قوله تعالى : { ثم بدا لهم } ، أي : للعزيز وأصحابه في الرأي ، وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الأمر بالإعراض . ثم بدا لهم أن يحبسوه . { من بعد ما رأوا الآيات } ، الدالة على براءة يوسف من قد القميص ، وكلام الطفل ، وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن ، { ليسجننه حتى حين } ، إلى مدة يرون فيه رأيهم . وقال عطاء : إلى أن تنقطع مقالة الناس . وقال عكرمة : سبع سنين . وقال الكلبي : خمس سنين . قال السدي : وذلك أن المرأة قالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس ، يخبرهم أني راودته عن نفسه ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس ، وإما أن تحبسه ، فحبسه ، وذكر أن الله تعالى جعل ذلك الحبس تطهيرا ليوسف عليه السلام من همه بالمرأة . قال ابن عباس : عثر يوسف ثلاث عثرات حين هم بها فسجن ، وحين قال { اذكرني عند ربك } فلبث في السجن بضع سنين ، وحين قال للإخوة { إنكم لسارقون } ، فقالوا : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } .
ثم ساقت لنا السورة الكريمة بعد ذلك قصة دخول يوسف - عليه السلام - السجن ، مع ثبوت براءته ، مما نسب إليه ، وكيف أنه وهو في السجن لم ينس الدعوة إلى عبادة الله - تعالى - وحده ، وترك عبادة ما سواه ، وكيف أنه أقام الأدلة على صحة ما يدعو إليه ، وفسر لصاحبيه في السجن رؤياهما تفسيرا صادقا صحيحا .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول :
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ . . . } .
قوله - سبحانه - { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ حتى حِينٍ } بيان لما فعله العزيز وحاشيته مع يوسف - عليه السلام - بعد أن ثبتت براءته .
وبدا هنا من البداء - بالفتح - وهو - كما يقول الإِمام الرازى - عبارة عن تغير الرأى عما كان عليه في السابق .
والضمير في " لهم " يعود إلى العزيز وأهل مشورته .
والمراد بالآيات : الحجج والبراهين الدالة على براءة يوسف ونزاهته ، كانشقاق قميصه من دبر ، وقول امرأة العزيز ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، وشهادة الشاهد بأن يوسف هو الصادق وهى الكاذبة . . . والحين : الزمن غير المحدد بمدة معينة .
والمعنى : ثم ظهر للعزيز وحاشيته ، من بعد ما راوا وعاينوا البراهين المتعددة الدالة على صدق يوسف - عليه السلام - وطهارة عرضه . . بدا لهم بعد كل ذلك أن يغيروا رأيهم في شأنه ، وأن يسجنوه في المكان المعد لذلك ، إلى مدة غير معلومة من الزمان .
واللام في قوله " ليسجننه " جواب القسم محذوف على تقدير القول أى : ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين ، والله ليسجننه حتى حين .
ولا شك أن الأمر بسجن يوسف - عليه السلام - كان بتأثير من امرأة العزيز ، تنفيذا لتهديدها بعد أن صمم يوسف - عليه السلام - على عصيانها فيما تدعوه إليه ، فقد سبق أن حكى القرآن عنها قولها { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين } ولا شك - أيضا - أن هذا القرار بسجن يوسف يدل على أن المرأة العزيز كانت مالكة لقياد زوجها صاحب المنصب الكبير ، فهى تقوده حيث تريد كما يقود الرجل دابته .
ولقد عبر عن هذا المعنى صاحب الكشاف فقال ما ملخصه : قوله { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات . . . }
وهى الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه في الذروة والغارب ، وكان مطواعا لها ، وجملا ذلولا زمامه في يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات ، وعمل برأيها في سجنه ، لإِلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته لها ، وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها .
{ ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات } ثم ظهر للعزيز وأهله من بعد ما رأوا الشواهد الدالة على براءة يوسف كشهادة الصبي وقد القميص وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن وفاعل { بدا } مضمر يفسره . { ليسجننّه حتى حين } وذلك لأنها خدعت زوجها وحملته على سجنه زمانا حتى تبصر ما يكون منه ، أو يحسب الناس أنه المجرم فلبث في السجن سبع سنين . وقرئ بالتاء على أن بعضهم خاطب به العزيز على التعظيم أو العزيز ومن يليه ، وعتى بلغة هذيل .
