الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ غَيۡرُ أُوْلِي ٱلضَّرَرِ وَٱلۡمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ فَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ دَرَجَةٗۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَفَضَّلَ ٱللَّهُ ٱلۡمُجَٰهِدِينَ عَلَى ٱلۡقَٰعِدِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (95)

قوله : ( لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُومِنِينَ غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ ) الآية [ 94 ] .

من قرأ : غيرَ بالنصب فعلى الاستثناء بمعنى( {[13327]} ) [ إلا ]( {[13328]} ) أولي( {[13329]} ) الضرر ، فإنهم يستوون مع المجاهدين( {[13330]} ) ، ويجوز النصب على الحال بمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم( {[13331]} ) .

ومن رفع على النعت للقاعدين بمعنى لا يستوي القاعدون الأصحاء عن الجهاد يوم بدر والمجاهدون .

وقدره أبو إسحاق : ( لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ ) الذين هم ( غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرَ ) ، وهو بمعنى [ الصفة ]( {[13332]} ) التي ذكرنا( {[13333]} )( {[13334]} ) وقرأه أبو حيوة غيرِ مخفوض على النعت للمؤمنين( {[13335]} ) . وقال المبرد : هو بدل لأنه نكرة والأول معرفة( {[13336]} ) .

( دَرَجَةً ) نصب على البدل من قوله ( أَجْراً )( {[13337]} )( {[13338]} ) .

وقيل : إن فيه معنى التأكيد كما تقول علي ألف درهم عرفاً .

ومعنى الآية : لا يعتدل من جاهد في ذات الله ، ومن قعد عن ذلك ، إلا أن يكون القاعدون من أولي الضرر ، فإنه يستوي مع المجاهد . هذا على قراءة النصب ، والنصب في الآية أحسن لما روى البراء( {[13339]} ) رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إيتوني بكتف( {[13340]} ) أو لوح فكتب( {[13341]} ) " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " وعمر بن أم مكتوم خلف ظهره فقال : هل لي من رخصة يا رسول الله ؟ فنزلت ( غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ ) على الاستثناء( {[13342]} ) .

وقال زيد بن ثابت : املى( {[13343]} ) علي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

( لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ المُومِنِينَ غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) .

قال : فجاء ابن أم مكثوم وهو يمليها علي فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، قال : فأنزل الله عليه ، وفخذه على فخذه ، فثقلت( {[13344]} ) حتى خشيت أن تسترض( {[13345]} ) فخده [ ثم( {[13346]} ) ] سرى عنه فقال : ( غَيْرَ أُوْلِي الضَّرَرِ )( {[13347]} ) .

وهذا في غزاة بدر ، وقد قال ذلك عطاء وقتادة والسدي والزهري ذكروا أن الاستثناء نزل في ابن أم مكتوم( {[13348]} ) .

قوله : ( فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ) ، أي : فضيلة يريد القاعدين من أولى الضرر ، فضل الله المجاهدين على القاعد( {[13349]} ) للضرر درجة واحدة لجهاده بنفسه وماله ( وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى ) أي : المجاهد والقاعد من أولي الضرر ، وعدهم الله الحسنى ، وهي الجنة لأنهم كلهم مؤمنون .

وذكر الأموال في هذا الموضع( {[13350]} ) ، وتفضيل الذين ينفقونها في سبيل الله يدل على تفضيل الغنى على الفقر ، وهو في القرآن كثير ، فلا يستوي في الفضل من أعطاه الله مالاً ، فأنفقه في سبيله ، ومن لم يعطه الله مالاً ، فود لو كان معه مال( {[13351]} ) فأنفقه في سبيل الله ، لا يستوي [ من نوى ]( {[13352]} ) ففعل ، مع من( {[13353]} ) نوى ولم يفعل ، فقد أنفق عثمان رضي الله عنه على جيش العسرة( {[13354]} ) وبان بفضل ذلك ، وود أصحابه أن يقدروا على مثل فعله . وقد كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أيسر من كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأجمع المسلمون أنهم أفضل ممن هو أفقر منهم في ذلك الوقت من الصحابة .

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم " إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم من أيام الآخرة( {[13355]} ) " معناه الفقراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأغنياء من غير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لفضل الصحابة لا للفقر .

