قوله تعالى : { قال رب } ، أي : يا رب ، { السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } ، قيل : كان الدعاء منها خاصة ، ولكنه أضاف إليهن خروجا من التصريح إلى التعريض . وقيل : إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن . وقرأ يعقوب وحده : السجن بفتح السين . وقرأ العامة بكسرها . وقيل : لو لم يقل : السجن أحب إلي لم يبتل بالسجن ، والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية . قوله تعالى : { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن } ، أمل إليهن وأتابعهن ، يقال : صبا فلان إلى كذا يصبو صبوا وصبوا وصبوة إذا مال واشتاق إليه . { وأكن من الجاهلين } ، فيه دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكبه عن جهالة .
و { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } وهذا يدل على أن النسوة ، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته ، وجعلن يكدنه في ذلك .
فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد ، { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : أمل إليهن ، فإني ضعيف عاجز ، إن لم تدفع عني السوء ، { وَأَكُنْ } إن صبوت إليهن { مِنَ الْجَاهِلِينَ } فإن هذا جهل ، لأنه آثر لذة قليلة منغصة ، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم ، ومن آثر هذا على هذا ، فمن أجهل منه ؟ " فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين ، ويؤثر ما كان محمود العاقبة .
ويترامى على مسامع يوسف - عليه السلام - هذا التهديد السافر . . فيلجأ إلى ربه مستجيرا به ، ومحتميا بحماه ويقول : { قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ . . . }
أى : قال يوسف - عليه السلام - متضرعا إلى ربه - تعالى - يا رب السجن الذي هددتنى به تلك المرأة ومن معها ، أحب إلى ، وآثر عندي مما يدعوننى إليه من ارتكاب الفواحش .
وقال أحب إلى مما يدعوننى إليه ، ولم يقل مما تدعونى إليه امرأة العزيز ، لأنهن جميعا كن مشتركات في دعوته إلى الفاحشة سواء بطريق مباشر أو غير مباشر ، بعد أن شاهدن هيئته وحسنه ، وبعد أن سمعن ما قالته في شأنه ربة الدار . .
قال الآلوسى : " وإسناد الدعوة إليهن ، لأنهن خوفنه من مخالفتها ، وزين له مطاوعتها .
فقد روى أنهن قلن له أطع مولاتك ، واقض حاجتها ، لتأمن عقوبتها . . وروى أن كل واحدة منهن طلبت الخلوة به لنصيحته ، فلما خلت به دعته إلى نفسها . .
وقوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين } واعتراف منه - عليه السلام - بضعفه البشرى الذي لا قدرة له على الصمود أمام الإِغراء ، إذا لم يكن معه عون الله - تعالى - وعنايته ورعايته .
و { أصب } من الصبوة وهى الميل إلى الهوى ، يقال : صبا فلان يصبو صبوا وصبوة ، إذا مال إلى شهوات نفسه واتبع طريق الشر ، ومنه ريح الصبا ، وهى التي تميل إليها النفوس لطيب نسيمها واعتدال هوائها .
والمعنى : وإلا تدفع عنى يا إلهى كيد هؤلاء النسوة ، ومحاولاتهن إيقاعى في حبائلهن ، أمل إليهن . وأطاوعهن على ما يردنه منى ، وأكن بذلك من الجاهلين السفهاء الذين يخضعون لأهوائهم وشهواتهم ، فيقعون في القبائح والمنكرات .
{ قال رب السجن } وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر . { أحب إليّ مما يدعونني إليه } أي آثر عندي من مؤاتاتها زناً نظرا إلى العاقبة وإن كان هذا مما تشتهيه النفس وذلك مما تكرهه ، وإسناد الدعوة إليهن جميعا لأنهن خوفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها . أو دعونه إلى أنفسهن ، وقيل إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا وإنما كان الأولى به أن يسأل الله العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر . { وإلا تصرف عني } وإن لم تصرف عني . { كيدهن } في تحبيب ذلك إلي وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة . { أصبُ إليهن } أمل إلى جانبهن أو إلى أنفسهن بطبعي ومقتضى شهوتي ، والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تستطيبها وتميل إليها . وقرئ { أصب } من الصبابة وهي الشوق . { وأكن من الجاهلين } من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه فإن الحكيم لا يفعل القبيح ، أو من الذين لا يعملون بما يعلمون فإنهم والجهال سواء .
