غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

92

ولما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم وبدر عنهم كان مظنة أن يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد فذكر من فضل الجهاد ما يزيح علّتهم ويزيد رغبتهم ، أو نقول : لما نهاهم عما نهاهم أتبعه فضيلة الجهاد ليبلغوا في الاحتراز عما يوجب خللاً في هذا المنصب الجليل فقال : { لا يستوي القاعدون } عن زيد بن ثابت قال : " كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } ولم يذكر { أولى الضرر } فقال ابن أم مكتوم : فكيف وأنا أعمى لا أبصر ؟ قال زيد : فتغشّى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي فاتكأ على فخذي ؛ فوالذي نفسي بيده لقد ثقل عليّ حتى خشيت أن يرضها ثم سري عنه فقال : اكتب : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون } فكتبتها " . رواه البخاري .

والمراد بالضرر النقصان سواء كان في البنية كعمى وعرج ومرض أو بسبب عدم الأهبة . من قرأ { غير } بالنصب فعلى الاستثناء من القاعدين أو على الحال عنهم ، ومن قرأ بالرفع فعلى أنه صفة للقاعدين ويجوز أن يكون غير صفة للمعرفة كما سبق في تفسير { غير المغضوب عليهم }[ الفاتحة :7 ] . وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين .

قال الزجاج : ويجوز أن يكون رفعاً على جهة الاستثناء والمعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدين ، إلاّ أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من بعض غزواته " لقد خلفتم بالمدينة أقوماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر " وعنه صلى الله عليه وسلم : " إذا مرض العبد قال الله تعالى : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ " . ويعلم منه أن صحة النية وخلوص الطوية لها مدخل عظيم في قبول الأعمال . وذكروا في معنى قوله : " نية المؤمن أبلغ من عمله " أنّ ما ينويه المؤمن أبلغ من عمله إذ ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبداً خير من عمله الذي أدركه في مدة حياته .

قيل : إنه قدّم ذكر النفس على المال في قوله :{ إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم }[ التوبة :111 ] وههنا أخر لأنّ النفس أشرف من المال . فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أنّ الرغبة فيها أشد ، والبائع أخر تنبيهاً على أنّ المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها ، إلاّ في آخر الأمر . وفائدة نفي الاستواء ومعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان تبيين ما بينهما من التفاوت ليهتم القاعد للجهاد ويترفع بنفسه عن انحطاط مرتبته فيجاهد كقوله :{ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون }[ الزمر :9 ] تحريكاً للجاهل لينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم . ثم إن عدم الاستواء يحتمل الزيادة والنقصان فأوضح الحال بقوله : { فضل الله المجاهدين } كأنه قيل : مالهم لا يستوون ؟ فأجيب بذلك . وانتصب { درجة } على المصدر لأن الدرجة بدل على التفضيل . وقيل : حال أي ذوي درجة . وقيل : بنزع الخافض أي بدرجة . وقيل : على الظرف أي في درجة { وكلا } وكل فريق من القاعدين والمجاهدين { وعد الله الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة . قال الفقهاء : فيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية إذ لو كان واجباً على التعيين لم يكن القاعد أهلاً للوعد . وانتصب { أجراً } بفضل لأنّ التفضيل يدل على الأجر . وههنا سؤال وهو أنه لم ذكر أولاً درجة وثانياً درجات ؟ وأجيب بأن اللام في قوله أوّلاً على القاعدين للعهد والمراد بهم أولو الضرر ، وقوله ثانياً على القاعدين للأصحاء الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأن الغزو فرض كفاية .

وقيل : المراد بالدرجة جنسها الذي يشمل الكثير بالنوع وهي الدرجات الرفيعة والمنازل الشريفة والمغفرة والرحمة . وقيل : المراد بالدرجة والغنيمة في الدنيا ، وبالدرجات مراتب الجنة . قيل : المراد بالمجاهد الأول صاحب الجهاد الأصغر وهو الجهاد بالنفس والمال ، وبالمجاهد الثاني صاحب الجهاد الأكبر وهو المجاهد بالرياضة والأعمال . واستدلت الشيعة ههنا بأنّ علياً رضي الله عنه أفضل من أبي بكر وغيره من الصحابة لأنه بالنسبة إليهم مجاهد وهم بالإضافة إليه قاعدون بما اشتهر من وقائعه وأيامه وشجاعته وحماسته .

أجاب أهل السنة بأنّ جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجهاد الأكبر وحين كان الإسلام ضعيفاً والاحتياج إلى المدد شديداً ، وأما جهاد علي فإنما ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قوياً . والحق أنه لا تدل الآية إلاّ على تفضيل المجاهدين على القاعدين ، أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا . قالت المعتزلة : ههنا قد ظهر من الآية أنّ التفاوت في الفضل بحسب التفاوت في العمل ، فعلة الثواب هو العمل ولهذا سمي أجراً . وأجيب بأنّ العمل علة الثواب لكن لا لذاته بل يجعل الشاعر ذلك العمل موجباً له . قالت الشافعية : الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنّ قوله : { وفضل الله المجاهدين } عام يشمل الجهاد الواجب والمندوب وهو الزائد على قدر الكفاية ، والمشتغل بالنكاح قاعد ، فالاشتغال بالجهاد المندوب أفضل منه بالنكاح .

/خ101