اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٞ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَٰبِدِينَ} (81)

قوله تعالى : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } . قوله { إِن كَانَ للرحمن } قيل شرطية على بابها ، واختلف في تأويله ، فقيل : إن صح ذلك فأنا أول من يعبده ، لكنه لم يصح ألبتة بالدليل القاطع ، وذلك أنه علق العبادة بكَيْنُونَة الولد ، وهي محالٌ في نفسها ، فكان المعلق بها محالاً مثلها . فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها . ذكره الزمخشري{[50099]} .

وقيل : إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحِّدِين لله ، المكذبين لهذا القول{[50100]} .

واعلم أن هذا التأويل فيه نظر ، سواء أثبتوا لله ولداً ، أو لم يُثْبِتُوا له ، فالرسول منكر لذلك الولد ، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكرا لذلك الولد ، فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثراً في كون الرسول منكراً للولد . وهذا التأويل قاله الواحدي{[50101]} .

وقيل : العابدين بمعنى الأَنِفِين ، من عَبِدَ يَعْبَدُ إذَا اشْتَدَّ أنفه فهو عَبدٌ وعَابِدٌ{[50102]} ، ويؤيده قراءة السُّلَمِيَّ واليَمَانِيِّ : العَبِدِينَ دون ألف{[50103]} . وحكى الخليل{[50104]} قراءة غريبة وهي العَبْدين بسكون الباء وهي تخفيف قراءة السلمي ، فأصلها بالكسر .

قال ابن عرفة : يقال : عَبِدَ بالكسر يَعْبَدُ بالفتح فهو عَبِدٌ . وقلَّ ما يقال : عابد والقرآن لا يجيء على القليل أو الشاذ{[50105]} يعني تخريج من قال : إن العابدين بمعنى الأَنِفِينَ{[50106]} لا يصح ، ثم قال كقول مجاهد{[50107]} . وقال الفرزدق :

4420 أُولَئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهمْ *** وَأَعْبَدُ أَنْ أَهْجُو كُلَيْباً بِدَارِم{[50108]}

وقال آخر :

4421 مَتَى مَا يَشَأ ذُو الوُدِّ يَصْرِمْ خَلِيلَهُ *** وَيَعْبَدْ عَلَيْهِ لاَ مَحَالَةَ ظَالِمَا{[50109]}

قال ابن الخطيب : وهذا التعليق أيضاً فاسد ؛ لأن هذه الأنفة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل{[50110]} .

وقال أبو عبيدة : معناه الجاحدين ، يقال : عَبَدَنِي حَقِّي{[50111]} ، أي جَحَدَنِيهِ . وقال أبو حاتم : العَبِدُ - بكسر الباء - الشديدُ الغَضَب{[50112]} ، وهو معنى حسن ، أي إن كان له ولد على زعمكم فأنا أول من يغضب لذلك .

وقيل : «إنْ » نافية ؛ أي ما كان ثم أخبر بقوله : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أي الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له وتكون الفاء سببية{[50113]} . ومنع مكي أن تكون نافية . قال : «لأنه يوهم أنك إنما نفيت عن الله الولد فيما مضى دون ما هو آت ، وهذا محال »{[50114]} . ورد عليه بأن «كَانَ » قد تدل على الدوام . كقوله : «وَكَانَ اللهُ غَفَوراً رَحِيماً » إلى ما لا يحصى{[50115]} .

والصحيح من مذاهب النحاة أنها لا تدل على الانقطاع والقائل بذلك يقول ما لم تكن قرينة كالآيات المذكورة{[50116]} .

وروي عن عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ){[50117]} أن المعنى ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين الشاهدين له بذلك ، جعل «إنْ » بمعنى الجَحْد ، وقال السدي معناه : ولو كان للرحمن ولد فأنا أول من عبده بذلك ولكن لا ولد له{[50118]} .

وتقدم الخلاف في قراءتي «وَلَد » و«ولد » في مَرْيَمَ{[50119]} .


[50099]:الكشاف 3/497 وانظر الدر المصون 4/802.
[50100]:وهذا رأي الواحدي فيما نقله الرازي في تفسيره عنه قال: "والأقوى أن يقال: المعنى إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحدين لله المكذبين لقولكم". انظر الرازي 27/231.
[50101]:المرجع السابق.
[50102]:الكشاف 3/497، وغريب القرآن للسجستاني 225، والرازي السابق.
[50103]:نقلها ابن جني في المحتسب 2/257 قال: معناه والله أعلم أول الآنفين يقال: عبدت من الأمر أعبد عبدا أي أنفت. حكاه أبو عبيدة في المجاز 2/207 وقد أنكر هذه القراءة الإمام أبو منصور الأزهري في التهذيب 2/238.
[50104]:فيما نقله عنه أبو حيان في البحر المحيط 8/28 ولم أجدها في معجمه العين ولا فيما نقلت عنه.
[50105]:البحر المحيط 8/28 والقرطبي 16/120.
[50106]:وهو ابن عباس انظر المحتسب 2/258.
[50107]:يعني أول من عبده وحده على أنه لا ولد له انظر القرطبي المرجع السابق.
[50108]:ورد البيت بروايات مختلفة فالرواية الأعلى هي رواية أبي حيان في البحر 8/28 والدر المصون 4/803 وهو من الطويل له وفي رواية القرطبي: أولئك أجلاس، و: أولئك ناس إن هجوني هجوتهم... وأعبد أن يهجى كليب، وفي المجاز: أولئك قوم إن هجوني وأعبد أن أهجو عبيدا. ورواية اللسان كالمجاز وفي المحتسب تهجى كليب والبيت على اختلاف تلك الروايات ليس بالديوان بالمرة. وشاهده: أن أعبد بمعنى آنف وانظر المجاز 2/206 والقرطبي 16/120 والدر المصون 4/803 واللسان (عبد) والمحتسب 2/258 والمفضليات 502.
[50109]:من الطويل للمرقش الأصغر، من قصيدة له رواه صاحب المفضليات 502 وانظر الدر المصون 4/804، والطبري 25/61. والشاهد: يعبد فإن معناها يغضب.
[50110]:التفسير الكبير له 27/231.
[50111]:قال: "أي الكافرين بذلك، والجاحدين لما قلتم وهي عبد يعبد عبدا" المجاز 2/207.
[50112]:البحر المحيط 8/28.
[50113]:نقل هذا القول وأقوالا أخر ابن جني في المحتسب 2/258 والقرطبي في الجامع 16/1219 عن الحسن والسدي وابن عباس وانظر البيان 2/355.
[50114]:لم أعثر لمكي على هذا القول الذي أتى به المؤلف الذي نقله عن أبي حيان، فقد جعل مكي "ما" نافية، والعابدين من العبادة وإنما هذا الذي نقله المؤلف للطبري انظر المشكل 2/284 وجامع البيان 25/61.
[50115]:البحر 8/38 و39.
[50116]:انظر الدر المصون 4/804.
[50117]:زيادة من أ.
[50118]:انظر القرطبي 16/119.
[50119]:يقصد قوله: "ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه" 35 منها فقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح اللام والواو إلا في نوح فقرأها بالضم، ونافع وعاصم وابن عامر بالفتح مفردا كأسد في كل القرآن وحمزة والكسائي بضم الواو وسكون اللام جمعا كأسد، وانظر في هذا السبعة لابن مجاهد 214 وإبراز المعاني 585 والإتحاف 301.