وقوله تعالى : { قال ربي السجن أحب إليّ } ، وروي أنه لما توعدته امرأة العزيز قال له النسوة : أطع مولاتك ، وافعل ما أمرتك به ؛ فلذلك قال : { مما يدعونني إليه } قال نحوه الحسن ووزن «يدعون » في هذه الآية : يفعلن ، بخلاف قولك : الرجال يدعون .
وقرأ الجمهور «السِّجن » بكسر السين ، وهو الاسم ، وقرأ الزهري وابن هرمز ويعقوب وابن أبي إسحاق «السَّجن » بفتح السين وهي قراءة عثمان رضي الله عنه وطارق مولاه ، وهو المصدر ، وهو كقولك : الجزع والجزع .
وقوله : { وإلا تصرف } إلى آخر الآية ، استسلام لله تعالى ورغبة إليه وتوكل عليه ؛ المعنى : وإن لم تنجني أنت هلكت ، هذا مقتضى قرينة كلامه وحاله ، والضمير في { إليه } عائد على الفاحشة المعنية بما في قوله { مما } . و { أصب } مأخوذة من الصبوة ، وهي أفعال الصبا ، ومن ذلك قول الشاعر - أنشده الطبري - [ الهزج ]
إلى هند صبا قلبي*** وهند مثلها يصبي{[6676]}
ومن ذلك قول دريد بن الصمة : [ الطويل ]
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه*** فلما علاه قال للباطل ابعدِ{[6677]}
و { الجاهلين } هم الذين لا يراعون حدود الله تعالى ونواهيه{[6678]} .
استئناف بياني ، لأن ما حُكي قبله مقام شدة من شأنه أن يَسأل سامعه عن حال تلقي يوسف عليه السّلام فيه لكلام امرأة العزيز .
وهذا الكلام مناجاة لربه الذي هو شاهدهم ، فالظاهر أنه قال هذا القول في نفسه . ويحتمل أنّه جهر به في ملئهن تأييساً لهن من أن يفعل ما تأمره به .
وقرأ الجمهور « السّجن » بكسر السين . وقرأه يعقوب وحده بفتح السين على معنى المصدر ، أي أن السجن أحب إليّ . وفضّل السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة على ما فيه منا للذة ولكن كرهه لفعل الحرام فضل عنده مقاساة السجن . فلما علم أنه لا مَحيص من أحد الأمرين صار السجن محبوباً إليه باعتبار أنّه يخلصه من الوقوع في الحرام فهي محبة ناشئة عن ملاءمة الفكر ، كمحبة الشجاع الحرب .
فالإخبار بأن السجن أحبُّ إليه مِن الاستمتاع بالمرأة مستعمل في إنشاء الرضى بالسجن في مرضاة الله تعالى والتباعد عن محارمه ، إذ لا فائدة في إخبار من يعلم ما في نفسه فاسم التفضيل على حقيقته ولا داعي إلى تأويله بمسلوب المفاضلة .
وعبّر عما عرضته المرأة بالموصولية لما في الصلة من الإيماء إلى كون المطلوب حالة هي مظنة الطواعية ، لأن تمالىء الناس على طلب الشيء من شأنه أن يوطن نفس المطلوب للفعل ، فأظهر أن تمالئهن على طلبهن منه امتثالَ أمْر المرأة لم يَفُلّ من صارم عزمه على الممانعة ، وجعل ذلك تمهيداً لسؤال العصمة من الوقوع في شَرك كيدهن ، فانتقل من ذكر الرضى بوعيدها إلى سؤال العصمة من كيدها .
وأسند فعل { يدعونني } إلى نون النسوة ، فالواو الذي فيه هو حرف أصلي وليست واو الجماعة ، والنون ليست نون رفع لأنه مبني لاتصاله بنون النسوة ، ووزنه يفعُلْنَ . وأسند الفعل إلى ضمير جمع النساء مع أنّ التي دعته امرأة واحدة ، إما لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء فيكون على وزان جمع الضمير في { كيدهن } ، وإما لأنّ النسوة اللاّتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمَالأن على لوم يوسف عليه السّلام وتحريضه على إجابة الداعية ، وتحذيره من وعيدها بالسجن . وعلى وزان هذا يكون القول في جمع الضمير في { كيدهن } [ سورة يوسف : 28 ] أي كيد صنف النساء ، مثل قول العزيز { إنّ كيدكنّ عظيم } ، أي كيد هؤلاء النسوة .
