قوله تعالى : { فإن للذين ظلموا } كفروا من أهل مكة ، { ذنوباً } نصيباً من العذاب ، { مثل ذنوب أصحابهم } مثل نصيب أصحابهم الذين أهلكوا من قوم نوح وعاد وثمود ، وأصل الذنوب في اللغة : الدلو العظيمة المملوءة ماء ، ثم استعمل في الحظ والنصيب ، { فلا يستعجلون } بالعذاب يعني أنهم أخروا إلى يوم القيامة
يدل عليه قوله عز وجل : { فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } .
{ 59-60 } { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }
أي : وإن للذين ظلموا وكذبوا{[868]} محمدًا صلى الله عليه وسلم ، من العذاب والنكال { ذَنُوبًا } أي : نصيبًا وقسطًا ، مثل ما فعل بأصحابهم من أهل الظلم والتكذيب .
{ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ } بالعذاب ، فإن سنة الله في الأمم واحدة ، فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير توبة وإنابة ، فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب ، ولو تأخر عنه مدة ، ولهذا توعدهم الله بيوم القيامة ، فقال :
وقوله : فإنّ للذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبا مِثْلَ ذَنُوبِ أصحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونَ يقول تعالى ذكره : فإن للذين أشركوا بالله من قريش وغيرهم ذنوبا ، وهي الدلو العظيمة ، وهو السجل أيضا إذا مُلئت أو قاربت الملء ، وإنما أريد بالذنوب في هذا الموضع : الحظّ والنصيب ومنه قول علقمة بن عبدة :
وفي كُلّ قَوْمٍ قَدْ خَبَطْتَ بنِعْمَةٍ *** فَحُقّ لِشَأْس مِنْ نَدَاكَ ذَنَوبُ
أي نصيب ، وأصله ما ذكرت ومنه قول الراجز :
لَنَا ذَنُوبٌ ولَكُمْ ذَنُوبُ *** فإن أَبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُ
ومعنى الكلام : فإن للذين ظلموا من عذاب الله نصيبا وحظا نازلاً بهم ، مثل نصيب أصحابهم الذين مضوا من قبلهم من الأمم ، على منهاجهم من العذاب ، فلا يستعجلون به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبا يقول : دلوا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فإنّ لِلّذِينَ ظَلِموا ذَنُوبا مِثْلَ ذَنُوب أصحَابِهِمْ قال : يقول للذين ظلموا عذابا مثل عذاب أصحابهم فلا يستعجلون .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيدبن جُبَير ذَنُوبا مِثْلَ ذَنُوب أصحَابِهِمْ فلا يستعجلون : سجلاً من العذاب .
قال : ثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا شهاب بن سريعة ، عن الحسن ، في قوله : ذَنُوبا مِثْلَ ذَنُوب أصحَابِهِمْ قال : دلوا مثل دلو أصحابهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ذَنُوبا قال : سجلاً .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبا : سجلاً من عذاب الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثني محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : فإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبا مِثْلَ ذَنُوب أصحَابِهِمْ قال : عذابا مثل عذاب أصحابهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإنّ لِلّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبا مِثْلَ ذَنَوب أصحَابِهِمْ قال : يقول ذنوبا من العذاب ، قال : يقول لهم سجل من عذاب الله ، وقد فعل هذا بأصحابهم من قبلهم ، فلهم عذاب مثل عذاب أصحابهم فلا يستعجلون .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ذَنُوبا مِثْلَ ذَنُوب أصحَابِهِمْ قال : طَرَفا من العذاب .
تفريع على جملة { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] باعتبار أن المقصود من سياقه إبطال عبادتهم غير الله ، أي فإذا لم يفردني المشركون بالعبادة فإن لهم ذَنوباً مثل ذَنوب أصحابهم ، وهو يلمح إلى ما تقدم من ذكر ما عوقبت به الأمم السالفة من قوله : { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } إلى قوله : { إنهم كانوا قوماً فاسقين } [ الذاريات : 32 46 ] .
والمعنى : فإذ ماثلهم الذين ظلموا فإن لهم نصيباً عظيماً من العذاب مثل نصيب أولئك .
والذين ظلموا : الذين أشركوا من العرب ، والظلم : الشرك بالله .
والذنوب بفتح الذال : الدلو العظيمة يستقي بها السُّقاة على القليب كما ورد في حديث الرؤيا " ثم أخذها أبو بكر ففزع ذنوباً أو ذنوبين " ولا تسمى ذنوباً إلا إذا كانت ملأى .
والكلام تمثيل لهيئة تساوي حظ الذين ظلموا من العرب بحُظوظ الذين ظلموا من الأمم السالفة بهيئة الذين يستقون من قليب واحد إذ يتساوون في أنصبائهم من الماء ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، وأطلق على الأمم الماضية اسم وصف أصحاب الذين ظلموا باعتبار الهيئة المشبه بها إذ هي هيئة جماعات الوِرد يكونون متصاحبين .
