31- بعد قتله أصابته حسرة وحيرة ، ولم يدر ما يصنع بجثته ، فأرسل الله غراباً ينبش تراب الأرض ليدفن غراباً ميتاً ، حتى يُعَلِّم ذلك القاتل كيف يستر جثة أخيه ، فقال القاتل مُحِسَّا بوبال ما ارتكب ، متحسراً على جريمته : أعجزت عن أن أكون مثل هذا الغراب فأستر جثة أخي ؟ ! فصار من النادمين على جرمه ومخالفته دواعي الفطرة{[52]} .
قوله تعالى : { فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه } ، فلما رأى قابيل ذلك .
قوله تعالى : { قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي } ، أي جيفته ، وقيل : عورته ، لأنه كان قد سلب ثيابه .
قوله تعالى : { فأصبح من النادمين } ، على حمله على عاتقه لا على قتله ، وقيل :على فراق أخيه ، وقيل : ندم لقلة النفع بقتله ، فإنه أسخط والديه ، وما انتفع بقتله شيئاً ، ولم يكن ندمه على القتل وركوب الذنب . قال عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ، ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء ، فناداه آدم : أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيباً ، فقال آدم : إن دم أخيك ليناديني من الأرض ، فلم قتلت أخاك ؟ قال : فأين دمه إن كنت قتلته ؟ فحرم الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعده أبداً . وقال مقاتل بن سليمان عن الضحاك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لما قتل قابيل هابيل وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر ، وتغيرت الأطعمة ، وحمضت الفواكه ، وأمر الماء ، واغبرت الأرض ، فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند ، فإذا قابيل قد قتل هابيل ، فأنشأ يقول : وهو أول من قال الشعر :
تغيرت البلاد ومن عليها *** فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي وطعم ولون *** وقل بشاشة الوجه المليح
وروي عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من قال إن آدم عليه السلام قال شعراً فقد كذب على الله ورسوله ، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم السلام في النهي عن الشعر سواء ، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، فلما قال آدم مرثيته قال لشيث : يا بني إنك وصي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه ، فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان ، وكان يتكلم بالعربية والسريانية ، وهو أول من خط بالعربية ، وكان يقول الشعر ، فنظر في المرثية ، فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم ، فوزنه شعراً ، وزاد فيه أبيات منها :
ومالي لا أجود بسكب دمع *** وهابيل تضمنه الضريح
أرى طول الحياة علي غما *** فهل أنا من حياتي مستريح
فلما مضى من عمر آدم عليه السلام مائة وثلاثون سنة ، -وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين- ولدت له حواء شيثاً ، واسمه : هبة الله ، يعني أنه خلف من هابيل علمه الله تعالى ساعات الليل والنهار ، وعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها ، وأنزل عليه خمسين صحيفة ، فصار وصي آدم وولي عهده ، وأما قابيل فقيل له : اذهب طريداً شريداً فزعاً مرعوباً ، لا تأمن من تراه ، فأخذ بيد أخته إقليما ، وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن ، فأتاه إبليس فقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل ، لأنه كان يعبد النار ، فانصب أنت نارا ًأيضاً تكون لك ولعقبك ، فبنى بيتاً للنار ، فهو أول من عبد النار ، وكان لا يمر به أحد إلا رماه ، فأقبل ابن له أعمى ومعه ابن له ، فقال للأعمى ابنه : هذا أبوك قابيل ، فرمى الأعمى أباه فقتله ، فقال ابن الأعمى : قتلت أباك ؟ فرفع يده ولطم ابنه ، فمات ، فقال الأعمى : ويل لي قتلت أبي برميتي ، وقتلت ابني بلطمتي . وقال مجاهد : فعلقت إحدى رجلي قابيل إلى فخذها وساقها ، وعلقت منها فهو معلق إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس ما دارت عليه ، في الصيف حظيرة من نار ، وفي الشتاء حظيرة من ثلج ، قال : واتخذ أولاد آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير ، وانهمكوا في اللهو ، وشرب الخمر ، وعبادة النار ، والزنا ، والفواحش ، حتى أغرقهم الله بالطوفان أيام نوح عليه السلام ، وبقي نسل شيث .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، أنا عمر بن حفص بن غياث ، ثنا أبي ، ثنا الأعمش ، حدثني عبد الله بن مرة عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ) .