وجملة { وإلاّ تصرف عني كيدهن } خبر مستعمل في التخوّف والتوقع التجاء إلى الله وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحَول والقوة والخشية من تقلب القلب ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام . فالخبر مستعمل في الدعاء ، ولذلك فرع عنه جملة { فاستجاب له ربّه } .
ومعنى { أصبُ } أمِلْ . والصبو : الميل إلى المحبوب .
والجاهلون : سفهاء الأحلام ، فالجهل هنا مقابِل الحلم . والقول في أن مبالغة { أكن من الجاهلين } أكثرُ من أكن جاهلاً كالقول في { وليكوناً من الصاغرين } [ سورة يوسف : 32 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا الخبر من الله يدلّ على أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف في المراودة عن نفسه، وتوعدته بالسجن والحبس إن لم يفعل ما دعته إليه، فاختار السجن على ما دعته إليه من ذلك؛ لأنها لو لم تكن عاودته وتوعدته بذلك، كان محالاً أن يقول: {رَبّ السّجْنُ أحَبّ إليّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ}، وهو لا يدعى إلى شيء ولا يخوّف بحبس. والسجن هو: الحبس نفسه، وهو بيت الحبس...
وتأويل الكلام: قال يوسف: يا ربّ الحبس في السجن {أحبّ إليّ مما يدعونني إليه}، من معصيتك، ويراودنني عليه من الفاحشة...السجن أحبّ إليّ من أن آتيَ ما تكره.
وقوله: {وَإلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إلَيْهِنّ}، يقول: وإن لم تدفع عني يا ربّ فعلهنّ الذي يفعلن بي في مراودتهنّ إياي على أنفسهن {أَصْبُ إليهنّ}، يقول: أميل إليهنّ، وأتابعهنّ على ما يردن مني ويهوَين...قال ابن زيد، في قوله: {وَإلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أصْبُ إلَيْهِنّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ}، قال: إلا يكن منك أنت العون والمنعة، لا يكن مني ولا عندي.
وقوله: {وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ}، يقول: وأكن بصبوتي إليهنّ من الذين جهلوا حقك وخالفوا أمرك ونهيك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فيه دلالة أنه قد كان منهن من المراودة والدعاء إلى نفسها حين (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ). ألا ترى أنه قال في موضع آخر (قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه)؟ [الآية: 51]...
(وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ) يدل على أن قوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) إنما أراد به محبة الاختيار والإيثار في الدين لا محبة النفس واختيارها...
(وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) أي لا أحد يملك صرف كيدهن عني إن لم تصرفه أنت...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: أنه أراد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة وكنى عنها بخطاب الجمع إما تعظيماً لشأنها في الخطاب وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض.
الثاني: أنه أراد بذلك جماعة النسوة اللاتي قطعن أيديهن حين شاهدنه لاستحسانهن له واستمالتهن لقلبه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى عن يوسف أنه لما سمع وعيد المرأة له بالحبس والصغار إن لم يجبها إلى ما تريده، قال يارب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه من ركوب الفاحشة، وإنما جاز أن يقول السجن أحب إلي من ذلك، وهو لا يحب ما يدعونه إليه ولا يريده، ولا يريد السجن أيضا، لأنه إن أريد به المكان فذلك لا يراد، وإن أريد به المصدر، فهو معصية منهي عنها، فلا يجوز أن يريده لأمرين:
أحدهما: أن ذلك على وجه التقدير، ومعناه أني لو كنت مما أريد لكانت إرادتي لهذا أشد.
الثاني: أن المراد أن توطين نفسي على السجن أحب إلي. وقيل معناه أن السجن أسهل علي مما يدعونني إليه...
"إلا تصرف عني كيدهن" معناه ضرر كيدهن، لأن كيدهن قد وقع، والصرف نفي الشيء عن غيره بضده أو بأن لا يفعل، وصورته كصورة النهي إلا أن النهي مع الزجر لمن هو دونك، وليس كذلك الصرف...
"وأكن من الجاهلين" معناه. أكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل... والغرض فيه بيان أن صفة الجهل من أغلظ صفة الذم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الاختبار مقرونٌ بالاختيار؛ ولو تمنَّى العافية بدل ما كان يُدْعى إليه لعلَّه كان يُعَافَى، ولكنه لما قال: {الِسّجْنُ أَحَبُّ إلَّى مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ} طُولِبَ بِصِدْق ما قال. ويقال إن يوسف عليه السلام نَطَقَ من عين التوحيد حيث قال: {وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} فقد عَلمَ أن نجاته في أن يَصْرِفَ -سبحانه- البلاَءَ عنه لا بتكلُّفِه ولا بتَجنبِه.
