ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق ، وواجب على الأمة الإيمان به ، وتعظيمه ، وتعزيره ، وتوقيره { فَإِنْ } آمنوا ، فذلك حظهم وتوفيقهم ، وإن { تَوَلَّوا } عن الإيمان والعمل ، فامض على سبيلك ، ولا تزل في دعوتك ، وقل { حَسْبِيَ اللَّهُ } أي : الله كافيَّ في جميع ما أهمني ، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } أي : لا معبود بحق سواه .
{ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : اعتمدت ووثقت به ، في جلب ما ينفع ، ودفع ما يضر ، { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } الذي هو أعظم المخلوقات . وإذا كان رب العرش العظيم ، الذي وسع المخلوقات ، كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى .
تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لآ إِلََهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : فإن تولى يا محمد هؤلاء الذين جئتهم بالحقّ من عند ربك من قومك ، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله وما دعوتهم إليه من النور والهدى ، فقل حسبي الله ، يكفيني ربي لا إلَهِ إلاّ هُوَ لا معبود سواه ، عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وبه وثقت ، وعلى عونه اتكلت ، وإليه وإلى نصره استندت ، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس . وَهُوَ رَبّ العَرْشِ العَظِيم الذي يملك كل ما دونه ، والملوك كلهم مماليكه وعبيده . وإنما عني بوصفه جلّ ثناؤه نفسه بأنه ربّ العرش العظيم ، الخبر عن جميع ما دونه أنهم عبيده وفي ملكه وسلطانه لأن العرش العظيم إنما يكون للملوك ، فوصف نفسه بأنه ذو العرش دون سائر خلقه وأنه الملك العظيم دون غيره وأن من دون في سلطانه وملكه جار عليه حكمه وقضاؤه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فإنْ تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ يعني الكفار تولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه في المؤمنين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عبيد بن عمير ، قال : كان عمر رحمة الله عليه لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان ، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الاَيتين : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ فقال عمر : لا أسألك عليهما بينة أبدا ، كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن زهير ، عن الأعمش ، عن أبي صالح الحنفي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ رَحِيمٌ يُحِبّ كُلّ رَحِيم ، يَضَعُ رَحْمَتَهُ على كُلّ رَحِيمٍ » . قالوا : يا رسول الله إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا قال : وأراه قال : وأزواجنا . قال : «ليسَ كذلكَ ، ولكِنْ كُونُوا كمَا قَالَ اللّهُ : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فإنْ تَوَلّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إلَهَ إلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَهُوَ رَبّ العَرْشِ العَظِيمِ » أراه قرأ هذه الآية كلها .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال : آخر آية نزلت من القرآن : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ . . . إلى آخر الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا شعبة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن أبيّ ، قال : آخر آية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ . . . الآية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا شعبة ، عن عليّ بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن أبيّ ، قال : أحدث القرآن عهدا بالله هاتان الاَيتان : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتّمْ . . . إلى آخر الاَيتين .
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن محمد ، قال : حدثنا أبان بن يزيد العطار ، عن قتادة ، عن أبيّ بن كعب ، قال : أحدث القرآن عهدا بالله الاَيتان : لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ . . . إلى آخر السورة .
{ فإن تولّوا } عن الإيمان بك . { فقل حسبي الله } فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم . { لا إله إلا هو } كالدليل عليه . { عليه توكّلت } فلا أرجو ولا أخاف إلا منه . { وهو رب العرش العظيم } الملك العظيم ، أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير . وقرئ { العظيم } بالرفع . وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه : أن آخر ما نزل هاتان الآيتان .
ثم خاطب النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد تقريره عليهم هذه النعمة فقال : { فإن تولوا } يا محمد أي أعرضوا بعد هذه الحال المتقررة التي من الله عليهم بها { فقل حسبي الله } معناه وأعمالك بحسب قولك من التفويض إلى الله والتوكل عليه والجد في قتالهم ، وليست بآية موادعة لأنها من آخر ما نزل ، وخصص { العرش } بالذكر إذ هو أعظم المخلوقات ، وقرأ ابن محيصن «العظيمُ » برفع الميم صفة للرب ، ورويت عن ابن كثير ، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت{[5990]} ، ووقع في البخاري أو أبي خزيمة ، فلما جاء بهما تذكرهما كثير من الصحابة ، وقد كان زيد يعرفهما ولذلك قال : فقدت آيتين من آخر سورة التوبة ولو لم يعرفهما لم يدر هل فقد شيئاً أم لا ، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده ، أسند الطبري في كتابه قال : كان عمر لا يثبت آية في المصحف إلا أن يشهد عليها رجلان ، فلما جاء خزيمة بهاتين الآيتين قال : والله لا أسألك عليهما بينة أبداً فإنه هكذا كان صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي تضمنتها الآية ، وهذا والله أعلم قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وفي مدة أبي بكر حين الجمع الأول وحينئذ فقدت الآيتان ولم يجمع من القرآن شيء في خلافة عمر ، وخزيمة بن ثابت هو المعروف بذي الشهادتين ، وعرف بذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمضى شهادته وحده في ابتياع فرس وحكم بها لنفسه صلى الله عليه وسلم{[5991]} ، وهذا خصوص لرسول الله صلى الله عليه وسلم{[5992]} وذكر النقاش عن أبيّ بن كعب أنه قال أقرب القرآن عهداً بالله تعالى هاتان الآيتان { لقد جاءكم رسول } إلى آخر السورة{[5993]} .