فلما قتل أخاه لم يدر كيف يصنع به ؛ لأنه أول ميت مات من بني آدم { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ } أي : يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا . { لِيُرِيَهُ } بذلك { كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ } أي : بدنه ، لأن بدن الميت يكون عورة { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } وهكذا عاقبة المعاصي الندامة والخسارة .
ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية . صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحما يسري فيه العفن ، فهو سوأة لا تطيقها النفوس .
وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه - وهو الباطش القاتل الفاتك - عن أن يواري سوأة أخيه . عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير :
( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه . قال : يا ويلتى ! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ؟ فأصبح من النادمين ) . .
وتقول بعض الروايات : إن الغراب قتل غرابا آخر ، أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب ، فجعل يحفر في الأرض ، ثم واراه وأهال عليه التراب . . فقال القاتل قولته . وفعل مثلما رأى الغراب يفعل . .
وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتا يدفن - وإلا لفعل - وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم . أو لأن هذا القاتل كان حدثا ولم ير من يدفن ميتا . . والاحتمالان قائمان . وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة - وإلا لقبل الله توبته - وإنما كان الندم الناشى ء من عدم جدوى فعلته ، وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق .
كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب ، قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس . وقد يكون حدثا خارقا أجراه الله . . وهذه كتلك سواء . . فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي . . هذا من قدرته ، وهذا من قدرته على السواء . .
{ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هََذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ } . .
قال أبو جعفر : وهذا أيضا أحد الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو عن الحسن لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الاَية لو كانا من بني إسرائيل لم يجهل القاتل دفن أخيه ومواراة سوأة أخيه ، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه . ولم يكن القاتل منهما أخاه علم سنة الله في عادة الموتى ، ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول ، فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينا حتى أراحت جِيفته ، فأحبّ الله تعريفه السنة في موتى خلقه ، فقّيض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه .
ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول بعد قتله إياه :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن أبي رَوْق الهَمْداني ، عن أبيه ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة ، حتى بعث الله جلّ وعزّ الغرابَين ، فرآهما يبحثان ، فقال : أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب ؟ فدفن أخاه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ بعث الله جلّ وعزّ غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحيّ يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ . . . الاَية .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، فيما ذكر عن أبي مالك . وعن أبي صالح ، عن ابن عباس . وعن مرّة ، عن عبد الله . وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : لما مات الغلام تركه بالعَراء ولا يعلم كيف يُدْفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ، ثم حثا عليه ، فلما رآه قال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوارِىَ سَوْءَةَ أخِي فهو قول الله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَبْحَثُ قال : بعث الله غرابا حتى حفر لاَخر إلى جنبه ميت وابن آدم القاتل ينظر إليه ، ثم بحث عليه حتى غيبه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : غُرابا يَبْحَثُ في الأَرْضِ حتى حفر لاَخر ميت إلى جنبه ، فغيّبه ، وابن آدم القاتل ينظر إليه حيث يبحث عليه ، حتى غيبه فقال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ . . . الاَية .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ قال : بعث الله غرابا إلى غراب ، فاقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، فجعل يَحْثِي عليه التراب ، فقال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوْأةَ أخِي فأصْبَحَ منَ النّادِمِينَ .
