قوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } يعني إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول من أعبده بذلك ، ولكن لا ولد له . وقيل : العابدين بمعنى الآنفين ، يعني أول الجاحدين والمنكرين لما قلتم . ويقال : معناه : أنا أول من غضب للرحمن أن يقال له ولد ، يقال : عبد يعبد إذا أنف وغضب عبدا . وقال قوم : قل ما يقال : عبد فهو عابد ، إنما يقال : عبد فهو عبد .
{ 81-83 } { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }
أي : قل يا أيها الرسول الكريم ، للذين جعلوا للّه ولدا ، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له كفوا أحد . { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } لذلك الولد ، لأنه جزء من والده ، وأنا أول الخلق انقيادا للأمور المحبوبة للّه ، ولكني أول المنكرين لذلك ، وأشدهم له نفيا ، فعلم بذلك بطلانه ، فهذا احتجاج عظيم عند من عرف أحوال الرسل ، وأنه إذا علم أنهم أكمل الخلق ، وأن كل خير فهم أول الناس سبقا إليه وتكميلا له ، وكل شر فهم أول الناس تركا له وإنكارا له وبعدا منه ، فلو كان على هذا للرحمن ولد وهو الحق ، لكان محمد بن عبد اللّه ، أفضل الرسل أول من عبده ، ولم يسبقه إليه المشركون .
ويحتمل أن معنى الآية : لو كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين للّه ، ومن عبادتي للّه ، إثبات ما أثبته ، ونفي ما نفاه ، فهذا من العبادة القولية الاعتقادية ، ويلزم من هذا ، لو كان حقا ، لكنت أول مثبت له ، فعلم بذلك بطلان دعوى المشركين وفسادها ، عقلا ونقلا .
وبعد هذا التهديد والوعيد لأولئك الكافرين . . تأخذ السورة الكريمة فى تلقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحجة التى يجابههم بها ، وفى تسليته عما أصابه منهم ، وفى الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله من تمجيد وتعظيم ، ثم تختتم بهذا النداء الخاشع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخالقه - عز وجل - فتقول : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن . . . سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .
و { إِن } فى قوله - تعالى - : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ . . . } يرى بعضهم أنها شرطية ، وأن الكلام مسوق على سبيل الفرض والتقدير .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - ردا على هؤلاء الكافرين الذين نسبوا الولد إلى الله - تعالى - ، قل لهم : إن كان للرحمن ولد - على سبيل الفرض والتقدير - فأنا أول العابدين لهذا الولد ، ولكن هذا الفرض قد ثبتت استحالته يقينا لا شك معه ، فما أدى إليه ، وما ترتب عليه من نسبتكم الولد إلى الله - تعالى - محال - أيضا - وإذاً فأنا لا أبد إلا الله - تعالى - وحده ، وأنزهه - سبحانه - عن الولد أو الشريك .
ومن الآيات الكريمة التى نفت عن الله - عز وجل - الولد قوله - تعالى - : { بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقوله - عز وجل - : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } ومن المفسرين الذين رجحوا أن تكون { إِن } هنا شرطية ، الإِمام ابن جرير ، فقد قال بعض أن ذكر بعض الأقوال فى ذلك : وأولى الأقوال عندنا بالصواب فى ذلك ، قول من قال : معنى { إِن } الشرط الذى يقتضى الجزاء . ومعنى الكلام : قل يا محمد لمشركى قومك ، الزاعمين أن الملائكة بنات الله ، إن كان للرحمن ولد - على سبيل الفرض - فأنا أول العابدين . ولكنه لا ولد له فأنا أعبده لأنه لا ينبغى أن يكون له ولد .
وإذا وجه الكلام إلى ما قلنا من هذا الوجه . لم يكن على وجه الشك ولكن على الإِلطاف فى الكلام ، وحسن الخطاب ، كما قال - جل ثناؤه - { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقال الإِمام ابن كثير : يقول - تعالى - : { قُلْ } يا محمد { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } .
أى : لو فرض هذا لعبدته على ذلك ، لأنى عبد من عبيده ، مطيع لجميع ما أمرنى به ، ليس عندى استكبار ولا إباء عن عبادته ، فلو فرض هذا كان هذا ، ولكن هذا ممتنع فى حقه - تعالى - ، والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز - أيضا - كما قال - تعالى - : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } وقال صاحب الكشاف - رحمه الله - : قوله - تعالى - : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ . . } وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح .
. { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أى : فأنا أول من يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته . .
وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة فى نفى الولد ، والإِطناب فيه . . . وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد ، وهى محالة فى نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها . .
ويرى بعض العلماء أن { إِن } فى الآية نافية بمعنى ما ، فيكون المعنى : قل - أيها الرسول - لهؤلاء الكافرين : ما كان للرحمن من ولد ، وما صح وما أمكن ذلك ، فهو مستحيل عقلا وشرعا . . وما دام الأمر كذلك ، فأنا أول العابدين لله - تعالى - المنزهين له عن الولد والشريك وغيرهما .
قال الإِمام القرطبى : قوله - تعالى - : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ . . . } اختلف فى معناه . فقال ابن عباس والحسن والسدى : المعنى : ما كان للرحمن ولد . { إِن } بمعنى ما ويكون الكلام على هذا تاما ، ثم تبتدى بقوله - تعالى - { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } .
وقيل المعنى : قل يا محمد ، إن ثبت له ولد ، فأنا أول من يعبد ولده ، ولكن يستحيل أن يكون له ولد ، وهو كما تقول لمن تناظره : إن ثبت ما قلت بالدليل ، فأنا أول من يعتقده ، وهذا مبالغة فى الاستبعاد ، أى : لا سبيل إلى اعتقاده . .
و { إِن } على هذا للشرط ، وهو الأجود .
وقيل إن معنى { العابدين } الآنفين . وقال بعض العلماء لو كان كذلك لكان العبدين . . بغير ألف ، يقال : عبد - بكسر الباء - يعبد عبدا - بفتحها - إذا أنف وغضب فهو عبد ، والاسم العبدة ، مثل الآنفة . .
ويبدو لنا أن الرأيين يؤديان إلى نفى أن يكون لله - تعالى - ولد وإن كان الرأى الأول - وهو أنّ حرف { إِن } للشرط - هو المتبادر من معنى الآية وعليه جمهور المفسرين .
{ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } منكم فإن النبي صلى الله عليه وسلم يكون أعلم بالله وبما يصح له وبما لا يصح له ، وأولى بتعظيم ما يوجب تعظيمه ومن تعظيم الوالد تعظيم ولده ، ولا يلزم من ذلك صحة كينونة الولد وعبادته له إذ المحال قد يستلزم المحال بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه كقوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } غير أن { لو } ثم مشعرة بانتفاء الطرفين ، و{ إن } ههنا لا تشعر به ولا بنقيضه فإنها لمجرد الشريطة بل الانتفاء معلوم لانتفاء اللازم الدال على انتفاء ملزومه ، والدلالة على أن إنكاره الولد ليس لعناد ومراء بل لو كان لكان أولى الناس بالاعتراف به . وقيل معناه إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله الموحدين له أو الآنفين منه ، أو من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتد أنفه ، أو ما كان له ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة . وقرأ حمزة والكسائي { ولد } بالضم وسكون اللام .
واختلف المفسرون في قوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين } فقالت فرقة : العابدون : هو من العبادة ، ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك ، فقال قتادة والسدي والطبري ، المعنى :
{ قل } لهم { إن كان للرحمن ولد } كما تقولون فأنا أول من يعبده على ذلك ، ولكن ليس به شيء من ذلك تعالى وجل . قال الطبري : فهذا الطاف في الخطاب ، ونحوه قوله : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] .
قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : في مخاطبة الكفار : { أين شركائي } [ النحل : 27 ، القصص : 62-72 ، فصلت : 47 ] .
وقال مجاهد المعنى : إن كان لله ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم . وقال قتادة أيضاً وزهير بن محمد وابن زيد : { إن } نافية بمعنى : ما ، فكأنه قال : ما كان للرحمن ولد . وهنا هو الوقف على هذا التأويل ، ثم يبتدئ قوله : { فأنا أول العابدين } قاله أبو حاتم . وقالت فرقة : العابدون في الآية : من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء ، ومنه قول الشاعر :
متى يشأ ذو الود يصرم خليله . . . ويعبد عليه لا محالة ظالما
ومنه حديث عثمان وعلي في المرجومة حين قال علي : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } [ الأحقاف : 15 ] قال : فما عبد عثمان أن بعث إليها لترد . والمعنى : إن جعلتم للرحمن ولداً وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك .
وقرأ الجمهور : «وَلَد » بفتح الواو واللام . وقرأ ابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش : «وُلْد » بضم الواو وسكون اللام .
وقرأ أبو عبد الرحمن : «فأنا أول العابدين » وهي على هذا المعنى ، قال أبو حاتم : العبد بكسر الباء : الشديد الغضب . وقال أبو عبيدة معناه : أول الجاحدين ، والعرب تقول : عبدني حقي ، أي جحدني .