والفاء في قوله : { فإن تولوا } للتفريع على إرسال النبي صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الصفات إليهم فإن صفاته المذكورة تقتضي من كل ذي عقل سليم من العرب الإيمان به واتباعه لأنه من أنفسهم ومحب لخيرهم رؤوف رحيم بمن يتبعه منهم ، فتفرع عليه أنهم محقوقون بالإيمان به فإن آمنوا فذاك وإن لم يؤمنوا فإن الله حسيبه وكافيه . وقد دل الشرط على مقابله لأن { فإن تولوا } يدل على تقدير ضده وهو إن أذعنوا بالإيمان .
وبعد التفريع التفت الكلام من خطاب العرب إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان مقتضى الظاهر أن يخاطَبُوا هُم به اعتماداً على قرينة حرف التفريع فقيل له : { فإن تولوا فقل حسبي الله } . والتقدير : فإن توليتم عنه فحسبه الله وقل حسبي الله . فجيء بهذا النظم البديع الإيجاز مع ما فيه من براعة الإيماء إلى عدم تأهلهم لخطاب الله على تقدير حالة توليهم .
والتولي : الإعراض والإدبار : وهو مستعار هنا للمكابرة والعناد .
والحسْب : الكافي ، أي كافيك شر إعراضهم لأنهم إن أعرضوا بعد هذا فقد أعرضوا عن حسد وحنق . وتلك حالة مظنة السعي في الكيد والأذى .
ومعنى الأمر بأن يقول : { حسبي الله } أن يقول ذلك قولاً ناشئاً عن عقد القلب عليه ، أي فاعلم أن حسبك الله وقُل حسبي الله ، لأن القول يؤكد المعلوم ويرسخه في نفس العالم به ، ولأن في هذا القول إبلاغاً للمعرضين عنه بأن الله كافيه إياهم .
والتوكل : التفويض . وهو مبالغة في وَكَل .
وهذه الآية تفيد التنويه بهذه الكلمة المباركة لأنه أمر بأن يقول هذه الكلمة بعيْنِها ولم يؤمَر بمجرد التوكل كما أمر في قوله : { فتوكل على الله إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] . ولا أخبر بأن الله حسبه مجردَ إخبار كما في قوله : { فإن حسبك الله } [ الأنفال : 62 ] .
وجملة : { لا إله إلا هو } مستأنفة للثناء ، أو في موضع الحال وهي ثناء بالوحدانية .
وعطفت عليها جملة : { وهو رب العرش العظيم } للثناء بعظيم القدرة لأن من كان رباً للعرش العظيم ثبت أنه قدير ، لأنه قد اشتهر أن العرش أعظم المخلوقات ، ولذلك وصف بالعظيم ، فالعظيم في هذه الآية صفة للعرش ، فهو مجرور .
وفي هاتين الآيتين إشعار بالإيداع والإعذارِ للناس ، وتنبيه إلى المبادرة باغتنام وجود الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ليتشرفوا بالإيمان به وهم يشاهدونه ويقتبسون من أنوار هديه ، لأن الاهتداء بمشاهدته والتلقي منه أرجى لحصول كمال الإيمان والانتفاع بقليل من الزمان لتحصيل وافر الخير الذي لا يحصل مثله في أضعاف ذلك الزمان .
وفيهما أيضاً إيماء إلى اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم لأن التذكير بقوله : { لقد جاءكم } يؤذن بأن هذا المجيء الذي مضى عليه زمن طويل يوشك أن ينقضي ، لأن لكل وارد قفولاً ، ولكل طالع أفولاً . وقد روي عن أبَيْ بن كعب وقتادة أن هاتين الآيتين هما أحدث القرآن عهداً بالله عز وجل ، أي آخرُ ما نزل من القرآن . وقيل : إن آخر القرآن نزولاً آية الكلالة خاتمةُ سورة النساء . وقيل آخره نزولاً قوله : { واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } من سورة البقرة ( 281 ) .
في « صحيح البخاري » من طريق شعيب عن الزهري عن ابن السباق عن زيد بن ثابت في حديث جمع القرآن في زمن أبي بكر رضي الله عنه قال زيد : « حتى وجدتُ من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم } إلى آخرهما . ومن طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري مع أبي خزيمة الأنصاري . ومعنى ذلك أنه بحث عن هاتين الآيتين في ما هو مكتوب من القرآن فلم يجدهما وهو يعلم أن في آخر سورة التوبة آيتين خاتمتين أو هو يحفظهما ( فإن زيداً اعتنى في جمع القرآن بحفظه وبتتبع ما هو مكتوب بإملاء النبي صلى الله عليه وسلم وبقراءة حفاظ القرآن غيره ) فوجد خزيمة أو أبا خزيمة يحفظهما . فلما أمْلاهما خزيمة أو أبو خزيمة عليه تذكّر زيد لفظهما وتذكّرهما مَن سمعهما من الصحابة حين قرأوهما ، كيف وقد قال أبَيّ بن كعب : إنهما آخر ما أنزل ، فلفظهما ثابت بالإجماع ، وتواترهما حاصل إذ لم يشك فيهما أحد وليس إثباتهما قاصراً على إخبار خزيمة أو أبي خزيمة .