قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } . ومحل " الذين " خفض أيضاً مردود على الذين الأول وأراد بالناس نعيم بن مسعود ، في قول مجاهد وعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى ( أم يحسدون الناس ) . يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وحده ، وقال محمد بن إسحاق وجماعة أراد بالناس الر كب من عبد القيس .
قوله تعالى : { إن الناس قد جمعوا لكم } . يعني أبا سفيان وأصحابه .
قوله تعالى : { فاخشوهم } . فخافوهم واحذروهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم .
قوله تعالى : { فزادهم إيماناً } . تصديقاً ويقيناً وقوة .
قوله تعالى : { وقالوا حسبنا الله } . أي : كافينا الله .
قوله تعالى : { ونعم الوكيل } . أي الموكول إليه الأمور ، فعيل بمعنى مفعول .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا أحمد بن يونس ، أخبرنا أبو بكر عن أبي حصين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين ( قال إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) .
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من " أحد " إلى المدينة ، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة ، ندب أصحابه إلى الخروج ، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله ، وطاعة لله ولرسوله ، فوصلوا إلى " حمراء الأسد " وجاءهم من جاءهم وقال لهم : { إن الناس قد جمعوا لكم } وهموا باستئصالكم ، تخويفا لهم وترهيبا ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بالله واتكالا عليه .
{ وقالوا حسبنا الله } أي : كافينا كل ما أهمنا { ونعم الوكيل } المفوض إليه تدبير عباده ، والقائم بمصالحهم .
ثم مدحهم- سبحانه - على ثباتهم وشجاعتهم وحسن اعتمادهم على خالقهم-عز وجل- ، بعد أن مدحهم قبل ذلك على حسن استجابتهم لله ولرسوله فقال - تعالى - : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .
قال الفخر الرازى ما ملخصه : نزلت هذه الآية فى غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان لما عزم على الانصراف إلى مكة فى أعقاب غزوة أحد نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرة فنقتتل بها إن شئت . فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعمر : قل له بيننا وبينك ذلك إن شاء الله .
فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران ، فألقى الله الرعب فى قلبه ، فبدا له أن يرجع . فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له : يا نعيم : إنى وعدت محمداً أن نلتقى بموسم بدر . وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ، ونشرب فيه اللبن . وقد بدا لى أن أرجع . ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة علينا ، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندى عشرة من الإبل .
فخرج نعيم إلى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأى .
أتوكم فى دياركم وقتلوا أكثركم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد .
فوقع هذا الكلام فى قلوب قوم منهم . فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك قال " والذى نفسى بيده لأخرجن إليهم ولو وحدى " .
ثم خرج صلى الله عليه وسلم فى جمع من أصحابه ، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى - وهى ماء لبنى كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام - ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين .
ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيباً . وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين .
أما أبو سفيان ومن معه فقد عادوا إلى مكة بعد أن وصلوا إلى مر الظهران . . .
وقيل إن الذين قابلهم أبو سفيان عند خروجه من مكة جماعة من بنى عبد القيس ، وقد قال لهم ما قاله لنعيم بن مسعود عندما أزمع العودة إلى مكة بعد أن قذف الله الرعب فى قلبه من لقاء المسلمين .
وعلى أية حال ففى سبب نزول هذه الآية والتى قبلها أقوال أخرى للمفسرين اكتفينا بما ذكرناه خشية الإطالة .
وقوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } بدل من قوله { الذين استجابوا للَّهِ والرسول } أو صفة له . أو فى محل نصب على المدح أى مدح الذين قال لهم الناس . . . الخ .
والمراد فى الموصول فى الآيتين طائفة واحدة من المؤمنين وهم الذين لم تمنعهم الجراح عن الخروج للقتال ، ولم يرهبهم قول من قال لهم بعد ذلك إن الناس قد جمعوا لكم .
والمراد من الناس الأول وهو قوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } جماعة بنى عبد القيس أو نعيم بن مسعود .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف قيل " الناس " إن كان نعيم هو المثبتط وحده ؟ قلت : قيل ذلك ؛ لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرد وماله إلا فرس واحد وبرد فرد . أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ، ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه .
والمراد من الناس الثانى وهو قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أبو سفيان ومن معه . فأل فيهما للعهد ، والناس الثانى غير الأول .
وقوله - تعالى - حكاية عن هؤلاء المثبطين : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أى إن أعداءكم المشركين قد جمعوا لكم جموعا كثيرة ليستأصلوكم ، فاخشوهم ولا تخرجوا لقتالهم .
وحذف مفعول { جَمَعُواْ } فلم يقل : جمعوا جيشا كبيرا أو جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم وذلك ليذهب الخيال كل مذهب فى مقدار ما جمعوا من رجال وسلاح وأموال ، ولمن هذا القول الذى صدر من هؤلاء المثبطين ، لم يلتفت إليه المؤمنون الصادقون المخلصون فى جهادهم وفى اعتمادهم على خالقهم ، بل كانوا كما أخبر الله تعالى - عنهم { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } .
أى أن هذا القول الذى قاله المثبطون ، زاد المؤمنين إيمانا على إيمانهم ، ويقينا على يقينهم ، وثباتا على ثباتهم ، وجعلهم يقولون للمرجفين بثقة واطمئنان : { حَسْبُنَا الله } أى كافينا الله أمر أعدائنا { وَنِعْمَ الوكيل } أى نعم النصير خالقنا - عز وجل - فهو الموكول إليه أمرنا ومصيرنا .