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ قال : جاء غراب إلى غراب ميت ، فحثي عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ . . . الاَية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، قال : لما قتله ندم ، فضمه إليه حتى أرْوَح ، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكلَه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ أنه بعثه الله عزّ ذكره يبحث في الأرض ذُكِر لنا أنهما غرابان اقتتلا ، فقتل أحدهما صاحبه ، وذلك يعني ابن آدم ينظر ، وجعل الحيّ يحثي على الميت التراب ، فعند ذلك قال ما قال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ . . . الاَية ، إلى قوله : مِنَ النّادِمِينَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : أما قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرابا قال : قتل غراب غرابا ، فجعل يحثو عليه ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أخيهِ قال : وارى الغرابُ الغرابَ . قال : كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به ، يحمله ويضعه إلى الأرض حتى رأى يدفن الغراب ، فقال : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ فَأُوَارِىَ سَوأة أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن حصين ، عن أبي مالك في قول الله : يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أكُونَ مِثَلَ هَذَا الغُرابِ قال : بعث الله غرابا ، فجعل يبحث على غراب ميت التراب ، قال : فقال عند ذلك : أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوأة أخِي فأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابا يَبْحَثُ في الأرْضِ : بعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل الغراب الحيّ يواري سوأة الغراب الميت ، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه : يَا وَيْلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ . . . الاَية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل ، قال : لما قتله سُقِط في يديه ، ولم يد كيف يواريه ، وذلك أنه كان فيما يزعمون أوّل قتيل من بين آدم ، وأول ميت ( قال ) يا وَيْلَتا أعَجَزْتُ نْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوأةَ أخي . . . الاَية ( إلى قوله : ثُمّ إنّ كثيرا مِنْهُمْ بعد ذلكَ في الأرْضِ لمُسْرِفون قال : ) ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل ، قال له جلّ ثناؤه : يا قابيل أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رقيبا . فقال الله جلّ وعزّ له : إن صوت دم أخيك ليَنُاديني من الأرض ، الاَن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك ، فإذا أنت عملت في الأرض ، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعا تائها في الأرض . قال قابيل : عظمت خطيئتي عن أن تغفرها ، قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض ، وأتواري من قدّامك ، وأكون فزعا تائها في الأرض ، وكلّ من لقيني قتلني فقال جلّ وعزّ : ليس ذلك كذلك ، ولا يكون كل قاتل قتيلاً يجزى واحدا ، ولكن يجزي سبعة ، وجعل الله في قابيل آية ، لئلا يقتله كلّ من وجده . وخرج قابيل من قدّام الله عزّ وجلّ ، من شرقي عَدَن الجنة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا الأعمش ، عن خيثمة ، قال : لما قتل ابن آدم أخاه نَشفَت الأرض دمه ، فُلعنت ، فلم تنشف الأرض دما بعد .
فتأويل الكلام : فأثار الله للقاتل إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول غرابا يبحث في الأرض ، يقول : يحفر في الأرض ، فيثير ترابها ليريه كيف يواري سوءة أخيه ، يقول : ليريه كيف يواري جيفة أخيه . وقد يحتمل أن يكون عنى بالسوءة الفَرْج ، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجِيفة ، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل . وفي ذلك محذوف ترك ذكره ، استغناء بدلالة ما ذكر منه ، وهو : فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميت ، فواراه فيها ، فقال القاتل أخاه حينئذٍ : يا وَيْلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ الذي وارى الغرابَ الاَخر الميت فَأُوارِيَ سَوأةَ أخِي ؟ فواراه حينئذٍ فأصْبَحَ منَ النّادِمينَ على ما فَرَط منه من معصية الله عزّ ذكره في قتله أخاه . وكلّ ما ذكر الله عزّ وجلّ في هذه الاَيات ، مَثَل ضربه الله لبني آدم ، وحرّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفو والصفح عن اليهود ، الذين كانوا هَمّوا بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقتلهم من بني النضير ، إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيَلْي عمرو بن أمية الضّمْرِي ، وعرّفهم جلّ وعزّ رداءة سجية أوائلهم وسوء استقامتهم على منهج الحقّ مع كثرة أياديه وآلائه عندهم ، وضرب مثلهم في عدوّهم ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم بابَنْي آدم المقرّبَين قرابينهما اللذين ذكرهما الله في هذه الاَيات . ثم ذلك مَثَل لهم على التأسّي بالفاضل منهما دون الطالح ، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قلت لبكر بن عبد الله : أما بلغك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ الله جلّ وَعَزّ ضَرَبَ لَكُمُ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلاً ، فخُذُوا خَيْرَهُما وَدَعُوا شَرّهُما ؟ » قال : بلى .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ ابْنَيْ آدَمَ ضُرِبا مَثَلاً لِهَذِهِ الأُمّةِ فَخُذُوا بالخَيْرِ مِنْهُما » .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ ضَرَبَ لَكُمْ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلاً ، فَخُذُوا مِنْ خَيْرِهِمْ وَدَعُوا الشّرّ » .
{ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه } روي أنه لما قتله تحير في أمره ولم يدر ما يصنع به إذ كان أول ميت من بني آدم ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة والضمير في ليرى ، لله سبحانه وتعالى ، أو للغراب ، وكيف حال من الضمير في { يواري } والجملة ثاني مفعولي يرى ، والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فإنه مما يستقبح أن يرى . { قال يا ويلتا } كلمة جزع وتحسر والألف فيها بدل من ياء المتكلم . والمعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك ، والويل والويلة الهلكة . { أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي } لا أهتدي إلى مثل ما اهتدي إليه ، وقوله : { فأواري } عطف على { أكون } وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى ههنا لو عجزت لواريت ، وقرئ بالسكون على فأنا أواري أو على تسكين المنصوب تخفيفا . { فأصبح من النادمين } على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره وحمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل ، وتلمذه للغراب واسوداد لونه وتبري أبويه منه ، أذ روي أنه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ منه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وعدم الظفر بما فعله من أجله .
وقوله تعالى : { فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه } روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب ومشى به يحمله في عنقه مائة عام . وقيل : سنة واحدة ، وقيل : بل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر أخيه ، فلم يدر ما يصنع به ، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت ، فجعل يبحث في الأرض ويُلقي التراب على الغراب الميت . وروى أن الله تعالى بعث غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر ، ثم جعل القاتل يبحث ويواري الميت ، وروي أن الله تعالى إنما بعث غرابا واحدا فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل .
وظاهر هذه الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم ، ولذلك جهلت سنة المواراة ، وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأولى .
و[ يبحث ] معناه : يفتش التراب بمنقاره ويثير ، ومن هذا سميت سورة ( براءة )- البحوث{[4513]}- لأنها فتشت عن المنافقين ، ومن ذلك قول الشاعر :
إن الناس غطوني تغطيت عنهم *** وإن بحثوني كان فيهم مباحث{[4514]}
وفي مثل : لا تكن كالباحث عن الشفرة{[4515]} .
والضمير في قوله : [ سوءة أخيهِ يحتمل أن يعود على قابيل ، ويراد بالأخ هابيل ، ويحتمل أن يعود على الغراب الباحث ، ويراد بالأخ الغراب الميت ، والأول أشهر في التأويل ، والسوأة : العورة ، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها ، ولأن سترها أوكد ، ويحتمل أن يراد بالسوأة هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها ، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة لا على جهة الغض منه ، بل الغض لاحق للقاتل ، وهو الذي أتى بالسوأة ، وقرأ الجمهور : [ فأواري ] بنصب الياء ، وقرأ طلحة بن مصرف ، والفياض بن غزوان : [ فأواري ] بسكون الياء ، وهي لغة لتوالي الحركات .
ولما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه ، ورأى قصور نفسه وجهل البشر بالأمور ، فقال : [ يا ويلتي أعجزت ] الآية ، واحتقر نفسه ، ولذلك ندم ، وقرأ الجمهور : [ يا ويلتَى ] والأصل : يا ويلتي ، لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا ويفتح الياء لذلك ، فيقولون : يا ويلتَى ويا غلامَا . ويقف بعضهم على هاء السكت فيقول : يا ويلتاه . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : [ يا ويلتي ]{[4516]} . ونداء الويلة هو على معنى : احضري فهذا أوانك ، وهذا هو الباب في قوله : [ يا حسرة ]{[4517]} ، وفي قولهم : يا عجبا وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل وهي معان . وقرأ الجمهور : [ أعجزت ] بفتح الجيم ، وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، والفياض ، وطلحة بن سلميان : [ أعجزت ] بكسر الجيم ، وهي لغة{[4518]} .
ثم إن قابيل وارى أخاه ، وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله حيث لا ينفع الندم ، اختلف العلماء في قابيل- هل هو من الكفار أو من العصاة ؟ والظاهر أنه من العصاة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا الشر ){[4519]} .
{ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض كيف يواري سوءة أخيه قال ياويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي } . البعث هنا مستعمل في الإلهام بالطيران إلى ذلك المكان ، أي فألْهم الله غراباً ينزل بحيث يراه قابيل . وكأنّ اختيار الغراب لهذا العمل إمّا لأنّ الدفن حيلة في الغِربان من قبلُ ، وإمّا لأنّ الله اختاره لذلك لمناسبة ما يعتري الناظر إلى سواد لونه من الانقباض بما للأسيف الخاسر من انقباض النفس . ولعلّ هذا هو الأصل في تشاؤم العرب بالغراب ، فقالوا : غُراب البين .
والضمير المستتر في « يُريَه » إن كان عائداً إلى اسم الجلالة فالتعليل المستفاد من اللام وإسناد الإرادة حقيقتان ، وإن كان عائداً إلى الغراب فاللام مستعملة في معنى فاء التفريع ، وإسناد الإرادة إلى الغراب مجاز ، لأنّه سبب الرؤية فكأنَّه مُرِيءٌ . و { كيف } يجوز أن تكون مجرّدة عن الاستفهام مراداً منها الكيفية ، أو للاستفهام ، والمعنى : ليريه جواب كيف يُواري .
وَالسَّوْأة : مَا تَسُوء رؤيتُه ، وَهِي هنا تغيّر رائحة القتيل وتقطّع جسمه .
وكلمة { يَا ويلتا } من صيّغ الاستغاثة المستعملة في التعجّب ، وأصله يا لَوَيْلَتِي ، فعوّضت الألف عن لام الاستغاثة نحو قولهم : يا عَجَباً ، ويجوز أن يجعل الألف عوضاً عن ياء المتكلم ، وهي لغة ، ويكون النّداء مجازاً بتنزيل الويلة منزلة ما يُنَادَى ، كقوله : { يَا حسرتى على ما فرّطتُ في جنب الله } [ الزمر : 56 ] . والاستفهام في { أعجزت } إنكاري .
وهذا المشهد العظيم هو مشهد أوّل حضارة في البشر ، وهي من قبيل طلب سَتر المشاهد المكروهة . وهو أيضاً مشهد أوّلِ علمٍ اكتسبه البشر بالتّقليد وبالتَّجربة ، وهو أيضاً مشهد أوّل مظاهر تَلقّي البشر معارفه من عوالم أضعفَ منه كما تَشَبَّه النَّاس بالحيوان في الزينة ، فلبسوا الجُلُود الحسنة الملوّنة وتكلّلوا بالريش المُلوّن وبالزهور والحجارة الكريمة ، فكم في هذه الآية من عبرة للتَّاريخ والدّين والخُلُق .
{ فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } .
القول فيه كالقول في { فأصبح من الخاسرين } [ المائدة : 30 ] . ومعنى { من النادمين } أصبح نادماً أشدّ ندامة ، لأنّ { من النادمين } أدلّ على تمكّن الندامة من نفسه ، من أن يقال « نادماً » . كما تقدّم عند قوله تعالى : { وكان من الكافرين } [ البقرة : 34 ] وقوله : { فتكونا من الظالمين في سورة البقرة ( 35 ) .
والندم أسف الفاعل على فعل صدر منه ؛ لم يتفطّن لما فيه عليه من مضرّة قال تعالى : { أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } [ الحجرات : 6 ] ، أي ندم على ما اقترف من قتل أخيه إذْ رأى الغراب يحتفل بإكرام أخيه الميّت ورأى نفسه يجترىء على قتل أخيه ، وما إسراعه إلى تقليد الغراب في دفن أخيه إلاّ مبدأ النّدامة وحُبِّ الكرامة لأخيه .
ويحتمل أن هذا النّدم لم يكن ناشئاً عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة ، فلذلك لم ينفعه . فجاء في الصّحيح " ما مِن نفس تُقْتَل ظُلماً إلاّ كان على ابنِ آدم الأوّل كِفْل من دمها ذلك لأنَّه أوّل من سَنّ القتل " ويحتمل أن يكون دليلاً لمن قالوا : إنّ القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عبّاس ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها } الآية من سورة النّساء ( 93 ) .