ويقال لمَّا آثر يوسفُ -عليه السلام- لحوقَ المشقة في اللَّهِ على لِّذة نفسه آثره عَصْرُه حتى قيل له: {تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:91].
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وأكن من الجاهلين) هذا دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكب عن جهالة، وقيل معناه: وأكن من المذمومين كما يذم الإنسان بفعل ما يقدم عليه جاهلا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقال {يَدْعُونَنِي} على إسناد الدعوة إليهنّ جميعاً، لأنهنّ تنصحن له وزينّ له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال: ربِّ نزولُ السجن أحبّ إلي من ركوب المعصية...
فإن قلت: نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذة عظيمة، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة؟ قلت: كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله، وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظراً في مشتهى النفس ومكروهها.
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ} فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه.
{أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أمل إليهنّ. والصبوة: الميل إلى الهوى. ومنها: الصبا؛ لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها... {مِنَ الجاهلين} من الذين لا يعملون بما يعلمون، لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أو من السفهاء، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح...
اعلم أن المرأة لما قالت: {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين} وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها وإلا وقعت في السجن وفي الصغار. فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة:
أحدها: أن زليخا كانت في غاية الحسن.
والثاني: أنها كانت ذات مال وثروة، وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها.
والثالث: أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر، ومكر النساء في هذا الباب شديد.
والرابع: أنه عليه السلام كان خائفا من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه، فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها، فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شران، فآثر أحد الشرّين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة، لكن لِما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة، ولم يخطر له ببال...
، ولِما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله، والصبر على النوائب، وانتظار الفرج، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعياً له في تخليصه، آثره. ثم ناط العصمة بالله، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل: {قال} يهتف بمن فنى بشهوده عن كل مشهود، دافعاً عن نفسه ما ورد عليه من وسوسة الشيطان في أمر جمالها وأمر رئاستها ومالها، ومن مكر النسوة اللاتي نوّعن له القول في الترغيب والترهيب عالماً بأن القوة البشرية تضعف عن حمل مثل هذا إلا بتأييد عظيم، مسقطاً للأداة على عادة أهل القرب: {رب السجن} وهو محيط مانع من الاضطراب فيما خرج عنه {أحب إليّ} أي أقل بغضاً {مما يدعونني} أي هؤلاء النسوة كلهن {إليه} لما علم من سوء عاقبة المعصية بعد سرعة انقضاء اللذة، وهذه العبارة تدل على غاية البغض لموافقتها، فإن السجن لا يتصور حبه عادة، وإنما المعنى أنه لو كان يتصور الميل إليه كان ميلي إليه أكثر، لكنه لا يتصور الميل إليه لأنه شر محض، ومع ذلك فأنا أوثره على ما دعونني إليه، لأنه أخف الضررين، والحاصل أنه أطلق المحبة على ما يضادها في هذا السياق