وقولهم هذا يدل دلالة واحضة على قوة إيمانهم ، وشدة ثقتهم فى نصر الله - تعالى - لهم ، مهما كثر عدد أعدائهم ، ومهما تعددت مظاهر قوتهم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف زادهم نعيم أو مقوله إيماناً ؟ قلت : لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد ، وأظهروا حمية الإسلام ، كان ذلك أثبت ليقينهم ، وأقوى لاعتقادهم ، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج . ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى جهة العدو طاعة عظيمة ، والطاعات من جملة الإيمان ، لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل . وعن ابن عمر : قلنا يا رسول الله : إن الإيمان يزيد وينقص ؟ قال : " نعم . يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار " . وعن عمر - رضى الله عنه - أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزداد إيمانا . وعنه : " لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به " .
وقال ابن كثير : روى البخارى عن ابن عباس : قال : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقى به فى النار . وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال لهم الناس : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " .
وعن أبى هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا : " حسبنا الله ونعم الوكيل " " .
{ الذين } صفة للمحسنين المذكورين ، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين حملهم أبو سفيان ذلك ، وقد ذكرته قبل{[3719]} ، ف { الناس } الأول ركب عبد القيس و { الناس } الثاني عسكر قريش ، وقوله تعالى : { فزادهم إيماناً } ، أي ثبوتاً واستعداداً ، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال ، وأطلق العلماء عبارة : أن الإيمان يزيد وينقص ، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان الذي هو تصديق واحد بشيء ما ، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في متعلقاته دون ذاته فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال : يزيد وينقص من حيث تزيد الأعمال الصادرة عنه وتنقص ، لا سيما أن كثيراً من العلماء يوقعون اسم الإيمان على الطاعات ، وذهب قوم : إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض والإخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان ، فالقول فيه إن الإيمان يزيد وينقص قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما يتصور النقص بالإضافة إلى الأعلم ، وذهب قوم من العلماء : إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من طريق الأدلة ، فتزيد الأدلة عند واحد ، فيقال في ذلك : إنها زيادة في الايمان ، وهذا كما يقال في الكسوة ، إنها زيادة في الإيمان ، وذهب أبو المعالي في الإرشاد : إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو بثبوت المعتقد وتعاوره دائباً ، قال : وذلك أن الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى الله عليه وسلم وللصلحاء متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، يصحبه حيناً ويفارقه حيناً في الفترة ، فذلك الآخر أكثر إيماناً ، فهذه هي الزيادة والنقص .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وفي هذا القول نظر{[3720]} .
وقوله تعالى : { فزادهم إيماناً } لا يتصور أن يكون من جهة الأدلة ، ويتصور في الآية الجهات الأخر الثلاث ، وروي أنه لما أخبر الوفد من عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حملهم أبو سفيان ، وأنه ينصرف إليهم بالناس ليستأصلهم ، وأخبر بذلك أيضاً أعرابي ، شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : قولوا { حسبنا الله ونعم الوكيل }{[3721]} فقالوا واستمرت عزائمهم على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء ، وألقى الرعب في قلوب الكفار فمروا{[3722]} .
يجوز أن يكون { الذين قال لهم الناس } إلى آخره ، بدلاً من { الذين استجابوا لله والرسول } [ آل عمران : 172 ] ، أو صفة له ، أو صفة ثانية للمؤمنين في قوله : { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } [ آل عمران : 171 ] على طريقة ترك العطف في الأخبار . وإنَّما جيء بإعادة الموصول ، دون أن تعطف الصلة على الصلة ، اهتماماً بشأن هذه الصلة الثانية حتّى لا تكون كجزء صلةٍ ، ويجوز أن يكون ابتداء كلام مستأنففٍ ، فيكون مبتدأ وخبره قوله : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } [ آل عمران : 175 ] أي ذلك القول ، كما سيأتي . وهذا تخلّص بذكر شأن من شؤون المسلمين كفاهم الله به بأس عدوّهم بعد يَوم أحُد بعامٍ ، إنجازاً لوعدهم مع أبي سفيان إذ قال : مَوعدكم بدر في العام القابل ، وكان أبو سفيان قد كره الخروج إلى لقاء المسلمين في ذلك الأجل ، وكاد للمسلمين ليُظهر إخلاف الوعد منهم ليجعل ذلك ذريعة إلى الإرجاف بين العرب بضعف المسلمين ، فجَاعَل ركباً من عبدِ القيس مارينَ بمَرّ الظَّهْرانَ قرب مكّة قاصدين المدينة للميرة ، أن يخبروا المسلمين بأنّ قريشاً جمعوا لهم جيشاً عظيماً ، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي ، فأخبر نعيم ومن معه المسلمين بذلك فزاد ذلك المسلمين استعداداً وحميّة للدين ، وخرجوا إلى الموعد وهو بدر ، فلم يجدوا المشركين وانتظروهم هنالك ، وكانت هنالك سوق فاتّجَرُوا ورجعوا سالمين غير مذمومين ، فذلك قوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } أي الركب العَبْدِيُّون { إن الناس قد جمعوا لكم } أي إنّ قريشاً قد جمعوا لكم . وحذف مفعول { جمعوا } أي جمعوا أنفسهم وعُددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول .
وقال بعض المُفسّرين وأهل العربية : إنّ لفظ الناس هنا أطلق على نُعيم بن مسعود وأبي سفيان ، وجعلوه شاهداً على استعمال الناس بمعنى الواحد والآية تحتمله ، وإطلاق لفظ الناس مراداً به واحد أو نحوه مستعمل لقصد الإبهام ، ومنه قوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] قال المفسّرون : يعني ب ( الناس ) محمداً صلى الله عليه وسلم
وقوله : { فزادهم إيماناً } أي زادهم قول الناس ، فضمير الرفع المستتر في { فزادهم } عائد إلى القول المستفاد من فعل { قال لهم الناس } أو عائد إلى الناس ، ولمّا كان ذاك القول مراداً به تخويف المسلمين ورجوعهم عن قصدهم . وحصل منه خلاف ما أراد به المشركون ، جُعل ما حصل به زائداً في إيمان المسلمين . فالظاهر أنّ الإيمان أطلق هنا على العمل ، أي العزم على النصر والجهاد ، وهو بهذا المعنى يزيد وينقص . ومسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة قديمة ، والخلاف فيها مبنيّ على أنّ الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان ، كما قال تعالى : { وما كان اللَّه ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] يعني صَلاتكم . أمّا التَّصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثة الرسل وصدق الرسول ، فلا يقبل النقص ، ولا يقبل الزيادة ، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى ، وإنّما هو خلاف مبني على اللفظ ، غير أنّه قد تقرّر في علم الأخلاق أنّ الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلّته ، أو طال زمانه ، أو قارنته التجارب ، يزداد جلاء وانكشافاً ، وهو المعبّر عنه بالمَلَكة ، فلعلّ هذا المعنى ممّا يراد بالزيادة ، بقرينة أنّ القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة ، وقد قال إبراهيمُ عليه السلام : { بلى ولكن ليطمئنّ قلبي } [ البقرة : 260 ] .
وقولهم : { حسبنا الله ونعم الوكيل } كلمة لعلّهمُ ألهموها أو تلقّوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وحسب أي كاف ، وهو اسم جامد بمعنى الوصف ليس له فعل ، قالوا : ومنه اسمه تعالى الحَسيب ، فهو فعيل بمعنى مُفعل . وقيل : الإحساب هو الإكفاء ، وقيل : هو اسم فعل بمعنى كفى ، وهو ظاهر القاموس . وردّه ابن هشام في توضيحه بأنّ دخول العوامل عليه نحو { فإنّ حسبك الله } ، وقولهم : بحسبك درهم ، ينافي دعوى كونه اسم فعل لأنّ أسماء الأفعال لا تدخل عليها العوامل ، وقيل : هو مصدر ، وهو ظاهر كلام سيبويه . وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظاً دون معنى ، فيبنى على الضمّ مثل : قبلُ وبعدُ ، كقولهم : اعطه درهمين فَحَسْبُ ، ويتجدّد له معنى حينئذ فيكون بمعنى لا غير . وإضافته لا تفيده تعريفاً لأنّه في قوة المشتقّ ولذلك توصف به النكرة ، وهو ملازم الإفراد والتذكير فلا يثنّى ولا يجمعُ ولا يؤنّث لأنّه لجموده شابَه المصدر ، أو لأنّه لمّا كان اسم فعل فهو كالمصدر ، أو لأنّه مصدر ، ، وهو شأن المصادر ، ومَعناها : إنّهم اكتفوا بالله ناصراً وإن كانوا في قِلّة وضعف .
وجملة { ونعم الوكيل } معطوفة على { حسبنا الله } في كلام القائلين ، فالواو من المحكي لا من الحكاية ، وهو من عطف الإنشاء على الخبر الذي لا تطلب فيه إلا المناسبة . والمخصوص بالمدح محذوف لتقدّم دليله .
و { الوكيل } فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه . يقال : وكل حاجته إلى فلان إذا اعتمد عليه في قضائها وفوّض إليه تحصيلها ، ويقال للذي لا يستطيع القيام بشؤونه بنفسه : رَجل وَكَل بفتحتين أي كثير الاعتماد على غيره ، فالوكيل هو القائم بشأن من وكّله ، وهذا القيام بشأن الموكِّل يختلف باختلاف الأحوال الموكّل فيها ، وبذلك الاختلاف يختلف معنى الوكيل ، فإن كان القيام في دفع العداء والجور فالوكيل الناصر والمدافع { قل لست عليكم بوكيل } [ الأنعام : 66 ] ، ومنه { فمن يجادل اللَّه عنهم يوم القيامة أمَّن يكون عليهم وكيلاً } [ النساء : 109 ] . ومنه الوكيل في الخصومة ، وإن كان في شؤون الحياة فالوكيل الكافل والكافي منه : { أن لا تتخذوا من دوني وكيلاً } [ الإسراء : 2 ] كما قال : { قد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ النحل : 91 ] ولذلك كان من أسمائه تعالى : الوكيل ، وقولُه : { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ومنه الوكيل على المال ، ولذلك أطلق على هذا المعنى أيضاً اسم الكفيل في قوله تعالى : { وقد جعلتم اللَّه عليكم كفيلاً } .