لما أبى يوسف المعصية ، ويئست منه امرأة العزيز طالبته بأن قالت لزوجها : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره ، وأنا محبوسة محجوبة ، فإما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته ، وإما حبسته كما أنا محبوسة . فحينئذ بدا لهم سجنه . قال ابن عباس : فأمر به فحمل على حمار ، وضرب بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر إن يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن ؛ قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى .
و { بدا } معناه : ظهر ، والفاعل ب { بدا } محذوف تقديره بدو - أو - رأي{[6679]} . وجمع الضمير في { لهم } والساجن الملك وحده من حيث كان في الأمر تشاور . و { يسجننه } جملة دخلت عليها لام القسم . ولا يجوز أن يكون الفاعل ب { بدا } ل { يسجننه } لأن الفاعل لا يكون جملة بوجه ، هذا صريح مذهب سيبويه . وقيل الفاعل { ليسجننه } وهو خطأ ، وإنما هو مفسر للفاعل .
و { الآيات } ذكر فيها أهل التفسير أنها قد القميص ، قاله مجاهد وغيره ، وخمش الوجه الذي كان مع قد القميص ، قاله عكرمة ، وحز النساء أيديهن ، قاله السدي .
قال القاضي أبو محمد : ومقصد الكلام إنما هو أنهم رأوا سجنه بعد بدو الآيات المبرئة له من التهمة ، فهكذا يبين ظلمهم له وخمش الوجه وحز النساء أيديهن ليس فيهما تبرية ليوسف ، ولا تتصور تبرية إلا في خبر القميص ، فإن كان المتكلم طفلاً - على ما روي - فهي آية عظيمة ، وإن كان رجلاً فهي آية فيها استدلال ما ، والعادة أنه لا يعبر بآية إلا فيما ظهوره في غاية الوضوح ، وقد تقع { الآيات } أيضاً على المبينات كانت في أي حد اتفق من الوضوح .
ويحتمل أن يكون معنى قوله : { من بعد ما رأوا الآيات } أي من بعد ما ظهر لهم من وجوه الأمر وقرائنه أن يوسف برىء ، فلم يرد تعيين آية بل قرائن جميع القصة .
و «الحين » في كلام العرب وفي هذه الآية الوقت من الزمن غير محدود يقع للقليل والكثير ، وذلك بين موارده في القرآن ؛ وقال عكرمة «الحين » - هنا - يراد به سبعة أعوام ، وقيل : بل يراد بذلك سنة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بحسب ما كشف الغيب في سجن يوسف .
وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقرأ «عتى حين » بالعين - وهي لغة هذيل - فقال له : من أقرأك ؟ قال : ابن مسعود ، فكتب عمر إلى ابن مسعود : إن الله أنزل القرآن عربياً بلغة قريش ، فبها أقرىء الناس ، ولا تقرئهم بلغة هذيل ، وروي عن ابن عباس أنه قال : عثر يوسف عليه السلام ثلاث عثرات :
{ همّ } [ يوسف : 24 ] فسجن ، وقال : { اذكرني عند ربك } [ يوسف : 42 ] { فأنساه الشيطان ذكر ربه } [ يوسف : 42 ] فطول سجنه ، وقال : { إنكم لسارقون } [ يوسف : 70 ] فروجع : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [ يوسف : 77 ] .
{ ثم } هنا للترتيب الرتبي ، كما هو شأنها في عطف الجمل فإن ما بدا لهم أعجب بعد ما تحققت براءته . وإنما بدا لهم أن يسجنوا يوسف عليه السّلام حين شاعت القالة عن امرأة العزيز في شأنه فكان ذلك عقب انصراف النسوة لأنها خشيت إنْ هُنّ انصرفن أن تشيع القالة في شأنها وشأن براءة يوسف عليه السّلام فرامت أن تغطي ذلك بسجن يوسف عليه السّلام حتى يظهر في صورة المجرمين بإرادته السوء بامرأة العزيز ، وهي ترمي بذلك إلى تطويعه لها . ولعلها أرادت أن تُوهم الناسَ بأن مراودته إيّاها وقعت يوم ذلك المجمع ، وأن تُوهم أنّهن شواهد على يوسف عليه السّلام .
والضمير في { لهم } لجماعة العزيز من مشير وآمر .