من البغض بدلالة الالتزام، فكأنه قيل: السجن أقل بغضاً إلى ما تدعونني إليه، وذلك هو ضد "أحب "الذي معناه أكثر حباً، ولكن حولت العبارة ليكون كدعوى الشيء مقروناً بالدليل، وذلك أنه لما فوضل في المحبة بين شيئين أحدهما مقطوع ببغضه، فُهم قطعاً أن المراد إنما هو أن بغض هذا البغيض دون بغض المفضول، فعلم قطعاً أن ذلك يظن حبه أبغض من هذا المقطوع ببغضه، وكذا كل ما فوضل بينهما في وصف يمنع من حمله على الحقيقة كون المفضل متحققاً بضده -والله الموفق؛ والدعاء: طلب الفعل من المدعو، وصيغته كصيغة الأمر إلا أن الدعاء لمن فوقك، والأمر لمن دونك {وإلا تصرف} أي أنت يا رب الآن وفيما يستقبل من الزمان، مجاوزاً {عني كيدهن} أي ما قد التبس من مكرهن وتدبيرهن الذي يردن به الخبث احتيالاً على الوصول إلى قصدهن خديعة وغروراً {أصب} أي أمل ميلاً عظيماً {إليهن} لما جبل الآدمي عليه من الميل النفساني إلى مثل ذلك، ومتى انخرق سياج صيانته بواحدة تبعها أمثالها، واتسع الخرق على الراقع، ولذلك قال: {وأكن} أي كونا هو كالجبلة {من الجاهلين} أي الغريقين في الجهل بارتكاب مثل أفعالهم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ولما كان هذا الإبراقُ والإرعادُ منها مظِنةً لسؤال سائل يقول: فما صنع يوسفُ حينئذ؟ قيل: {قَالَ} مناجياً لربه عزَّ سلطانُه {رَبّ السجن} الذي أوعَدَتْني بالإلقاء فيه وقرأ يعقوبُ بالفتح على المصدر {أَحَبُّ إِلَىَّ} أي آثَرُ عندي لأنه مشقةٌ قليلةٌ نافذةٌ إثرَها راحاتٌ جليلةٌ أبديةٌ {مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من مؤاتاتها التي تؤدي إلى الشقاء والعذابِ الأليم، وهذا الكلامُ منه عليه السلام مبنيٌّ على ما مر من انكشاف الحقائقِ لديه وبروزِ كلَ منها بصورتها اللائقةِ بها، فصيغةُ التفضيلِ ليست على بابها إذ ليس له شائبةُ محبةٍ لما دعتْه إليه، وإنما هو والسجنُ شران أهونُهما وأقربُهما إلى الإيثار السجنُ. والتعبيرُ عن الإيثار بالمحبة لحسم مادةِ طمعِها عن المساعدة خوفاً من الحبس والاقتصار على ذكر السجنِ من حيث إن الصَّغارَ من فروعه ومستتبعاتِه، وإسنادُ الدعوةِ إليهن جميعاً لأن النسوة رغّبْنه في مطاوعتها وخوَّفْنه من مخالفتها، وقيل: دعَوْنه إلى أنفسهن، وقيل: إنما ابتُلي عليه السلام بالسجن لقوله هذا، وكان الأولى به أن يسألَ الله تعالى العافية، ولذلك ردّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبرَ {وَإِلاَّ تَصْرِفْ} أي إن لم تصرف {عَنّى كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه لديّ بأن تُثبِّتَني على ما أنا عليه من العِصمة والعِفة {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أمِلْ إلى إجابتهن أو إلى أنفسهن على قضية الطبيعةِ وحكم القوةِ الشهوية، وهذا فزعٌ منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جرياً على سُنن الأنبياءِ والصالحين في قصر نيلِ الخيراتِ والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلبِ القوى والقدر عن أنفسهم، ومبالغةٌ في استدعاء لطفِه في صرف كيدِهن بإظهار أن لا طاقةَ له بالمدافعة كقول المستغيثِ: أدركْني وإلا هلكتُ، لا أنه يطلب الإجبارَ والإلجاءَ إلى العصمة والعفةِ وفي نفسه داعيةٌ تدعوه إلى هواهن...