وقد حمل الزمخشري الوكيل على ما يشمل هذا عند قوله تعالى : { وهو على كل شيء وكيل } في سورة [ الأنعام : 102 ] ، فقال : وهو مالك لكلّ شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال . وذلك يدل على أنّ الوكيل اسم جامع للرقيب والحافظ في الأمور التي يُعني الناس بحفظها ورقابتها وادّخارها ، ولذلك يتقيّد ويتعمّم بحسب المقامات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الذين قال لهم الناس}، يعني نعيم بن مسعود وحده، {إن الناس قد جمعوا لكم} الجموع لقتالكم، {فاخشوهم فزادهم إيمانا}، يعني تصديقا، {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}، يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم، فأصابوا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم، والذين في موضع خفض مردود على المؤمنين، وهذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول والناس الأول هم قوم فيما ذكر لنا، كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أُحد إلى حمراء الأسد¹ والناس الثاني: هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأُحد، يعني بقوله: {قَدْ جَمعُوا لَكُمْ}: قد جمعوا الرجال للقائكم، والكرّة إليكم لحربكم {فاخْشَوْهُمْ} يقول: فاحذروهم، واتقوا لقاءهم، فإنه لا طاقة لكم بهم، {فَزادهُمْ إيمَانا} يقول: فزادهم ذلك من تخويف من خوّفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين يقينا إلى يقينهم، وتصديقا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا ثقة بالله، وتوكلاً عليه، إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين {حَسْبُنا اللّهُ ونِعْم الوكِيل} يعني بقوله: حسبنا الله: كفانا الله، يعني: يكفينا الله ونعم الوكيل، يقول: ونعم المولى لمن وليه وكفله، وإنما وصف تعالى نفسه بذلك لأن الوكيل في كلام العرب: هو المسند إليه القيام بأمر من أسند إليه القيام بأمره، فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات قد كانوا فوّضوا أمرهم إلى الله، ووثقوا به، وأسندوا ذلك إليه وصف نفسه بقيامه لهم بذلك، وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة، فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فزادهم إيمانا} لما وجدوا الأمر على ما قال لهم صلى الله عليه وسلم ووعد لهم لا على ما قال أولئك فزادهم ذلك إيمانا أي تصديقا زادهم، قيل: جرأة وقوة وصلابة على ما كانوا من قبل في الحرب والقتال، ويحتمل زادهم ذلك في إيمانهم قوة وصلابة وتصديقا، وقيل: قوله عز وجل {فزادهم إيمانا} أي تصديقا ويقينا بجرأتهم على عدوهم ويقينهم بربهم واستجابتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فزادهم إيماناً}، أي ثبوتاً واستعداداً، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) الذين قال لهم الناس هم الذين استجابوا لله وللرسول فخرجوا إلى حمراء الأسد للقاء المشركين إذ عاد بهم أبو سفيان لاستئصالهم وكانوا سبعين رجلا كما تقدم. ولكن روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعكرمة أن الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذلك بيننا وبينك إن شاء الله "(كما تقدم) فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل "مجنة" من ناحية "مر الظهران" وقيل بلغ "عسفان" فألقى الله تعالى الرعب من قبله فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن أرجع وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها في يدي سهيل بن عمر. فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبي سفيان، فقال لهم: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم! فوالله لا يفلت منكم أحد. فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي" فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون "حسبنا الله ونعم الوكيل" حتى وافى بدرا فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلقوا أحدا لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة (وكان معه- كما قال ابن القيم- ألفا رجل) فسماه أهل مكة جيش السويق، وقالوا لهم إنما خرجتم لتشربوا السويق. قال بعضهم: ووافى المسلمون سوق بدر وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين...
فعلى هذه الرواية يكون المراد بالناس الذين قالوا للمؤمنين إن الناس قد جمعوا لكم نعيم بن مسعود ومن وافقه فأذاع قوله وعن الشافعي أنهم أربعة. وروي أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جُعلا، وعزاه الرازي إلى ابن عباس ومحمد بن إسحاق، وذكر قولا ثالثا عن السدي أن الناس الذين قالوا هم المنافقون. وأما الناس الذين جمعوا الجموع لقتال المسلمين فهو أبو سفيان وأعوانه قولا واحدا. قال الأستاذ الإمام: يجوز أن يكون نعيم بن مسعود قال ذلك، وأن يكون قاله ركب عبد القيس وتحدث به المنافقون. فإن الأمر الكبير من شأنه أن يتحدث به الناس ويذهبون فيه مع أهوائهم. وقال أيضا: إن السبعين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى أو (بدر الموعد) هم الذين خرجوا معه إلى حمراء الأسد. فتصدق الآية على القصتين وتكون الآيات متأخرة النزول عما قبلها. وذكر ابن القيم في زاد المعاد والحلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر الموعد في ألف وخمسمائة، ويجمع بينه وبين القول الأول بأن يكون خرج أولا بالسبعين ثم تبعه الباقون.
(فزادهم إيمانا) أي فزادهم قول الناس لهم إيمانا بالله وثقة به من حيث خشوه ولم يخشوا الناس الذين خوّفوا منهم بأنهم جمعوا لهم الجموع واعتمدوا على نصره ومعونته وإن قل عددهم وضعف جلدهم، فإنه هو العزيز القوي، وذلك من شأن المؤمنين كما جاء في الآية الثانية من الآيتين التاليتين. وكان من قوة إيمانهم وزيادته أن أقدموا وهم عدد قليل قد أثخنوا بالجراح على محاربة الجيش الكبير. فالزيادة كانت في الإذعان النفسي، والشعور القلبي، وتبعتها الزيادة في العمل، بعد ذلك القول الدال على ما انطوت عليه النفس من اليقين بوعد الله ووعيده، والشعور بعزته وسلطانه، فلولا ذلك لم يكن لهم حول ولا قوة على تلك الاستجابة والإقدام على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان، فمن يقول إن الإيمان النفسي لا يزيد ولا ينقص فقد نظر إلى الاصطلاحات اللفظية لا إلى نفسه في إدراكها وشعورها وقوتها في الإذعان وضعفها.
