فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُلۡ إِن كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ وَلَدٞ فَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡعَٰبِدِينَ} (81)

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار قولاً يلزمهم به الحجة ، ويقطع ما يوردونه من الشبهة ، فقال : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم ، فأنا أوّل من عبد الله وحده ، لأن من عبد الله وحده ، فقد دفع أن يكون له ولد ، كذا قال ابن قتيبة . وقال الحسن والسدّي : إن المعنى ما كان للرحمن ولد ، ويكون قوله : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } ابتداء كلام ، وقيل المعنى : قل يا محمد إن ثبت لله ولد ، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته ، ولكنه يستحيل أن يكون له ولد . وفيه نفي للولد على أبلغ وجه ، وأتمّ عبارة ، وأحسن أسلوب ، وهذا هو الظاهر من النظم القرآني ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : { وَإِنَّا وَإِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ في ضلال مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] ، ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره : إن ثبت ما تقوله بالدليل ، فأنا أوّل من يعتقده ، ويقول به ، فتكون { إن } في { إِن كَانَ } شرطية ، ورجح هذا ابن جرير وغيره . وقيل : معنى العابدين : الآنفين من العبادة ، وهو تكلف لا ملجأ إليه ، ولكن قرأ أبو عبد الرحمن اليماني : " لعبدين " بغير ألف ، يقال : عبد يعبد عبداً بالتحريك : إذا أنف وغضب ، فهو : عبد ، والاسم العبدة مثل الأنفة ، ولعل الحامل لمن قرأ هذه القراءة الشاذة البعيدة هو استبعاد معنى : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } ، وليس بمستبعد ولا مستنكر . وقد حكى الجوهري عن أبي عمرو في قوله : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أنه من الأنف والغضب . وحكاه الماوردي عن الكسائي والقتيبي ، وبه قال الفراء . وكذا قال ابن الأعرابي : إن معنى العابدين : الغضاب الآنفين . وقال أبو عبيدة : معناه : الجاحدين ، وحكى : عبدني حقي ، أي : جحدني ، وقد أنشدوا على هذا المعنى الذي قالوه قول الفرزدق :

أولئك أحلاسي فجئني بمثلهم *** وأعبد أن أهجو كليباً بدارم

وقوله أيضاً :

أولاك أناس لو هجوني هجوتهم *** وأعبد أن يهجى كليب بدارم

ولا شك أن عبد ، وأعبد بمعنى : أنف أو غضب ثابت في لغة العرب ، وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة ، ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجأ إليه ، ومن التعسف الواضح . وقد ردّ ابن عرفة ما قالوه فقال : إنما يقال عبد يعبد ، فهو عبد ، وقلّ ما يقال : عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ، ولا الشاذ . قرأ الجمهور : { ولد } بالإفراد ، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " ولد " بضم الواو ، وسكون اللام .

/خ89