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} أي قال: أي ربي، الغالب على أمري، العالم بسري وجهري، إن الحبس والاعتقال في السجن مع المجرمين حيث شظف العيش أحب إلى نفسي وآثر عندي على ما يدعوني إليه هؤلاء النسوة من الاستمتاع بهن في ترف هذه القصور وزينتها، والاشتغال بحبهن عن حبك، وبقربهن عن قربك، وبمغازلتهن عن مناجاتك، وإنما يفسر ويشرح هذا بما يعلم من سياق القرآن، ومن طباع الرجال والنسوان، ومن التاريخ العام، والسنن الاجتماعية والأخلاق والعادات، وسيرة الصالحين والأنبياء دون حاجة إلى ما لا سند له ولا دليل عليه من الروايات ودسائس الإسرائيليات، ومنه أنه ليس في السجن إلا الاعتبار بأحكام الملوك وأعوانهم من الوزراء والقضاة على من يسخطون عليهم بحق أو بغير حق، مما يزيدني إيمانا بقضائك، وصبرا على بلائك، وشكرا لنعمائك، وعلما بشؤون خلقك، ويفتح لي باب الدعوة إلى معرفتك وتوحيدك، والاستعداد لإقامة الحق، ونصب ميزان العدل، فيما عسى أن تخولني من الأمر، إذا مكنت لي كما وعدتني في الأرض. هذا ما يتبادر إلى الفهم من توجيه التفضيل في الحب تدل عليه حالة يوسف وسابق قصته ولاحقها بغير تكلف ولا تحكم، كما هو دأبنا في كل ما نفسر به هذه القصة وغيرها، وهو يصدق في جعل اسم التفضيل هنا لا مفهوم له أو على غير بابه كما يقال، فليس المراد أن ما يدعونني إليه محبوب عندي والسجن أحب إلي منه، وإنما معناه أن هذين الأمرين إذا تعارضا وكان لا بد من أحدهما فالسجن آثر وأولى بالترجيح لأن ما فيه من المشقة له فائدة عاجلة، وعاقبة صالحة، وأما مجاهدة هؤلاء النسوة مع المكث معهن، فهو أشق على المؤمن العارف بربه، وليس له من الفائدة والعاقبة ما للسجن، فهو أي اسم التفضيل من قبيل قول المحدثين في بعض الأحاديث الضعيفة هو أصم ما في هذا الباب، يعنون أقوى ما فيه وإن كانت كلها غير صحيحة، بل هو كقول الآتي {أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [يوسف: 39]. وقيل يجوز أن يكون المراد من التفضيل ترجيح الأحب بمقتضى الإيمان وحكم الشرع، على المحبوب بمقتضى الغريزة وداعية الطبع، فإن الأنبياء والصلحاء كسائر البشر يحبون النساء ويشتهون الاستمتاع بهن، ولكنهم يكرهون أن يكون من غير الوجه المشروع، وشره الاعتداء على نساء الناس، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء (وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال (أرأيتم إذا وضعها في حرام كان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم من حديث أبي ذر. وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله حيث لا ظل إلا ظله في موقف القيامة (ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب إلى نفسها فقال إني أخاف الله) وهو حديث متفق عليه. وذلك بأن للمرأة ذات المنصب سلطانا على قلب الرجل فوق سلطان الوضيعة في طبقتها وإن كانت جميلة الصورة فيثقل على طبعه وتضعف إرادته أن يرد طلبها فكيف بها إذا جمعت بين سلطان الجمال وسلطان المنصب ثم ذلت له ودعته إلى نفسها؟ [فإن قيل] إن المراد إذا ابتذلت نفسها فبذلتها للرجل بذلا، وتحول دلها عليه مهانة وذلا، فإنه يحتقرها، وتتحول رغبته فيها رغبة عنها وكلما تمنعت عليه ازداد حبا لها وشوقا إليها... [قلنا] نعم إن هذا مقتضى الطبع السليم كما إن رد ذات الجمال والنصب من ضعف الرجل أمام المرأة، ولكن المراودة قلما تبلغ من هؤلاء حد الوقاحة في الصراحة فتكون منفرة، وقد علمت أنها احتيال ومراوغة لتحويل الإرادة، وأن لنساء الأكابر في الأمصار التي أفسدتها الحضارة كيدا فيها وخداعا، وإن لأستاذهن الشيطان مسالك من إغوائهن والإغواء بهن يخر أقوى الرجال تجاهها صريعا، ولكن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان، وعناية ربهم بهم تغلب غوايته ومكر النسوان، وقد لجأ يوسف عليه السلام إلى هذه العناية، إذا عرض له كيد بضع نسوة من ذوات الجمال والمنصب لا بضاعة لهن إلا أبضاعهن، فقال {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن} يعني إن لم تحول عني ما ينصبنه لي من شراك الكيد، ويمددنه من شباك الصيد، لم أسلم من الصبوة إليهن، وهي الميل إلى موافقتهن على أهوائهن، يقال صبا يصبو صبوا وصبوة إذا مال إلى اللهو وما يطيب للنفس من اتباع الهوى، ومنه ريح