قالوا: إن التصديق لا يعتد به ويكون إيمانا صحيحا إلا إذا وصل إلى درجة اليقين، فإذا نزل عن مرتبة اليقين كان ظنا أو شكا. وليس الظن إيمانا يعتد به والشك كفر صريح. ونقول: إن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ولا يعد إيمانا صحيحا هو ما لوحظ فيه جواز وقوع الطرف المخالف أي ما لوحظ فيه طرفان متقابلان. أحدهما أن هذا الأمر ثابت وثانيهما أنه يحتمل احتمالا ضعيفا أن لا يكون ثابتا، فإن جزم الذهن بأنه ثابت فلم يتصور الطرف المخالف، وهو عدم الثبوت كان جزمه هذا إيمانا، وإن لم يكن ناشئا عن برهان مؤلف من المقدمات اليقينية في عرف علماء المنطق على طريقتهم أو غير طريقتهم، ولا ملاحظا فيه استحالة الطرف المخالف. وأكثر المؤمنين بالله ورسله والمؤمنين بالجبت والطاغوت في هذه المرتبة من الإيمان، ويصح أن يطلق على أهلها لفظ "الموقنين".
ولو كان الإيمان لا يصح إلا ببرهان منطقي على إثبات قضاياه واستحالة ضدها لما تصور أن يرتد أحد عن الإسلام بعد دخوله فيه، لأن اليقين بهذا المعنى لا يمكن الرجوع عنه، وإن أمكن مكابرته ومجاحدته باللسان، ولذلك قال الأستاذ الإمام:"الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في العلم كلاهما قليل في الناس "يعني بذلك اليقين المنطقي الذي تنتهي مقدماته إلى البديهيات. ولكن الردة ثابتة نقلا ووقوعا. قال تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه) [النحل: 106] وقال تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا) [النساء: 138].
هذا وإن لليقين مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا وحصرها بعضهم في ثلاث: علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين. فالارتقاء من درجة إلى أخرى زيادة في نفس اليقين. ويروى عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال:"لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا "وهذا القول مبني على أن اليقين يقبل الزيادة في نفسه ومن أيقن بأن فلانا طبيب ماهر لأنه رآه نجح في معالجة بعض المرضى يضعف يقينه إذا رآه خاب في معالجة آخرين ويزداد إذا رآه ينجح آونة بعد أخرى، ولا سيما في معالجة الأمراض الباطنية التي يعسر تشخيصها.
ثم إن فائدة الإيمان إنما تكون بإذعان النفس الذي يحرك فيها الخوف والرجاء وغيرهما من وجدانات الدين التي يترتب عليها ترك المنكر المنهي عنه وفعل المعروف المأمور به، ولولا ذلك لم يكن للدين فائدة في إصلاح حال البشر. وهل يقول عاقل إن الإذعان والخوف والرجاء من الأمور التي لا تقبل الزيادة والنقصان؟ أما أنه لو كان إذعان جميع المؤمنين في درجة واحدة لتساووا في الأعمال، ولكنهم متفاوتون فيها تفاوتا عظيما كما هو ثابت بالمشاهدة، فثبت أنهم متفاوتون في منشأها من النفس وهو الإذعان، الذي يقوى ويضعف بالتبع للإيمان، وهذا عين قبول الزيادة والنقصان.
ومن هنا تفهم معنى إدخال السلف الصالح الأعمال في مفهوم الإيمان، فإن كل اعتقاد له أثر في النفس يتبعه عمل من الأعمال، فهي سلسلة مؤلفة من ثلاث حلقات يحرك بعضها بعضا، والإمام الغزالي يعبر عنها بالعلم والحال والعمل، فيقول: إن العلم بأن كذا يرضي الله تعالى أو كذا يسخطه مثلا يحدث في النفس حالا يترتب عليها فعل ما يرضيه ويقتضي مثوبته؛ وترك ما يسخطه ويقتضي عقوبته؛ ويقول إن ترتب بعضها على بعض واجب. وعبارته: إن العلم يوجب الحال والحال يوجب العمل. فارجع إليه في كتاب التوبة وغيره من كتب المجلد الرابع من الإحياء.
وأما زيادة الإيمان بزيادة متعلقاته وهي المسائل التي يؤمن بها المؤمن التي يعبر عنها بشعب الإيمان فهي ظاهرة لا تحتاج في بيانها إلى شرح طويل. فإن هذه المسائل لا يمكن أن تتلقى إلا بالتدريج فكلما تلقى المؤمن مسألة منها ازداد إيمانا. وليس هذا خاصا بالكافر الذي يدخل في الإسلام فإن الناشئ بين المؤمنين مثله في ذلك. وليست المسائل التي تزيد الإنسان معرفتها إيمانا محصورة في النصوص التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فإن القرآن هدانا إلى التفكر والنظر في ملكوت السماوات والأرض لنزداد إيمانا ونعتبر ونستفيد، وذلك يفتح لنا أبوابا من العلم بالله وسننه لا نهاية لها. فكل ما نهتدي إليه في بحثنا ونظرنا من أسرار الكائنات، وسنن الله تعالى في المخلوقات. فإنا نزداد به علما بالله وإيمانا بقدرته وحكمته البالغة، وقد قال سبحانه لأقوى الناس إيمان وأوسعهم علما به وبسننه (وقل رب زدني علما) [طه: 114].
