100- واتخذ الكافرون - مع هذه الدلائل - الملائكة والشياطين شركاء لله ، وقد خلقهم فلا يصح مع علمهم ذلك أن يعبدوا غيره ، وهو الذي خلق الملائكة والشياطين ، فلا ينبغي أن يعبدوهم وهم مخلوقون مثلهم ! . . واختلق هؤلاء الكفار لله بنين : فزعم النصارى أن المسيح ابن الله ، وزعم مشركو بعض العرب أن الملائكة بنات الله ، وذلك جهل منهم . تنزّه الله تعالى عما يفترون في أوصافه سبحانه !
قوله تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } ، يعني : الكافرين جعلوا لله شركاء الجن .
قوله تعالى : { وخلقهم } ، يعني : وهو خلق الجن ، قال الكلبي : نزلت في الزنادقة ، أثبتوا الشركة لإبليس في الخلق ، فقالوا : الله خالق النور ، والناس ، والدواب ، والأنعام ، وإبليس خالق الظلمة ، والسباع ، والحيات ، والعقارب . وهذا كقوله : { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } [ الصافات : 158 ] وإبليس من الجن .
قوله تعالى : { وخرقوا } ، قرأ أهل المدينة { وخرقوا } ، بتشديد الراء على التكثير ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، أي : اختلقوا .
قوله تعالى : { له بنين وبنات بغير علم } ، وذلك مثل قول اليهود ( عزير ابن الله ) ، وقول النصارى ( المسيح ابن الله ) ، وقول كفار مكة ( الملائكة بنات الله ) ، ثم نزه نفسه فقال : { سبحانه وتعالى عما يصفون } .
{ 100 - 104 } { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ }
يخبر تعالى : أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم ، بآياته البينات ، وحججه الواضحات -أن المشركين به ، من قريش وغيرهم ، جعلوا له شركاء ، يدعونهم ، ويعبدونهم ، من الجن والملائكة ، الذين هم خلق من خلق الله ، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء ، فجعلوها شركاء لمن له الخلق والأمر ، وهو المنعم بسائر أصناف النعم ، الدافع لجميع النقم ، وكذلك " خرق المشركون " أي : ائتفكوا ، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله ، بنين وبنات بغير علم منهم ، ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم ، وافترى عليه أشنع النقص ، الذي يجب تنزيه الله عنه ؟ ! ! .
ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } فإنه تعالى ، الموصوف بكل كمال ، المنزه عن كل نقص ، وآفة وعيب .
وبعد أن ذكر - سبحانه - تلك الدلائل الدالة على عظيم قدرته ، وباهر حكمته ووافر نعمته . واستحقاقه الألوهية ، أتبعها بتوبيخ المشركين والرد عليهم بما يرشدهم إلى الطريق القويم لو كانوا يعقلون فقال - تعالى - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ . . . } .
قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } أى : وجعل هؤلاء المشركون لله - سبحانه - شركاء فى الألوهية والربوبية من الجن .
أحدها : أنهم الملائكة حيث عبدوهم وقالوا إنهم بنات الله وتسميتهم جنا مجازاً لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن .
والثانى : أن المراد بالجن هنا الشياطين . ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم فى أمور الشرك والمعاصى كما يطاع الله - تعالى - .
والثالث : أن المراد بالجن إبليس فقد عبده قوم وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص البارى بألوهية الخير والنور . وقد نقل هذا الرأى عن ابن عباس ، وقد قال الرازى عن هذا الرأى أنه أحسن الوجوه المذكورة فى هذه الآية .
أما ابن كثير فقد رجح الرأى الثانى وقال : فإن قيل كيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام ؟
فالجواب : أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم لهم بذلك كقوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } وكقوله { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } وتقول الملائكة يوم القيامة : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } وقال - سبحانه - { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } ولم يقل : وجعلوا الجن شركاء لله . لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء . ولو قال وجعلوا الجن شركاء لله لأوهم أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا . وليس الأمر كذلك ، بل المنكر أن يكون لله شريك من أى جنس كان .
وجملة : { وَخَلَقَهُمْ } حال من فاعل { وَجَعَلُواْ } مؤكدة لما فى جعلهم ذلك من كمال القباحة والبطلان .
أى : وجعلوا لله شركاء الجن والحال أنهم قد علموا أن الله وحده هو الذى خلقهم دون الجن وليس من يخلق كم لا يخلق ، وعليه فالضمير فى خلقهم يعود على المشركين الذين جعلوا لله شركاء .