ويدل على ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل : من أول الناس وروداً الحوض ؟ فقال : " نفر من المهاجرين الشعثة( {[13356]} ) رؤوسهم الدنسة( {[13357]} ) ثيابهم ، الذين لا تفتح لهم السدود( {[13358]} ) ، ولا ينكحون المتنعمات( {[13359]} ) " .

قوله : ( وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) يعني : على القاعدين من المؤمنين من غير أولي الضرر .


[13327]:- (أ) (ج): معنى.
[13328]:- ساقط من (أ).
[13329]:- (ج): الأولى الضرر.
[13330]:- في غير ثلاث قراءات: (أ): غيرُ أولي الضرر بضم الراء، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة. (ب): غيرَ بنصب الراء وهي قراءة نافع والكسائي وابن عامر. انظر: السبعة: 237 وحجة القراءات 211، والكشف 1/396. (ج): غير بكسرِ الراء وهي قراءة أبي حيوة. انظر: جامع البيان 5/227.
[13331]:- في إعراب غير أوجه: فغيرُ بالضم صفة للقاعدين أو استثناء، وغيرَ بالنصب استثناء من القاعدين، أو للمؤمنين أو حال من القاعدين. انظر: معاني الأخفش 1/453، ومعاني الزجاج 2/92، وإعراب النحاس 1/447، ومشكل الإعراب 1/206.
[13332]:- ساقط من (أ).
[13333]:- (ج): ذكرناه.
[13334]:- انظر: جامع البيان 2/92.
[13335]:- انظر: جامع البيان 5/227.
[13336]:- انظر: المقتضب 4/422، وإعراب النحاس 1/447.
[13337]:- ساقط من (أ).
[13338]:- انظر: إعراب النحاس 1/448.
[13339]:- هو أبو عمارة البراء بن عازب بن الحارث الخزرجي توفي 71 هـ صحابي أسلم صغيراً، وغزا خمسة عشر غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: تاريخ الثقات 79، أسد الغابة 1/205، الإصابة 1/146، والتهذيب 1/425.
[13340]:- الكتف عظم عريض يكون في أصل الكتف من الناس، أو الدواب كانوا يكتبون فيه بقلة القراطيس عندهم. انظر: اللسان كتف 9/294.
[13341]:- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتب، ورواية البخاري: فدعا فلاناً أي زيداً، فكتب، انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير 5/183.
[13342]:- انظر: المصدر السابق.
[13343]:- (أ): أم لا وهو خطأ.
[13344]:- (ج): قتلت.
[13345]:- يقال رضه يرضه، إذا كسره. اللسان 7/154.
[13346]:- ساقط من (أ).
[13347]:- انظر: صحيح البخاري كتاب التفسير 5/182-183.
[13348]:- انظر: جامع البيان 5/130.
[13349]:- (أ): القاعدين وهو خطأ.
[13350]:- (أ): الوضع.
[13351]:- (أ): ما لم.
[13352]:- ساقط من (أ).
[13353]:- (أ): ومن مع من نوى.
[13354]:- هو جيش غزوة تبوك، وسمي بجيش العسرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في شدة القيظ، وكان وقت إيناع الثمرة وطيب الظلال، فشق ذلك على الناس، وعسر عليهم، وكان ذلك في رجب من سنة 9 للهجرة. انظر: سيرة ابن هشام 2/515-516.
[13355]:- خرجه الترمذي في أبواب الزهد 4/7، وابن ماجه في كتاب الزهد 2/1380، والدارمي في كتاب الرقائق 2/389.
[13356]:- (أ): استعنث (د): استعتت، والأشعث الشعر المغبر الحافي الذي لم يَدَّهِن. انظر: اللسان شعث 2/160.
[13357]:- (أ): الذي نست، والدنس في الثياب لطخ الوسخ ونحوه، ويكون الدنس في المعاني أيضاً. انظر: اللسان دنس 6/88.
[13358]:- أي: لا تفتح لهم الأبواب، والسدة الباب. انظر: اللسان سد 3/207.
[13359]:- (أ): المتمنعات. (ج): المتمتعات، والمتنعمات المترفات. انظر: الفائق في غريب الحديث 2/164، والنهاية في غريب الأثر 2/353، و5/83. أول الحديث "إن حوضي ما بين عدن إلى أيلة أشد بياضاً من اللبن وقد خرجه ابن ماجه في كتاب الزهد 2/1439.