وكذلك آيات القرآن تزيد من يتلقاها إيمانا كلما تلقى شيئا منها وقد يتدبرها المؤمن بعد العلم بها بأيام أو سنين، فيفهم منها ما لم يكن يفهم فيزداد إيمانا. قال تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) [التوبة: 124-125] وقال علي رضي الله عنه حين سئل هل خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء: لا إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن.
وليس هذا النوع من زيادة الإيمان هو المراد من الآية التي نحن بصدد تفسيرها وإنما المراد به النوع الأول وهو الزيادة في أصل اليقين والإذعان، المؤثر في الوجدان فهي من قبيل قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) [الأحزاب: 21]
(وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) أي وقالوا معبرين عن إيمانهم حسبنا الله أي هو كافينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا لنا. وحسبنا بمعنى محسبنا، فهو من أحسبه إذا كفاه كما قالوا." ونعم الوكيل "الذي توكل إليه الأمور، هو فإنه لا يعجزه أن ينصرنا عليهم، على قلتنا وكثرتهم، أو يلقي الرعب في قلوبهم، ويكفينا شر بغيهم وكيدهم وقد كان الأمر كذلك، فإن الله تعالى ألقى الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه على كثرتهم فولوا مدبرين، وأعز الله بذلك رسوله والمؤمنين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وقالوا حسبنا الله} أي: كافينا كل ما أهمنا {ونعم الوكيل} المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة: صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم -كما أبلغهم رسل أبي سفيان- وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -: (الذين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل).. هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة. وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن يكون {الذين قال لهم الناس} إلى آخره، بدلاً من {الذين استجابوا لله والرسول} [آل عمران: 172]، أو صفة له، أو صفة ثانية للمؤمنين في قوله: {وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [آل عمران: 171] على طريقة ترك العطف في الأخبار. وإنَّما جيء بإعادة الموصول، دون أن تعطف الصلة على الصلة، اهتماماً بشأن هذه الصلة الثانية حتّى لا تكون كجزء صلةٍ، ويجوز أن يكون ابتداء كلام مستأنفٍ، فيكون مبتدأ وخبره قوله: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} [آل عمران: 175] أي ذلك القول، كما سيأتي. وهذا تخلّص بذكر شأن من شؤون المسلمين كفاهم الله به بأس عدوّهم بعد يَوم أحُد بعامٍ، إنجازاً لوعدهم مع أبي سفيان إذ قال: مَوعدكم بدر في العام القابل، وكان أبو سفيان قد كره الخروج إلى لقاء المسلمين في ذلك الأجل، وكاد للمسلمين ليُظهر إخلاف الوعد منهم ليجعل ذلك ذريعة إلى الإرجاف بين العرب بضعف المسلمين، فجَاعَل ركباً من عبدِ القيس مارينَ بمَرّ الظَّهْرانَ قرب مكّة قاصدين المدينة للميرة، أن يخبروا المسلمين بأنّ قريشاً جمعوا لهم جيشاً عظيماً، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي، فأخبر نعيم ومن معه المسلمين بذلك فزاد ذلك المسلمين استعداداً وحميّة للدين، وخرجوا إلى الموعد وهو بدر، فلم يجدوا المشركين وانتظروهم هنالك، وكانت هنالك سوق فاتّجَرُوا ورجعوا سالمين غير مذمومين، فذلك قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} أي الركب العَبْدِيُّون {إن الناس قد جمعوا لكم} أي إنّ قريشاً قد جمعوا لكم. وحذف مفعول {جمعوا} أي جمعوا أنفسهم وعُددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول.
وقال بعض المُفسّرين وأهل العربية: إنّ لفظ الناس هنا أطلق على نُعيم بن مسعود وأبي سفيان، وجعلوه شاهداً على استعمال الناس بمعنى الواحد والآية تحتمله، وإطلاق لفظ الناس مراداً به واحد أو نحوه مستعمل لقصد الإبهام، ومنه قوله تعالى: {أم يحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله} [النساء: 54] قال المفسّرون: يعني ب (الناس) محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {فزادهم إيماناً} أي زادهم قول الناس، فضمير الرفع المستتر في {فزادهم} عائد إلى القول المستفاد من فعل {قال لهم الناس} أو عائد إلى الناس، ولمّا كان ذاك القول مراداً به تخويف المسلمين ورجوعهم عن قصدهم. وحصل منه خلاف ما أراد به المشركون، جُعل ما حصل به زائداً في إيمان المسلمين. فالظاهر أنّ الإيمان أطلق هنا على العمل، أي العزم على النصر والجهاد، وهو بهذا المعنى يزيد وينقص. ومسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة قديمة، والخلاف فيها مبنيّ على أنّ الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان، كما قال تعالى: {وما كان اللَّه ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] يعني صَلاتكم. أمّا التَّصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثة الرسل وصدق الرسول، فلا يقبل النقص، ولا يقبل الزيادة، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى، وإنّما هو خلاف مبني على اللفظ، غير أنّه قد تقرّر في علم الأخلاق أنّ الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلّته، أو طال زمانه، أو قارنته التجارب، يزداد جلاء وانكشافاً، وهو المعبّر عنه بالمَلَكة، فلعلّ هذا المعنى ممّا يراد بالزيادة، بقرينة أنّ القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة، وقد قال إبراهيمُ عليه السلام: {بلى ولكن ليطمئنّ قلبي} [البقرة: 260].