الصبا وهي التي تهب على بلاد العرب من مشرق الشمس، لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها... {وأكن من الجاهلين} أي من صنف السفهاء الذين تستخفهم أهواء النفس فيعملون السوء بجهالة وهي ما يخالف مقتضى الحلم والأناة، أو مقتضى العلم والحكمة، فإن من يعيش بين أمثال هؤلاء النسوة الماكرات المترفات مثلي لا مفر له من الجهل إلا بعصمتك وحفظك بما هو فوق الأسباب المعتادة، وهذا نص صريح منه عليه السلام بأنه ما صبا إليهن، ولا أحب أن يعيش معهن، وإنما بين مقتضى الاستهداء لكيد هؤلاء النساء، وسأل ربه أن يديم له ما عوده في قوله {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} [يوسف: 24]...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أن السجن أحب إليّ. وفضّل السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة على ما فيه منا للذة ولكن كرهه لفعل الحرام فضل عنده مقاساة السجن. فلما علم أنه لا مَحيص من أحد الأمرين صار السجن محبوباً إليه باعتبار أنّه يخلصه من الوقوع في الحرام فهي محبة ناشئة عن ملاءمة الفكر، كمحبة الشجاع الحرب. فالإخبار بأن السجن أحبُّ إليه مِن الاستمتاع بالمرأة مستعمل في إنشاء الرضى بالسجن في مرضاة الله تعالى والتباعد عن محارمه، إذ لا فائدة في إخبار من يعلم ما في نفسه فاسم التفضيل على حقيقته ولا داعي إلى تأويله بمسلوب المفاضلة. وعبّر عما عرضته المرأة بالموصولية لما في الصلة من الإيماء إلى كون المطلوب حالة هي مظنة الطواعية، لأن تمالئ الناس على طلب الشيء من شأنه أن يوطن نفس المطلوب للفعل، فأظهر أن تمالئهن على طلبهن منه امتثالَ أمْر المرأة لم يَفُلّ من صارم عزمه على الممانعة، وجعل ذلك تمهيداً لسؤال العصمة من الوقوع في شَرك كيدهن، فانتقل من ذكر الرضى بوعيدها إلى سؤال العصمة من كيدها. وأسند فعل {يدعونني} إلى نون النسوة، فالواو الذي فيه هو حرف أصلي وليست واو الجماعة، والنون ليست نون رفع لأنه مبني لاتصاله بنون النسوة، ووزنه يفعُلْنَ. وأسند الفعل إلى ضمير جمع النساء مع أنّ التي دعته امرأة واحدة، إما لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء فيكون على وزان جمع الضمير في {كيدهن}، وإما لأنّ النسوة اللاّتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمَالأن على لوم يوسف عليه السّلام وتحريضه على إجابة الداعية، وتحذيره من وعيدها بالسجن. وعلى وزان هذا يكون القول في جمع الضمير في {كيدهن} [سورة يوسف: 28] أي كيد صنف النساء، مثل قول العزيز {إنّ كيدكنّ عظيم}، أي كيد هؤلاء النسوة. وجملة {وإلاّ تصرف عني كيدهن} خبر مستعمل في التخوّف والتوقع التجاء إلى الله وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحَول والقوة والخشية من تقلب القلب ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام. فالخبر مستعمل في الدعاء، ولذلك فرع عنه جملة {فاستجاب له ربّه}. ومعنى {أصبُ} أمِلْ. والصبو: الميل إلى المحبوب. والجاهلون: سفهاء الأحلام، فالجهل هنا مقابِل الحلم. والقول في أن مبالغة {أكن من الجاهلين} أكثرُ من أكن جاهلاً كالقول في {وليكوناً من الصاغرين} [سورة يوسف: 32]...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من ارتكاب الفاحشة، والخضوع لتأثير الإغراء، لأن السجن مع رضاك، أفضل عندي، وأحب إليّ، من الحرية واللذة والمتعة مع معصيتك، لأن في رضاك سعادة الروح في الدنيا والآخرة، وفي غضبك، شقاء الروح في الدنيا والآخرة. إنني أقف بين سعادة الأبد في خط الطاعة مع ظلام السجن، وبين شقاء الأبد في حركة المعصية، في نور الحرية، فأرى في السجن السعادة، وفي الحرية الشقاء، فَأَعِنِّي يا رب على بلوغ رضاك، وقوِّ إرادتي لتقف في ساحة محبتك، وامنعني من أن أقارف معصيتك.