وقيل الضمير للشركاء أى : والحال أنهم قد علموا أن الله هو الذى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له ؟
وقوله { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أى : واختلقوا وافتروا له بجهلهم وانطماس بصيرتهم بنين وبنات من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رمياً بقول عن عمى وجهالة من غير فكر وروية . أو بغير علم بمرتبة ما قالوا وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادر قدره ، وفيه ذم لهم بأنهم يقولون ما يقولون بمجرد الرأى والهوى وفيه إشارة إلى أنه لا يجوز أن ينسب إليه - تعالى - إلا ما قام الدليل على صحته .
قال الراغب : " أصل الخرق قطع الشىء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر ، قال - تعالى -
{ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } وهو ضد الخلق لأن الخلق هو فعل الشىء بتقدير ورفق " .
ثم ختمت الآية الكريمة بتنزيه الله - تعالى - عما نسبوه فقال - تعالى - : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ } أى : تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه به هؤلاء الضالون من الأجداد والأولاد والنظراء والشركاء .
{ جعلوا } بمعنى صيروا ، و { الجن } مفعول و { شركاء } مفعول ثان مقدم ، ويصح أن يكون قوله { شركاء } مفعولاً أولاً و { لله } في موضع المفعول الثاني و { الجن } بدل من قوله { شركاء } وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله والقائلين إن الجن تعلم الغيب ، العابدين للجن ، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك وتستجير بجن الأودية في أسفارها ونحو هذا ، أما الذين «خرقوا البنين » فاليهود في ذكر عزير والنصارى في ذكر المسيح ، وأما ذاكروا البنات فالعرب الذين قالوا : للملائكة بنات الله ، فكأن الضمير في { جعلوا } و { خرقوا } لجميع الكفار إذ فعل بعضهم هذا ، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد ، وقرأ شعيب بن أبي حمزة «شركاء الجنِّ » بخفض النون ، وقرأ يزيد بن قطيب وأبو حيوة «الجِّن والجُّن » بالخفض والرفع على تقديرهم الجن ، وقرأ الجمهور «وخلَقهم » بفتح اللام على معنى وهو خلقهم ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وهو خلقهم » يحتمل العودة على الجاعلين ويحتملها على المجعولين ، وقرأ يحيى بن يعمر «وخلْقهم » بسكون اللام عطفاً على الجن أي جعلوا خلقهم الذي ينحتونه أصناماً شركاء بالله ، وقرأ السبعة سوى نافع «وخرَقوا » بتخفيف للراء وهو بمعنى اختلفوا وافتروا{[5035]} وقرأ نافع «وخرّقوا » بتشديد الراء على المبالغة ، وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا » مشددة الراء ، وقوله { بغير علم } نص على قبح تقحمهم المجهلة وافترائهم الباطل على عمى ، { سبحانه } أي تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه تبارك وتعالى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَجَعَلُواْ للّهِ شُرَكَآءَ الْجِنّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَصِفُونَ}: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الآلهة والأنداد لله شُرَكَاءَ الجِنّ كما قال جلّ ثناؤه:"وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبينَ الجِنّةِ نَسَباً". وفي الجنّ وجهان من النصب: أحدهما أن يكون تفسيراً للشركاء. والآخر: أن يكون معنى الكلام: وجعلوا لله الجنّ شركاء وهو خالقهم...
وأما قوله: "وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْم "فإنه يعني بقوله: "خَرَقُوا": اختلقوا، يقال: اختلق فلان على فلان كذباً واخترقه: إذا افتعله وافتراه...
عن ابن عباس، قوله: "وَجَعَلُوا لِلّهِ شُرَكَاءَ الجِنّ والله خلقهم وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ "يعني أنهم تخرّصوا...
عن مجاهد: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْم قال: كذبوا...
عن السديّ: "وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بغيرِ عِلْمٍ" يقول: قطعوا له بنين وبنات، قالت العرب: الملائكة بناة الله، وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزيز ابنا الله...
فتأويل الكلام إذن: وجعلوا لله الجنَّ شركاء في عبادتهم إياه، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير. "وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ" يقول: وتخرّصوا لله كذباً، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون، ولكن جهلاً بالله وبعظمته وأنه لا ينبغي لمن كان إلهاً أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك.
"سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يَصِفُونَ" يقول تعالى ذكره: تنزّه الله وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه في ادّعائهم له شركاء من الجنّ واختراقهم له بنين وبنات، وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته، لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد، والذين تضطرّهم لضعفهم الشهوات إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذّات، وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيءٌ إلى شيءٍ، ولا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذّة. وقوله: "تَعَالَى": تفاعل من العلوّ والارتفاع. ورُوِي عن قتادة في تأويل قوله: "عَمّا يَصِفُونَ": أنهم يكذّبون... وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك، أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه من ادّعائهم له بنين وبنات، لا أنه وجه تأويل الوصف إلى الكذب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وخلقهم} يحتمل وجهين: أحدهما: يعلمون أنه هو خلقهم، ثم يشركون غيره في ألوهيته وعبادته، لا يوجهون شكر نعمه إليه. والثاني: قوله تعالى: {وخلقهم} أي خلق هذه الأصنام التي يعبدونها، ويعلمون أنها مخلوقة مسخرة مذللة، فمع ما يعلمون هذا يشركون في ألوهيته وعبادته. فكيف يكون المخلوق المسخر شريكا له؟...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، وأشركوا في عبادة الله أن عبدوا الجن، فجعلوهم شركاء الله في العبادة، تعالى الله عن شركهم وكفرهم.
فإن قيل: فكيف عُبدت الجن وإنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب: أنهم إنما عبدوا الأصنام عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كما قال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء: 117 -120]، وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا]} [الكهف: 50]، وقال إبراهيم لأبيه: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44]، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61]، وتقول الملائكة يوم القيامة: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 41]، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} أي: وقد خلقهم، فهو الخالق وحده لا شريك له، فكيف يعبد معه غيره، كما قال إبراهيم [عليه السلام] {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96].
ومعنى الآية: أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده؛ فلهذا يجب أن يُفْرَد بالعبادة وحده لا شريك له.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وقال الراغب «أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكر ولا تدبر. ومنه قوله تعالى: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف: 71] وهو ضد الخلق فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير قال تعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ} أي حكموا بذلك على سبيل الخرق وباعتبار القطع»...
وفرق الإمام بين التسبيح والتعالي؛ بأن الأول راجع إلى أقوال المسبحين، والثاني إلى صفاته تعالى الذاتية التي حصلت لذاته سبحانه لا لغيره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
حكى الله تعالى في هذه الآيات بعض ضروب الشرك التي قال بها بعض العرب، وروى التاريخ كثيرا من نوعها عن أمم العجم، وهي اتخاذ شركاء لله من عالم الجن المستتر عن العيون، واختراع نسل له من البنات والبنين، حكى هذا بعد تفصيل ما تقدم فيما قبله من أنواع الآيات، الدالة على توحده بالخلق والتدبير في عوالم الأرض والسموات، وتعقبه بإنكاره وتنزيه الخالق المبدع عنه.
{وجعلوا لله شركاء الجن} أي: وجعل هؤلاء المشركون لله سبحانه شركاء – وفسر هؤلاء الشركاء بالجن على طريق البدل النحوي – ولم يقل: وجعلوا الجن شركاء لله، بل قدم وأخر في النظم لإفادة أن محل الغرابة والنكارة أن يكون لله شركاء لا مطلق وجود الشركاء، ثم كون الشركاء من الجن فقدم الأهم فالأهم. ولو قال: « وجعلوا الجن شركاء لله» لأفاد أن موضع الإنكار أن يكون الجن شركاء لله لكونهم جنا، وليس الأمر كذلك، بل المنكر أن يكون لله شريك من أي جنس كان. وفي المراد بالجن هنا أقوال أحدها أنهم الملائكة فقد عبدوهم، روي هذا عن قتادة والسدي، والثاني أنهم الشياطين فقد أطاعوهم في أمور الشرك والمعاصي، روي عن الحسن وسنشير إلى شاهد يأتي له بعد عشرين آية. والثالث أن المراد بالجن إبليس فقد عبده أقوام وسموه ربا ومنهم من سماه إله الشر والظلمة وخص الباري بألوهية الخير والنور...
فأما كون إبليس والشياطين من الجن فقطعي، وأما كون الملائكة منهم فقيل إنه حقيقي لأنهم من العوالم الخفية فتصدق عليهم كلمة الجن، وقيل إنه مجازي، وفسروا الجنة في قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا} [الصفات: 158] بالملائكة...وقد يقابل الجن بالملائكة كقوله تعالى في موضوع عبادة المشركين لهم {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون*قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 40]...
{وخلقهم} أي والحال أن الله تعالى قد خلق هؤلاء الجاعلين له الشركاء وليس لشركائهم فعل ولا تأثير في خلقهم، أو خلق الشركاء المجعولين، كما خلق غيرهم من العالمين، فنسبة الجميع إليه واحدة، وامتياز بعض المخلوقين على بعض في صفاته وخصائصه، أو ما خلق مستعدا له من الأعمال التي يفضل بها غيره، لا يخرجه عن كونه مخلوقا، ولا يجعله أهلا لأن يكون إلها أو ربا.
{وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} أي واختلقوا له تعالى بحماقتهم وجهلهم بنين وبنات بغير علم ما بذلك كما سيأتي، فسمى مشركو العرب الملائكةَ بنات الله {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل} [التوبة: 30] وهاك بيان ذلك: الخرق والخزق والخرم والخرب والخرز ألفاظ فيها معنى الثقب بإنفاذ شيء في الجسم، وقال الراغب الخرق: قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبر ولا تفكر، قال تعالى: {أخرقتها لتغرق أهلها} [الكهف: 71] وهو ضد الخلق، فإن الخلق هو فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير – وذكر الآية – وقوله بغير تقدير أي بغير نظام ولا هندسة هو الصواب، وقوله قبله من غير روية ولا تدبر خطأ ظاهر. ويناسب هذا من معاني المادة الخُرق (بالضم) وهو الحمق ضد الرفق يقال خرق زيد يخرُق (بالضم فيهما) فهو أخرق وهي خرقاء.
وقال صاحب اللسان: وخَرَق (من باب ضرب) الكذب وتخرقه وخرقه كله اختلقه – وذكر الآية وأن نافعا قرأ وخرقوا (بالتشديد) وسائر القراء قرأوا بالتخفيف، ثم قال: ويقال خلق الكلمة واختلقها وخرقها واخترقها إذا ابتدعها كذبا. اه. ولعل ما تقدم من الفرق بين الخلق والخرق في الأفعال، يأتي نظيره في الأقوال، فالخلق: الكذب المقدر المنظم، والخرق الكذب الذي لا تقدير فيه ولا نظام ولا روية ولا إنعام، فههنا يظهر التقييد بنفي التدبر والنظر، ويؤيده قوله تعالى: « بغير علم» قال في الكشاف: من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ وصواب، ولكن رميا بقول عن عمي وجهالة من غير فكر وروية.اه. وهو بيان وتوكيد لمعنى « خرقوا» فهذا التعبير: من أدق بلاغة التنزيل، وهو بيان معنى الشيء بما يدل على تزييفه. وتنكير العلم هنا في حيز النفي بغير للدلالة على انسلاخ هؤلاء المشركين في خرقهم هذا عن كل ما يسمى علما؛ فلا هم على علم بمعنى ما يقولون، ولا على دليل يثبته، ولا على علم بمكانه من الفساد والبعد من العقل، ولا بمكانه من الشناعة والإزراء بمقام الألوهية والربوبية، إذ لو علموا بذلك لما ارتضوه لأن أكثرهم مؤمنون بخالقهم وخالق كل شيء، وهم يتقربون إليه بما اتخذوه له من شريك وولد.
{سبحانه وتعالى عما يصفون} أي هو منزه عن ذلك متعال عنه لأنه نقص ينافي انفراده بالخلق والتدبير، وكونه ليس كمثله شيء. وتقدم تحقيق معنى سبحان والتسبيح والتقديس في أواخر سورة المائدة. والتعالي: العلو والبعد عما لا يليق الذي يظهر للناظر المتفكر مرة بعد مرة بالنسبة إلى ما علا عنه وبعد عن مشابهته من الأشياء كلها، فهو من قبيل « توافد القوم» في الجملة، ولو كان له تعالى ولد لكان له جنس يعد جميع أفراده – ولا سيما أولاده – نظراء له فيه، وهذا باطل عقلا ونقلا عن جميع رسل الله وجميع حكماء البشر وعقلائهم من جميع الأمم، ولكن الذين اخترعوا للناس عقائد الوثنية في عصور الظلمات، وأزمنة التأويلات، ذهبوا هذه المذاهب من الأوهام، ولا نعرف أول من جعل لله ولدا ولا منشأ اختراع هذه العقيدة، وأقرب المآخذ لذلك ما بيناه في أواخر تفسير سورة النساء فيراجع هنالك (ج6 تفسير).
وأما عبادة الجن فقديمة في الملل الوثنية أيضا...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى: أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم، بآياته البينات، وحججه الواضحات -أن المشركين به، من قريش وغيرهم، جعلوا له شركاء،يدعونهم، ويعبدونهم، من الجن والملائكة، الذين هم خلق من خلق الله، ليس فيهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، فجعلوها شركاء لمن له الخلق والأمر، وهو المنعم بسائر أصناف النعم، الدافع لجميع النقم، وكذلك "خرق المشركون "أي: ائتفكوا، وافتروا من تلقاء أنفسهم لله، بنين وبنات بغير علم منهم، ومن أظلم ممن قال على الله بلا علم، وافترى عليه أشنع النقص، الذي يجب تنزيه الله عنه؟!!. ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} فإنه تعالى، الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وآفة وعيب.