وجملة { ليسجننه } جواب قسم محذوف ، وهي معلّقة فعلَ { بدَا } عن العمل فيما بعده لأجل لام القسم لأن ما بعد لام القسم كلام مستأنف . وفيه دليل للمعمول المحذوف إذ التحقيق أن التعليق لا يختص بأفعال الظن ، وهو مذهب يونس بن حبيب ، لأن سبب التعليق وجود أداة لها صَدر الكلام . وفي هذه الآية دليله .
والتقدير : بدا لهم ما يدل عليه هذا القسَم ، أي بدا لهم تأكيد أن يسجنوه .
وذكر في « المغني » في آخر الجمل التي لها محل من الإعراب : وقوع الخلاف في الفاعل ونائب الفاعل ، هل يكون جملة ؟ فأجازه هشام وثعلب مطلقاً ، وأجازهُ الفراء وجماعة إذا كان الفعل قلبياً ووجد معلّق ، وحملوا الآية عليه ، ونسب إلى سيبويه . وهو يؤول إلى معنى التعليق ، والتعليق أنسب بالمعنى .
والحين : زمن غير محدود ، فإن كان { حتى حينٍ } من كلامهم كان المعنى : أنهم أمروا بسجنه سجناً غير مؤجل المدة . وإن كان من الحكاية كان القرآن قد أبهم المدة التي أذنوا بسجنه إليها إذ لا يتعلق فيها الغرض من القصة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم بدا لهم}، يعني: ثم بدا للزوج، {من بعد ما رأوا الآيات}، يعني: من بعد ما رأوا العلامات في تمزيق القميص من دبر أنه بريء، {ليسجننه حتى حين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ثم بدا للعزيز، زوج المرأة التي راودت يوسف عن نفسه.
وقيل: {بدا لهم}، وهو واحد، لأنه لم يذكر باسمه ويقصد بعينه، وذلك نظير قوله: {الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ}، وقيل: إنّ قائل ذلك كان واحدا. وقيل: معنى قوله: {ثُمّ بَدَا لَهُمْ}: في الرأي الذي كانوا رأوه من ترك يوسف مطلقا، ورأوا أن يسجُنوه مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ ببراءته مما قدفته به امرأة العزيز...
وقوله: {لَيَسْجُنُنّهُ حتى حِينٍ}، يقول: ليسجننه إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: حبسوه لينفوا عن المرأة ما رميت به، ولينقطع ذلك عن الناس ويموت ذلك الخبر ويذهب، فيه أنهم حبسوه بعدما رأوا آيات عصمته وبراءته عما اتهموه وأنهم ظلمة في حبسه، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بَدَا لَهُمْ}...: بدا لهم بداء، أي: ظهر لهم رأي ليسجننه، والضمير في {لَهُمْ} للعزيز وأهله {مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات} وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعة لها وجميلاً ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أوعدته به، وذلك لما أيست من طاعته لها، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها... {حتى حِينٍ} إلى زمان، كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {من بعد ما رأوا الآيات} أي من بعد ما ظهر لهم من وجوه الأمر وقرائنه أن يوسف بريء، فلم يرد تعيين آية بل قرائن جميع القصة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ظهر للعزيز وأهل مشورته... أن يسجنوه كتمانا للقصة ألا تشيع في العامة، وللحيلولة بينه وبينها...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
...الذي يظهر أنّ الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن، بل رأوا قول الشاهد...