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} بما تمنحني إياه من قوّة الإيمان والإرادة، وبما تبعدني به عن أجواء الإغراء، {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} وأميل إلى تحقيق رغباتهن التي قد تستجيب لها رغبتي، {وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ} الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة، لقاء لذة فانية لا تمثل شيئاً في عالم السعادة والخلود. بين تكبل الجسد وحرية الروح وهكذا تتمثل، في هذا الموقف النفسي الإيماني الروحي المتمرد على أشد أنواع الإغراء، أروع مواقف الرفض للانحراف، من أجل أن يستقيم للمؤمن خطّه، ويتعمّق إيمانه، ويستمر في حركته الصاعدة إلى الأعلى. إنه الموقف الذي يوازن فيه الإنسان بين حرية جسده في التحرك في خط الشيطان، وبين حرية روحه في التحرك في خط الله. لقد فكر يوسف أن الاستسلام لرغبة امرأة العزيز وصويحباتها في ممارسة الفاحشة معهن يجعله عبداً لهن، وبذلك يفقد إنسانيته فكراً وشعوراً وحركة إيمان، وربما كان يفكّر أن عبوديته لامرأة العزيز التي كان يعيشها لم تكن مشكلة كبيرة له، لأنها كانت تمثل حجزاً لحريته في حركة الحياة العادّية، من تنقلات وتوقيت لليقظة والنوم، وعمل على خدمتها وخدمة زوجها ولكن ذلك كله لم يكن ليقترب من عمق المضمون الروحي لإنسانيته، ببعدها الأخلاقي والسلوكي التزاماً بأوامر الله ونواهيه. أما الاستسلام لما يردنه له من شهوات، فيمثل السقوط في الهاوية حيث يفقد إمكانية رفض ما يرفضه أخلاقياً وروحيّاً، وإمكانية قبول ما يؤمن به من خلال مبادئه ورسالته، وبهذا تتحقق عبوديته بأقسى دلالاتها في نفسه، فلا تبقى حالة العبودية من الخارج بل تتحول إلى عبودية الإرادة والقرار، حيث لا يملك أن يقرّر بحرّيةٍ، ولا يستطيع أن يوجّه إرادته باستقلال، ولهذا اختار السجن الذي تتكبل فيه حركة الجسد لتتنفس روحه هواء الحرية. وهكذا انطلق الإنسان الحر في شخصه، ليولد مستقبلاً جديداً له يحقق من خلاله الحرّية لأمته وللناس أجمعين. كيف نستوحي الموقف؟ وهكذا نريد استيحاء هذا الموقف، في كثير من المواقف التي يواجه فيها المؤمنون الضغوط القاسية: الخيار بين السجن والانحراف، أو بين الاضطهاد والخيانة، حيث يضطرون للمفاضلة في كثير من الحالات بين قضية الرسالة، وقضية الذات، فيختار البعض حريته تحت تأثير تبريرات تصور له التراجع كما لو أنه حالة اضطرار تحلّ فيه المعصية وتسوّغ الانحراف، لتبني المنطق الفردي في تقييم الأمور، بعيداً عن المنطق الجماعي الذي يربط بين حركة الفرد، وبين النتائج السلبية أو الإيجابية على قضية الأمة والرسالة. ولعلَّ يوسف قد أطلق هذا النداء الحي من أعماق روحه عندما وجد إرادته في موقع يتهددها بالسقوط، فصرخ في ابتهال المؤمن أمام ربّه، ليستعين بالله استمداداً للقوّة الكفيلة بكبح المشاعر لمصلحة الإيمان. وهذا ما تفرضه حاجة الرسالة إلى المواقف الثابتة على خط التضحية والإيمان، بدلاً من الكلمات الاستعراضية التي لا تحقق سوى الضوضاء التي تضيع في الهواء. ولعله من الضروري، لبناء هذه الشخصية، التأكيد على تشكيل خطّة تربويّة متكاملة، تشمل جانب الفكر والروح والشعور، من خلال الكلمة الموحية، والجوّ الروحي، والقدوة الحسنة، فإن تأسيس عمق الإحساس الداخلي بالرفض والقبول أمام ما يمكن أن يتعرض له المسلم سلباً أو إيجاباً، يجعل من عملية الرفض والقبول تلك عملاً روحيّاً يراقب فيه ربّه، في روحانية وصفاء، ويتمرّد معه، على كل النوازع الذاتية والعوامل الخارجية، التي تحاول الانحراف به عن الخط المستقيم، فيعيش حالة السموّ في أخلاقيته بالمستوى الذي يجعله منسجماً مع إيمانه ورساليته نظرياً وعملياً. وهذا ما يحفظ لنا المسيرة الإسلامية التي يواجه فيها الإسلام كل تحديات الكفر والضلال التي تضغط على الفكر والشعور والحركة، مما يفرض على المؤمنين الحصول على القوّة الروحية التي تدفعهم إلى التضحية على كل الأصعدة، والانطلاق من زوايا الحاضر نحو المستقبل الرحب، الذي تصنعه الآلام الكبيرة لخدمة القضايا الكبيرة...