخصيص القاعدين بالصفة ، قال الزجّاج : يجوز أيضاً في قراءة الرفع أن يكون على جهة الاستثناء ، كأنه قال : «لا يستوي القاعدون والمجاهدون إلا أولو الضرر » فإنهم يساوون المجاهدين .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا مردود ، لأن { أولي الضرر } لا يساوون المجاهدين ، وغايتهم أن خرجوا من التوبيخ والمذمة التي لزمت القاعدين من غير عذر ، قال : ويجوز في قراءة نصب الراء أن يكون على الحال ، وأما كسر الراء فعلى الصفة للمؤمنين ، وروي من غير طريق أن الآية نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون } فجاء ابن أم مكتوم حين سمعها ، فقال : يا رسول الله هل من رخصة ؟ فإني ضرير البصر فنزلت عند ذلك { غير أولي الضرر } قال الفلقان بن عاصم{[4220]} كنا قعوداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أوحي إليه دام بصره مفتوحة عيناه وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله ، وكنا نعرف ذلك في وجهه ، فلما فرغ قال للكاتب : اكتب { لا يستوي القاعدونَ من المؤمنين والمجاهدون } إلى آخر الآية . قال : فقام الأعمى ، فقال : يا رسول الله ما ذنبنا ؟ قال : فأنزل الله على رسوله ، فقلنا للأعمى : إنه ينزل عليه ، قال : فخاف أن ينزل فيه شيء فبقي قائماً مكانه يقول : أتوب الى رسول الله حتى فرغ رسول الله ، فقال الكاتب : اكتب { غير أولي الضرر } وأولو الضرر هم أهل الأعذار إذ قد أضرت بهم حتى منعتهم الجهاد . قاله ابن عباس وغيره . وقوله تعالى { بأموالهم وأنفسهم } هي الغاية في كمال الجهاد . ولما كان أهل الديوان متملكين بذلك العطاء يصرفون في الشدائد وتروعهم البعوث والأوامر . قال بعض العلماء : هم أعظم أجراً من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها{[4221]} .
واحتج بهذه الآية المظهرة لفضل المال من قال : إن الغنى أفضل من الفقر ، وإن متعلقه بها لبين . وفسر الناس الآية على أن تكملة التفضيل فيها ب «الدرجة » ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وتأكيد وبيان ، وقال ابن جريج الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي عليه السلام في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالاً ما قطعنا وادياً ولا سلكنا جبلاً ولا طريقاً إلا وهم معنا حبسهم العذر »{[4222]} قال ابن جريج . والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات » هو على القاعدين من غير أهل العذر ، و { الحسنى } الجنة ، وهي التي وُعدها المؤمنون ، وكذلك قال السدي وغيره .