وهذا التمثيل قابل للتوزيع بأنه يشبّه المشركون بجماعة وردت على الماء ، وتُشبه الأمم الماضية بجماعة سبقتهم للماء ، ويُشبه نصيب كل جماعة بالدلو التي يأخذونها من الماء .
قال علقمة بن عَبْدة يمدح الملكَ الحارثَ بن أبي شَمِر ، ويشفع عنده لأخيه شأسٍ بن عبدة وكان قد وقع في أسره مع بني تميم يوم عَين أباغ :
وفي كل حي قد خَبَطْتَ بَنعمة *** فحُقَّ لشَأْسٍ من نَداك ذَنوب
فلما سمعه الملك قال : « نعم وأَذنبة » وأطلق له أخاه شأس بن عبدة ومن معه من أسرى تميم ، وهذا تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود : أن يسمعه المشركون فهو تعريض ، وبهذا الاعتبار أكد الخبر ب ( إنَّ ) لأنهم كانوا مكذبين بالوعيد ، ولذلك فرع على التأكيد قوله : { فلا يستعجلون } لأنهم كانوا يستعجلون بالعذاب استهزاء وإشعاراً بأنه وعد مكذوب فهم في الواقع يستعجلون الله تعالى بوعيده .
وعدّي الاستعجال إلى ضمير الجلالة وهم إنما استعجلوه النبي صلى الله عليه وسلم لإِظهار أن النبي صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله تعالى توبيخاً لهم وإنذاراً بالوعيد . وحذفت ياء المتكلم للتخفيف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن للذين ظلموا} يعني مشركي مكة {ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم} يعني نصيبا من العذاب في الدنيا، مثل نصيب أصحابهم في الشرك، يعني الأمم الخالية الذين عذبوا في الدنيا {فلا يستعجلون} العذاب تكذيبا به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"فإنّ للذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبا مِثْلَ ذَنُوبِ أصحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونَ "يقول تعالى ذكره: فإن للذين أشركوا بالله من قريش وغيرهم ذَنوبا، وهي الدلو العظيمة، وهو السجل أيضا إذا مُلئت أو قاربت الملء، وإنما أريد بالذَّنوب في هذا الموضع: الحظّ والنصيب...
ومعنى الكلام: فإن للذين ظلموا من عذاب الله نصيبا وحظا نازلاً بهم، مثل نصيب أصحابهم الذين مضوا من قبلهم من الأمم، على منهاجهم من العذاب، فلا يستعجلون به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: سُمّي ذلك العذاب ذَنوبا لما يتبع بعضهم بعضا، والله أعلم. فيقول: يتبع العذاب هؤلاء كما يتبع أولئك كالدّلاء يتبع بعضها بعضا، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ويعني بأصحابهم من كذب بالرسل من الأمم السالفة ليعتبروا بهلاكهم. {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يستعجلوا نزول العذاب بهم لأنهم قالوا: {يا مُحَمَّدُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} الآية، فنزل بهم يوم بدر، ما حقق الله وعده، وعجل به انتقامه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فلا يستعجلون} تحقيق الأمر، بمعنى هو نازل بهم لا محالة في وقته المحتوم، فلا يستعجلوه...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
{فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أي: بالعذاب إن أخروا إلى يوم القيامة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} بالعذاب، فإن سنة الله في الأمم واحدة، فكل مكذب يدوم على تكذيبه من غير توبة وإنابة، فإنه لا بد أن يقع عليه العذاب، ولو تأخر عنه مدة، ولهذا توعدهم الله بيوم القيامة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: فإذ ماثلهم الذين ظلموا فإن لهم نصيباً عظيماً من العذاب مثل نصيب أولئك. والذين ظلموا: الذين أشركوا من العرب، والظلم: الشرك بالله.والكلام تمثيل لهيئة تساوي حظ الذين ظلموا من العرب بحُظوظ الذين ظلموا من الأمم السالفة بهيئة الذين يستقون من قليب واحد إذ يتساوون في أنصبائهم من الماء: {فلا يستعجلون} لأنهم كانوا يستعجلون بالعذاب استهزاء وإشعاراً بأنه وعد مكذوب فهم في الواقع يستعجلون الله تعالى بوعيده. وعدّي الاستعجال إلى ضمير الجلالة وهم إنما استعجلوه النبي صلى الله عليه وسلم لإِظهار أن النبي صلى الله عليه وسلم مخبر عن الله تعالى توبيخاً لهم وإنذاراً بالوعيد. وحذفت ياء المتكلم للتخفيف. والنهي مستعمل في التهكم إظهاراً لغضب الله عليهم.