وقولهم: {حسبنا الله ونعم الوكيل} كلمة لعلّهمُ ألهموها أو تلقّوها عن النبي صلى الله عليه وسلم وحسب أي كاف، وهو اسم جامد بمعنى الوصف ليس له فعل، قالوا: ومنه اسمه تعالى الحَسيب، فهو فعيل بمعنى مُفعل. وقيل: الإحساب هو الإكفاء، وقيل: هو اسم فعل بمعنى كفى، وهو ظاهر القاموس. وردّه ابن هشام في توضيحه بأنّ دخول العوامل عليه نحو {فإنّ حسبك الله}، وقولهم: بحسبك درهم، ينافي دعوى كونه اسم فعل لأنّ أسماء الأفعال لا تدخل عليها العوامل، وقيل: هو مصدر، وهو ظاهر كلام سيبويه. وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظاً دون معنى، فيبنى على الضمّ مثل: قبلُ وبعدُ، كقولهم: اعطه درهمين فَحَسْبُ، ويتجدّد له معنى حينئذ فيكون بمعنى لا غير. وإضافته لا تفيده تعريفاً لأنّه في قوة المشتقّ ولذلك توصف به النكرة، وهو ملازم الإفراد والتذكير فلا يثنّى ولا يجمعُ ولا يؤنّث لأنّه لجموده شابَه المصدر، أو لأنّه لمّا كان اسم فعل فهو كالمصدر، أو لأنّه مصدر،، وهو شأن المصادر، ومَعناها: إنّهم اكتفوا بالله ناصراً وإن كانوا في قِلّة وضعف.
وجملة {ونعم الوكيل} معطوفة على {حسبنا الله} في كلام القائلين، فالواو من المحكي لا من الحكاية، وهو من عطف الإنشاء على الخبر الذي لا تطلب فيه إلا المناسبة. والمخصوص بالمدح محذوف لتقدّم دليله.
و {الوكيل} فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه. يقال: وكل حاجته إلى فلان إذا اعتمد عليه في قضائها وفوّض إليه تحصيلها، ويقال للذي لا يستطيع القيام بشؤونه بنفسه: رَجل وَكَل بفتحتين أي كثير الاعتماد على غيره، فالوكيل هو القائم بشأن من وكّله، وهذا القيام بشأن الموكِّل يختلف باختلاف الأحوال الموكّل فيها، وبذلك الاختلاف يختلف معنى الوكيل، فإن كان القيام في دفع العداء والجور فالوكيل الناصر والمدافع {قل لست عليكم بوكيل} [الأنعام: 66]، ومنه {فمن يجادل اللَّه عنهم يوم القيامة أمَّن يكون عليهم وكيلاً} [النساء: 109]. ومنه الوكيل في الخصومة، وإن كان في شؤون الحياة فالوكيل الكافل والكافي منه: {أن لا تتخذوا من دوني وكيلاً} [الإسراء: 2] كما قال: {قد جعلتم الله عليكم كفيلاً} [النحل: 91] ولذلك كان من أسمائه تعالى: الوكيل، وقولُه: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ومنه الوكيل على المال، ولذلك أطلق على هذا المعنى أيضاً اسم الكفيل في قوله تعالى: {وقد جعلتم اللَّه عليكم كفيلاً}.
وقد حمل الزمخشري الوكيل على ما يشمل هذا عند قوله تعالى: {وهو على كل شيء وكيل} في سورة [الأنعام: 102]، فقال: وهو مالك لكلّ شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال. وذلك يدل على أنّ الوكيل اسم جامع للرقيب والحافظ في الأمور التي يُعني الناس بحفظها ورقابتها وادّخارها، ولذلك يتقيّد ويتعمّم بحسب المقامات.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الكلام متصل بالكلام في أعقاب أحد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابتهم الجراح، ولم تمنعهم هذه الجراح من أن يجيبوا داعي الله، ويستعدوا، ويتقدموا؛ ويتغلبوا على روح التردد والهزيمة التي كان يبثها المنافقون، وترشح لها الجراح، وإن ابا سفيان قد هم ان يرجع إلى المدينة، فخرجوا للقائه، ولكن ثبطه الله، فعادوا، ولقد كان أولئك الذين استجابوا لداعي الجهاد، وهم في تلك الحال، لهم موقف آخر جليل ذو شأن في الجهاد، وأثر في الإسلام، ولقد ذكر الله ذلك الموقف بقوله تعالت كلماته: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا}.
وقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} الموصول فيها بدل من الموصول في قوله تعالى: {الذين استجابوا لله والرسول} فهم طائفة واحدة لم تتعدد، ولكن تعدد عملهم، فهم في الأول لم تثقلهم الجراح عن أن يجيبوا الرسول صلى اله عليه وسلم، وهم في الثاني لم ترهبهم أقوال الناس..المتضافرة عن ان يتقدموا للقتال، وقد تكاثرت أسباب الرهبة، وأخبار الاستعداد، فهذا موقف آخر، وإن كان الذين نالوا الفضلين طائفة واحدة، وذلك الموقف هو أن أبا سفيان ومن معه لما رجعوا لا يلوون على شيء، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: موعدكم بدر القابل فقبل النبي ذلك التهديد، وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، وكان تجار قريش يقدمون إلى بدر في ذي القعدة، ويسمون ذلك بدرا الصغرى، فاستعد النبي صلى الله عليه وسلم للقائهم بعد نحو شهر من أحد، وخرج أبو سفيان في أهل مكة ولكن ألقى الله الرعب في قلوبهم، فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال: يا نعيم إني أوعدت محمدا ان نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي، ولكن إن خرج محمد لم أخرج زاده ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثبطهم و لك عندي عشرة من الإبل، ويروى ان الذين دسهم أبو سفيان ليبثوا الهزيمة في قلوبهم هم ركب عبد القيس، ويظهر انه تكرر ذلك الدس من أبي سفيان، ولذلك قال الله تعالى: {الذين قال لهم الناس} أي تضافرت الأخبار من هؤلاء الناس الذين اندفعوا يثبطون، ويقولون إن الناس- أي مشركي مكة- قد جمعوا لكم، وكانوا يقولون في أخبارهم المثبطة الملقية بالرعب لمن لا يعتمد على الله تعالى وقد وجدوا المؤمنين يتجهزون للمعركة (ما هذا برأي، آتوكم في دياركم وقراركم، فلم يفلت منك احد إلا شريدا، أفتريدون ان تخرجوا، وقد جمعوا لكم عند الموسم؟ فوالله لا يفلت منكم احد) فقال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد" فخرج في سبعين راكبا، وقيل ألف راكب.