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فكأنهم -والله أعلم- إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما أن هذا راودها عن نفسها، وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة، امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة، فلما تقرر ذلك خرج وهو نَقِيّ العرض، صلوات الله عليه وسلامه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت هذه الأمور موجبة لرفعته، فكان حينئذٍ أبعد شيء عن السجن لو كان الناس متمكنين من جري أمورهم على حسب السديد من عقولهم، أخبر تعالى أنهم خالفوا داعي السداد واستبدلوا الغيّ بالرشاد، لحكمه بأن السجن سبب عظيم لصرف كيدهن عنه وإثبات العز والمكنة له، ففعلوا -مع علمهم بأن ذلك ظلم وسفه- إجابة لغالب أمر الله وإظهاراً لعليّ قدره بمخالفة العوائد مرة بعد مرة، وهدم سداد الأسباب كرة أثر كرة؛ فقال: {ثم} لهذا المعنى، وهو أنهم كان ينبغي أن يكونوا من سجنه في غاية البعد {بدا} أي ظهر بعد الخفاء كما هي عادتهم {لهم} والبداء في الرأي: التلون فيه لظهور ما لم يكن ظهر منه. ولما كان ذلك الظهور في حين من الدهر تلونوا بعده إلى رأي آخر، أدخل الجار دلالة على ذلك فقال: {من بعد ما رأوا} أي رؤيتهم {الآيات} القاطعة ببراءته القاضية بنزاهته من قد القميص وشهادة الشاهد وغير ذلك. ولما كان فاعل بدا "بداء "رأى، فسره بقوله مؤكداً، لأنه لا يصدق أن الإنسان يفعل ما ظهر له المانع منه: {ليسجننه} فيمكث في السجن {حتى حين} أي إلى أن تنسى تلك الإشاعة، ويظهر الناس أنها لو كانت تحبه ما سعت في سجنه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} بدا هذه من البداء [الفتح] لا من البدو المطلق، أي ثم ظهر لهم من الرأي ما لم يكن ظاهرا من قبل... ولذلك عطفت الجملة بثم التي تفيد الانتقال مما كانوا فيه إلى طور جديد بعد التشاور والتروي في الأمر، وضمير [لهم] يرجع إلى أهل دار العزيز وامرأته ومن يعنيه أمرهما كالشاهد الذي شهد عليها من أهلها، والمراد بالآيات ما شهدوه واختبروه من الدلائل على أن يوسف إنسان غير الأناسي التي عرفوها في عقيدته وإيمانه وأخلاقه من عفة ونزاهة واحتقار للشهوات والزينة والإتراف المتبع في قصور هذه الحضارة؛ ومن عناية ونزاهة واحتقار للشهوات والزينة والإتراف المتبع في قصور هذه الحضارة؛ ومن عناية ربه الواحد الأحد به كما يؤمن ويعتقد، فمن هذه الآيات أن تفنن سيدته في مراودته لم يحدث أدنى تأثير في جذب خلسات نظره، ولا في خفقات قلبه، بل ظل معرضا عنها متجاهلا لها، حتى إذا ما صارحته بكلمة [هيت لك] اقشعر جلده، واستعاذ بربه، رب آبائه الذين يفتخر باتباع ملتهم، وغيرها بالخيانة لزوجها [ومنها] إنها لما غضبت وهمت بالبطش به هم بمقاومتها والبطش بها وهي سيدته، وما منعه من ذلك إلا ما رأى من البرهان في دخيلة نفسه، مؤيدا لما يعتقده من صرف ربه السوء والفحشاء عنه.
[ومنها] إنها لما تهمته بالتعدي عليها وأرادوا التحقيق في المسألة شهد شاهد من أهلها هو جدير بالدفاع عنها، بما تضمن الحكم عليها بأنها كاذبة في اتهامه إياه بإرادة السوء بها، وأنه صادق فيما ادعاه من مراودتها إياه عن نفسه [ومنها] مسألة انتشار خبرها معه وخوض نساء المدينة في افتتانها به وإذلال نفسها ببذلها له مع إعراضه عنها [ومنها] مسألة أمكر هؤلاء النسوة وأعمقهن كيدا معه. إذ حاولن رؤيته وتواطأن عن مراودته، ودهشتهن مما شاهدن من جماله، حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن. فجميع هذه الآيات تثبت أن بقاءه في هذه الدار بين ربتها وصديقاتها من هؤلاء النسوة مثار فتنة للنساء لا تدرك غايتها، وأن الحكمة والصواب في أمرها هو تنفيذ رأيها الأول في سجنه- وإن كانت سيئة النية ماكرة فيه- لإخفاء ذكره، وكف ألسنة الناس عنها في أمره، فأقسموا.
{ليسجننه حتى حين} أي إلى أجل غير معين حتى يكونوا مطلقي الحرية في طول مكثه وقصره وإخراجه، ويروا ما يكون من تأثير السجن فيه وحديث الناس عنه. وهذا القرار يدل على أن هذه المرأة كانت مالكة لقياد زوجها الوزير الكبير تقوده بقرنين كيف شاء هواها، وأنه كان فاقدا للغيرة كأمثاله من كبراء صغار الأنفس عبيد الشهوات...
وجملة القول في هذه الحادثة أن يوسف عليه السلام كان أكمل مثل للعفة والصيانة والأمانة من أولها إلى آخرها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين).. وهكذا جو القصور، وجو الحكم المطلق، وجو الأوساط الأرستقراطية، وجو الجاهلية! فبعد أن رأوا الآيات الناطقة ببراءة يوسف. وبعد أن بلغ التبجح بامرأة العزيز أن تقيم للنسوة حفل استقبال تعرض عليهن فتاها الذي شغفها حبا، ثم تعلن لهم أنها به مفتونة حقا. ويفتتن هن به ويغرينه بما يلجأ إلى ربه ليغيثه منه وينقذه، والمرأة تعلن في مجتمع النساء -دون حياء- أنه إما أن يفعل ما يؤمر به، وإما أن يلقى السجن والصغار، فيختار السجن على ما يؤمر به! بعد هذا كله، بدا لهم أن يسجنوه إلى حين! ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد؛ ولعل الأمر كذلك قد زاد انتشارا في طبقات الشعب الأخرى.. وهنا لابد أن تحفظ سمعة "البيوتات "! وإذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن، فإنهم ليسوا بعاجزين عن سجن فتى بريء كل جريمته أنه لم يستجب، وأن امرأة من "الوسط الراقي! "قد فتنت به، وشهرت بحبه، ولاكت الألسن حديثها في الأوساط الشعبية!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هبطت الفتنة في نفوس النسوة، ولكن صداها كان يتردد بين الناس، وخصوصا النساء، وقد آمن الملك فحقيقتين: عفة يوسف، وإغواء امرأته، وانضم إليها من كن يلمنها، وتشايع الخبر في المدينة، فرأوا أن من حسن السياسة أن يسجن يوسف ليبعد عامل الاستهواء، ولينس الناس هذه السيرة، وهذا هو قوله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات} أي العزيز ومن معه من أهل مشورته من بعد ما رأوا البينات الدالة على مكرهن وإغوائهن مع التهديد {ليسجننه حتى حين} أي أكدوا إرادة سجنه حينا. أي بدا لهم الإصرار على سجنه لمدة معينة، حتى ينسى الناس حوادث المرأة والنسوة اللاتي انضممن إليها، وقد أكدن هذا الأمر الذي بدا لهم بالقسم، ولامه، ونون التوكيد، ولكن السجن كان مؤقتا، وليس مطلقا كما ظهر من كلامهم. وكان تأكيد السجن، لأنه لم يكن منطقيا أن يسجن وهو البريء، ولكن لأنهم وجدوه إطفاء لهذه الشائعة التي هزت مقومات المجتمع، وأشاعت القول بالفاحشة- عن أكبر سيدة في مصر، فكان التأكيد بالسجن ليقاوم منطق البراءة الذي يوجب الثناء وطيب الجزاء، بدل العقاب والإلقاء في غياهب السجن. حسنت الألفة بين يوسف الحبيب، ومن معه في السجن؛ لأنه أليف بفطرته، ولأن الضعف يقرب ولا يبعد، ولأن محنة السجن جمعت بينهم، والمحنة تجمع، ولا تفرق. رأى أحدهما أنه يعصر خمرا، أي يعصر عنبا يكون بعد ذلك خمرا، فعبر بالخمر باعتبار المآل، ورأى الآخر أنه يحمل فوق رأسه خبزا، وتأكل الطير منه. اقتضى حسن الصحبة ان يلجأ إلى يوسف، وقد توسما فيه الخير، فاتجها إليه...
وبعد أن ظهرت العلامات الشاهدة على براءة يوسف عليه السلام أمام العزيز وأهل مشورته، وانكشف لهم انحراف امرأة العزيز وإصرارها على أن توقع بيوسف في الفعل الفاضح معها، دون خجل أو خوف من الفضيحة. لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يوضع يوسف عليه السلام في السجن؛ ليكون في ذلك فصل بينه وبينها؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة؛ وليظهر للناس أنه مسؤول عن كل هذا السوء الذي ظهر في بيت العزيز. كما أن كلمة: {ليسجننه} فيها نوع من استبقاء الحب الذي يكنه العزيز ليوسف، فهو لم يأمر بقتله أو نفيه بعيدا؛ بل احتفظ به بعيدا عن الزوجة المصرة على الخيانة، وعن المجتمع الذي يلوك تلك الوقائع...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ} التي تبيّن صدق يوسف في دفاعه عن نفسه، في براءته من التهمة الموجهة إليه، {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} للخروج من إحراج المجتمع الذي يلاحقهم بالتنديد، لما يمثله موقف امرأة العزيز من خروج على تقاليد الطبقة الرفيعة التي ترفض الخيانة مع العبد، وإن كانت تقبلها مع الحر المنتمي إلى الطبقة الرفيعة، لذا أجمع الكل على التآمر على يوسف والإيحاء بأنه هو من راود سيّدته عن نفسه فامتنعت عنه، الأمر الذي يحفظ للعائلة الكريمة سمعتها، ويجعلها ضحيّةً لاعتداء أثيم، وهكذا كان السجن هو الحل للمشكلة الاجتماعية التي عاشوها، وللفضيحة الكبرى التي كادت تطوق سمعتهم ومكانتهم، وذلك ديدن المجتمعات المستكبرة، التي تعمل على حماية القيم الظاهرية الخادعة في سلوك أفرادها بالعمل على إلصاق التهمة بالمستضعفين الذين لا يحترمهم المجتمع، ولا يجد أيّ حقٍّ لهم في عيش كريم، وإرادة حرّة، وعدالةٍ شرعيةٍ، لأن ذلك هو حق الأحرار، لا حق العبيد. وربما كان السجن تنفيذاً للتهديد الذي أطلقته، في وجه يوسف، وسيلة من وسائل الضغط عليه ليستجيب لها، ودعت زوجها إلى تنفيذه في البداية، وتحدثت به إلى صويحباتها في النهاية ليعرف، من خلال فقدان حريته، ورفاهية الحياة التي كان يتمتّع بها في بيت سيّدته، أنّ الانسجام مع رغبتها، هو الأولى به، والأفضل له...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
السّجن بسبب البراءة: انتهى المجلس العجيب لنسوة مصر مع يوسف في قصر العزيز في تلك الغوغاء والهياج، ولكنّ خبره بالطبع وصلَ إلى سمع العزيز.. ومن مجموع هذه المجريات اتضح أنّ يوسف لم يكن شابّاً عادّياً، بل كان طاهراً لدرجة لا يمكن لأي قوّة أن تجرّه إلى الانحراف والتلوّث، واتّضحت علامات هذه الظاهرة من جهات مختلفة، فتمزّق قميصه من دُبر، ومقاومته أمام وساوس نسوة مصر، واستعداده لدخول السجن وعدم الاستسلام لتهديدات امرأة العزيز بالسجن والعذاب الأليم، كلّ هذه الأُمور أدلّة على طهارته لا يمكن لأحد أن يسدل عليها الستار أو ينكرها!. ولازم هذه الأدلّة إثبات عدم طهارة امرأة العزيز وانكشاف جريمتها، وعلى أثر ثبوت هذه الجريمة فإنّ الخوف من فضيحة جنسية في اُسرة العزيز كان يزداد يوماً بعد يوم. فكان الرأي بعد تبادل المشورة بين العزيز ومستشاريه هو إبعاد يوسف عن الأنظار لينسى الناس اسمه وشخصه، وأحسن السبل لذلك إيداعه قعر السجن المظلم أوّلا، وليشيع بين الناس أنّ المذنب الأصلي هو يوسف ثانياً، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: (ثمّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنّنه حتّى حين). التعبير بكلمة «بدا» التي معناها ظهور الرأي الجديد، يدلّ على أنّ مثل هذا التصميم في حقّ يوسف لم يكن من قبل. ويحتمل أن تكون هذه الفكرة اقترحتها امرأة العزيز لأوّل مرّة.. وبهذا دخل يوسف النزيه بسبب طهارة ثوبه السجن، وليست هذه أوّل مرّة ولا آخرها أن يدخل الإنسان النزيه «بجريرة نزاهته» السجن!! أجل.. في المحيط المنحرف تكون الحرية من نصيب المنحرفين الذين يسيرون مع التيار وليست الحرية وحدها من نصيبهم فحسب،.. بل أنّ الأفراد النجباء كيوسف الذي لا يتلاءم مع ذلك المحيط ولونه ويتحرّك على خلاف مجرى الماء! ينبغي أن يقبعوا في زاوية النسيان.. ولكن إلى متى؟ هل تستمر هذه الحالة؟.. قطعاً لا...