وقوله تعالى حكاية عنهم: {قد جمعوا لكم} قد حذف فيه المفعول، فلم يقل جمعوا جيشا، وذلك ليذهب الخيال كل مذهب في مقدار ما جمعوا من أسلحة، ومقدار من جمعوا من الرجال وأموالهم، فيكون ذلك أشد تخويفا، ولكن لم يثبط ذلك من عزيمة المسلمين وإرادتهم القتال، وقد حكى سبحانه حال المؤمنين بقوله تعالى: {فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله وتعم الوكيل}.
أولئك المثبطون الدساسون قالوا ما قالوا، وقالوا: اخشوهم، أي قدروا انهم سينزلقون بكم الأذى الشديد والقتل الذريع إن خرجتم، فهو إفزاع عن المستقبل، والفرق بين الخوف والخشية ان الخوف يكون من امر حاضر، والخشية من امر متوقع، وهي إن كانت في الحاضر تكون خشية من قوي لما يكون منه في القابل.
وكان أثر ذلك الدس المرهب أمرين:
أحدهما: زيادة الإيمان، والثاني التفويض إلى الله تعالى.
فأما زيادة الإيمان هنا فمعناها قوة اليقين وعدم تضعضع الثقة في الله تعالى.
والأمر الثاني الذي كان أثرا لذلك الكلام المدسوس المثبط انهم قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل} ومعنى حسبنا أي كافينا، أي إذا كانوا هم يستنصرون بقواتهم يحشدونها، وعددهم يستكثرون به، ويعدون ذلك كفايتهم، فنحن كفايتنا من الله تعالى، وقد وعدنا بالنصر، وهو نعم النصير المعاون، فالوكيل هنا معناه النصير الكفيل المعاون، والوكيل الذي يستعان به في الدنيا إنما يكون لفضل قوته أو خبرته او حكمته، فكيف يكون والمستعان هو الله سبحانه وتعالى، وهو نعم المولى ونعم النصير، فالوكيل هنا هو القادر الذي توكل إليه الأمور.
ويتكلم العلماء حول قوله تعالى: {فزادهم إيمانا} فيقولون هل الإيمان يزيد وينقص؟ لقد قال بعض العلماء إنه لا يزيد ولا ينقص لأنه اعتقاد وإذعان، وتلك حقيقة ثابتة إما ان توجد كاملة وإما ألا توجد، ويكون معنى الزيادة على هذا الرأي ليست زيادة أصل الإيمان، إنما زيادة الثقة بنصر الله تعالى وعونه، وذلك من ثمرات الإيمان، لا من أصله، وهو شعبة منه، وليس جوهره.
وقال آخرون وهم الأكثرون: إن الإيمان يزيد وينقص، وقد قال الزمخشري في تصوير ذلك الرأي من هذه الآية: لما أخلصوا النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم، كما يزاد الإيقان بتنا صر الحجج، ولأن خروجهم على أثر التثبيط- إلى العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان لأن الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل، وعن ابن عمر رضي الله عنه انه كان يأخذ بيد الرجل، فيقول: قم بنا نزدد إيمانا، وعنه:"لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح".
ولقد قالوا: إن قوة الإيمان بإشراقه في القلب، وشدة الإشراق، وروى عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الإيمان ليبدو لمظة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة" 44. أي كثر الصفاء وأشرق البياض، وكان العمل الصالح.
والإيمان هو اليقين الجازم القاطع واليقين وهو من حيث أثره في النفس ثلاث مراتب:
أولاها: علم اليقين، وهي ان تتوافر الأدلة والاطمئنان حتى يكون اليقين الجازم القاطع الذي لا يكون معه شك ولا ريب، ولا إنكار أو جحود، بل تسليم وإذعان من غير مماراة.
وثانيها: عين اليقين، وهو ان تكون أعماله كلها وفق ذلك الاعتقاد الجازم، فيكون اليقين قد رؤى عيانا في الجوارح والأعمال.
والثالثة، وهي المرتبة العليا: حقيقة اليقين، وهي أن يصل إلى درجة تشبه المشاهدة او تكون من جنسها وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:"اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" 45 وهذه مرتبة المشاهدة ولقد وصل إليها الأبرار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولقد قال على كرم الله وجهه: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا) لأنه رضي الله عنه وصل إلى مرتبة المشاهدة. وفي الجملة فإننا نرى ان الإيمان يزيد وينقص والله سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور.